ودعت الجالية المسلمة في الدانمرك, إمامها الأول , وقائدها الروحي إلى مثواه الأخير , فضيلة الشيخ الداعية الكبير أحمد أبو اللبن رحمه الله , عن عمر ناهز الستين سنة قضاها داعيا إلى الله سبحانه وتعالى مدافعا عن دينه ووطنه السليب فلسطين, ومنافحا عن حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام , وقد ظهر ذلك جليا في أزمة الرسومات المسيئة , وشهد العالم بأجمع , كيف تعامل شيخنا مع الحادثة, فتصرف بشجاعة فائقة, لم يهادن ويجامل على حساب عرض رسول الله صلى عليه وآله وصحبه وسلم, فكان يجوب الدانمرك طولا وعرضا يصدع بالحق لايخشى في الله لومة لائم . عرفه كل من التقاه بدثامة خلقه ومرحه ومداعباته التي تدخل السرور إلى القلوب وبلباقته وابتسامته في لقائه لمحبيه ومخالفيه كان صاحب مثل وفضائل, كلها تنبع من شعب الإيمان التي تربى عليها, إذا حدث صدق, وإذا وعد أنجز, وإذا اؤتمن أدى, وإذا عاهد وفى, وإذا خاصم أنصف, وإذا أوذي صبر, وإذا أسيء إليه غفر . لقد مات أبو عبدالله ولم يمت, ورحل عن دنيانا ولم يرحل , فهو حي باق بآثاره ومآثره التي , فأبو لبن لم يفتقده إخوانه واصدقاؤه وتلامذته فحسب, بل المرأة المطلقة والأرملة والمسكينة , والشاب المنحرف الضائع الفاقد للموجه, كل هؤلاء بكوه لأنه كان ملاذهم بعدالله , يشكون همومهم إليه فيجدون منه الحنان والشفقة والتوجيه السليم, وبالباقيات الصالحات تخلد في الناس ذكره , ويطول عمره بعد وفاته عند الخلق ,قال شوقي رحمه الله : دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان كان أبو عبد الله من الرجال الأفذاذ الذين يجود بهم القدر ما بين الحين والحين, ليسدوا الثغرات, ويؤدوا الأمانات , وينصروا رسالات الله . ولهذا لانعجب إذا ذرفت عليه الدموع عبرات , وذهبت النفوس حسرات, وتوقدت القلوب جمرات, ما إن علم المسلمون من كل أنحاء الدانمرك وشمال أوروبا, نبأ وفاته حتى تقاطروا شيبا وشبانا نساءا ورجالا كبارا وصغارا إلى المستشفى الذي توفي فيه يودعونه بنظراتهم وبعبراتهم, وفي اليوم التالي أغلقت الشوارع والأزقة المحيطة بمسجده حيث صلي عليه, وفي المقبرة لاتسمع الا النحيب والبكاء, مرددين لمن تركتنا يا أبو عبد الله, لقد بقينا أيتاما بعد فراقك أيها الحبيب الراحل لعمرك ماالرزية فقد مال ولا فرس يموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت بموته خلق كثير وحسبك أيها القارئ الكريم دلالة على حسن خاتمة هذا الرجل الذي لانزكيه على الله, أن يبقى طيلة يومه يعيد الشهادتين, وقبيل وفاته بثوان ينهي قراءة سورة يسن رفقة زوجته, وكان يصحح لها خطأها إذا حرفت, وبعد الإنتهاء من التلاوة أغمض عينيه فظنت نومه, وإذا بها تفاجأ بأنها النفس الأخير . رحمك الله أباعبد الله , لا تجد رجلا أوإمرأة إلا أثنى عليك خيرا,والسنة الخلق أقلام الحق , والناس شهداء الله في أرضه , روى الشيخان عن انس رضي الله عنه " مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال صلى الله عليه وسلم وجبت " ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا, فقال وجبت " فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال : " هذا أثنيتم عليه خيرا , فوجبت له الجنة , وهذا أثنيتم عليه شرا, فوجبت له النار,أنتم شهداء الله في الأرض . رحمك الله أبا عبد الله , توقفت عند هذا المصاب الجلل على مسلمي الدانمرك وقلت في نفسي : ما أكثر مصائب المسلمين في هذه الأيام وما أعظمها ! ولكن المصائب تتفاوت وتختلف ... ألا وإن من أكبر ماتصاب به الأمة موت علمائها ودعاتها العاملين الذين هم قدوتها ومصابيحها في وقت نحن في أمس الحاجة للإستنارة والإستضاءة من هذه المصابيح في زمن العتمة . إن رحيل داعية بحجم شيخنا الحبيب , وخصوصا في ديار الغربة لأمر مؤثر ومحزن, إذ بذهابه يلثم جدار العلم ولا يلتئم نقصه إلا بعالم آخر يحمل الراية من بعده ... وهيهات ذلك في الدانمرك إلا أن يتغمدنا الله برحمته , وفي الخبر الصحيح : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " متفق عليه. لا ريب ولا شك بأن وفاة شيخنا أبي عبد الله هي مصيبة عظمى ورزية كبرى لمسلمي الدانمرك ... وليس من عادتي في مثل هذه المناسبات أن أزيد الجراح نزيفا والأ لم عمقا, لكني لست مبالغا إن قلت إن هذا الحدث ملأ كيان كل أبناء الجالية المسلمة في أوروبا وخاصة في الدول الإسكندافية كلها, فامتزجت أحزان الفراق الأبدي مع أحزان الغربة لفراقه . كان الراحل الكبير عاشقا للدعوة , وخطيبا مفوها, سيظل منبره في مسجد التوبة يبكيه , ويئن لفراقه , لأن أماكن العبادة تحن لعبادة الصالحين , فما بالكم برجل أفنى عمره, يدافع عن حقوق الجالية المسلمة ويدعوهم إلى الإندماج الإجابي الذي يحفظ العهود والهوية الإسلامية . أسأل الله أن تكون دروسه ومواعظه ودعوته وخدماته للجالية ذخرا له عند ربه, وأن يتقبله قبولا حسنا , ويلهمنا وذويه الصبر الجميل , قال تعالى " وماكان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا " اللهم ألحقنا به مؤمنين موحدين لا فاتنين ولا مفتونين . عبد الحميد الحمدي رئيس مجلس الشورى المجلس الإسلامي الدنماركي