* ... تشير حصيلة المواجهات المستمرة بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الفصائل المختلفة للنخبة التي تعاقبت علي حكم مصر منذ الربع الثاني منذ القرن الماضي, إلي عدة أمور أظن أنه آن أوان استخلاص الدروس المستفادة منها: الأمر الأول: أن جماعة الإخوان ولدت لتبقي ولم يعد بمقدور أحد استئصالها من تربة الحياة السياسية والاجتماعية المصرية التي أصبحت متجذرة فيها. الأمر الثاني: أن الضربات المتلاحقة لم تزد الجماعة إلا إصرارا وقوة وأن حظر وجودها وتجريمها ودفعها أحيانا للعمل تحت الأرض يجعلها أكثر تطرفا وانكفاء علي نفسها وأقل قدرة علي التواصل والحوار مع الآخرين. الأمر الثالث: أن التضييق علي بقية الفصائل السياسية الأخري غير المشاركة في الحكم يصب في نهاية المطاف لصالح جماعة الإخوان وحدها، علي عكس ما قد يبدو ظاهرا فوق السطح, ويجعل منها البديل الوحيد للنظام القائم، خصوصا عندما لا يكون لدي هذا الأخير مشروع وطني تؤيده وتلتف حوله الطبقة الوسطي، كما هو الحال في المرحلة التي تمر بها مصر حاليا. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة علي نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة كي تتبين لنا هذه الحقيقة بوضوح تام، فقد أسفرت هذه الانتخابات, والتي لم يشارك فيها سوي 23% من إجمالي الناخبين المسجلين في القوائم، عن حالة فراغ سياسي مخيف بسبب الاستقطاب الحادث بين جماعة الإخوان من ناحية والحزب الحاكم من ناحية أخري، ويعد هذا النوع من الاستقطاب خطراً جدا لأن أيا من طرفيه لا يشكل حزباً سياسياً بالمعني الدقيق، وبالتالي لا يمكن أن يكون قادراً علي طرح مشروع وطني بالمعني السياسي أو الاجتماعي. إن القوة الظاهرة للحزب الحاكم تعكس قوة الجهاز الأمني والإداري للدولة بأكثر مما تعكس حجم التأييد الجماهيري لبرنامجه السياسي, والقوة النسبية الظاهرة لجماعة الإخوان تعكس قوة الدين في المجتمع بأكثر مما تعكس حجم التأييد الجماهيري للبرنامج السياسي لهذه الجماعة، وبين نخبة حاكمة تحاول فرض هيمنتها المنفردة بعنف أجهزة القمع وجماعة معارضة تتصدي لمقاومة الهيمنة بقيم الدين توجد حالة فراغ سياسي مخيفة تحول دون تمكين الأغلبية الصامتة, والتي تمثل ثلاثة أرباع الناخبين من تنظيم صفوفها والنزول إلي ساحة العمل السياسي. الحزب الوطني يحتاج إلي تضخيم خطر الإخوان للتهرب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي ولتكريس احتكاره للسلطة والثروة، والقمع الواقع علي الإخوان يحولهم في ظل الفراغ السياسي إلي ضحايا وبديل وحيد محتمل للنظام القائم، غير أن هذا البديل لن يأتي بالطريق السلمي وإنما في نهاية مرحلة من الاضطراب والفوضي يبدو أن النظام الحالي يسوقنا إليها حتماً. لست من الذين يعتقدون أن جماعة الإخوان المسلمين تشكل بذاتها خطرا علي الوحدة الوطنية أو عقبة أمام إطلاق مشروع للتحديث والنهضة في مصر، الخطر يكمن في استئثار أي طرف وانفراده بالسلطة، بما في ذلك جماعة الإخوان نفسها. ويقتضي الإنصاف مني أن أقول إن حواراتي المتواصلة مع شخصيات إخوانية مسؤولة ولدت لدي إحساساً بأن المشكلة لا تكمن في جماعة الإخوان المسلمين بقدر ما تمكن في النظام السياسي القائم، فهذا النظام لا يرغب في قيام أي أحزاب سياسية تتمتع بقواعد شعبية حقيقية سواء كانت مرجعيتها الفكرية إسلامية أو مدنية، الدليل علي ذلك أن أحزاباً مثل الوسط والكرامة تناضل في دهاليز القضاء منذ عشر سنوات للحصول علي رخصة رسمية تسمح لها بمباشرة النشاط، فلماذا نطالب الجماعة بالسير علي طريق يعرف الجميع أنه مسدود ابتداء، غير أن هذه الإجابة لا تعفي المجتمع المدني من المسؤولية، فقد بات لزاماً علي قوي المجتمع المدني أن تبحث عن صيغة مبتكرة تسمح بتبديد الشكوك بين الإخوان والقوي الراغبة في التحول الديمقراطي، فإن لم ننجح جميعا في تبديد هذه الشكوك المتبادلة بين الإخوان والقوي السياسية الراغبة في التغيير لا أمل في بناء نظام ديمقراطي حقيقي بديل، وعلينا أن نجلس القرفصاء في انتظار الكارثة القادمة . -----------------