رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزميل عيسى عبد القيوم في زيارة لضحايا الأيدز الليبيين بمستشفيات روما

لم أكن أتصور وأنا أتجه رفقة أحد الأصدقاء نحو إيطاليا بأنني أتجه نحو عرين الألم .. وأن الرحلة ستجبرني على الإعتراف رغم ما كتبته عن قضية الإيدز بأنني كنت أرسم صورة مبسطة للألم الذى تختزنه قضية بحجم قضية الإيدز .. فما شاهدته يفوق حد التصور .. فهناك قصة الضحايا .. وهناك قصص أخرى مسكوت عنها .. منها قصة أسر الضحايا .. وقصة تقصير مؤسسات الدولة.. وهناك أخطر القضايا وهي عدم إكتراث المجتمع وتخليّه عن واجبه الإنساني والأخلاقي .. أريد أن أتحدث عن كل ذلك فأرجو أن تسعفني العبارات .. فالموضوع أكبر وأخطر من أن ألملم أطرافه فى تقرير من ورقة أو ورقتين .. فالألم الجاثم على صدور أولياء الأمور عظيم الى درجة لو أنه سكب على قارة لأحالها الى سواد قاتم .. فكيف وهو يفترس بيوتاً صغيرة وفقيرة وسط لامبالاة من أطراف يفترض أن وظيفتها رعاية الشعب دون تمييز بين أفراده .
لا أدري من أين أبدأ فكل ما شاهدته يصلح ليكون بداية جيدة .. حسناً سأبدأ من الفكرة ذاتها .. فهذه المرة الثانية التى أقترب فيها من الضحايا وأسرهم .. كانت الأولى فى فرنسا .. وجاءت فى ظرف إستثنائي .. ثم كانت هذه الرحلة يوم الإربعاء 17 يناير2007م .. والدافع شعور بالخجل من تقصيرنا تجاه هؤلاء الأطفال .. فهذه أغرب قضية " رأي عام " أشهدها فى حياتي .. فهل سمعتم عن قضية " رأي عام " لا تهم الرأي العام ؟!! نعم هذه هي الحقيقة.. ومن ليبيا يأتي الجديد .. يا سادة يا كرام .. يا سكان أوربا تحديداً .. هؤلاء الأطفال و من كبر منهم ضيوف عليكم .. وتتعرض قضيتهم لضغوط شديدة جداً .. فأين أنتم منها ومنهم ؟!.. يا سادة هؤلاء الضحايا يحتاجون الى وجودكم الى جوار أسرّتهم .. فلتذهب السياسة الى الجحيم إذا كانت مواقفها لا تزيد على مظاهرة خجولة .. أو كتابات من وراء الحجب .. أو صراخ عبر فضائيات همها الأول إبتزاز الأنظمة عن طريق معارضات " مخصية " .. فلا يمكن لأي صحفي أو مراقب أن يصدق أن قضية الإيدز قضية " رأي عام " وهو يشاهد ضحاياها ينتشرون فى ثلاثة دول أوربية .. دون أن تلتفت إليهم وسائل الإعلام الليبية .. خاصة منها تلك التى تستوطن أوربا .. إنهم يفتقدونكم كبشر .. يفتقدونكم كليبيين .. وأخيراً يفتقدونكم كإعلاميين من صميم عملهم المهني والأخلاقي متابعة قضاياهم وإيصال أصواتهم .. فلا تمنحونهم ظهوركم وهم أحياء .. ثم تنوحون عليهم بعد الممات.. ففى قضية الإيدز عدة مستويات .. منها ما يجب أن نتفق عليه جميعاً .. الدولة والمهجر وأولياء الأمور .. وعلينا أن لا نسمح بتسييس هذا القدر على الأقل وجعله محلاً للتنافس أو المزايدة .. وعندما نصل الى المستويات التى نختلف حولها سيكون لكل حادث حديث .. وعندها ستفتح ملفات كثيرة .. وفى هذا السياق سنرفع القبعة كثيراً لجهود جمعية أولياء أمور الضحايا .. ولرئيسها السيد أدريس لاغا .. والسيد رمضان الفيتوري .. ولكل الأباء الذين يركضون من أجل أن لا ضيع حقوق أبناءهم .. وتحية كبيرة للأمهات رمز المقاومة لهذه القضية.
من هنا كانت البداية .. فما أعتبره واجبي قادني الى كرسي الطائرة.. وقدماي قادتني الى سرير " عبدالمجيد صالح التهامي ".. صافحته وجلست الى جواره على سريره بمستشفى " إسبنزلاني روما " .. فى تلك اللحظة كنت كمن يحاول أن يسترق النظر لرؤية ذاك الوحش القابع فى عروقه .. كشف عن جسده .. وشرع يشرح لنا كما لو أنه أستاذ فى علم التشريح عن شرايينه التى لم تعد قادرة على تقبل أنابيب أجهزة غسيل الكلى .. فأغلقت شرايين فى الكتف .. وأخرى فى الرجل .. وفتحت ثالثة فى البطن .. كنت أحاول أن أبدو متماسكاً .. فلا يمكن لبشر أن يحتمل كل تلك المشارط التى تطارد أثار " الوحش " الهائج داخل الجسد النحيف .. كان يتحدث دون أن يفقد إبتسامته .. وأنا أستمع دون أن أغفل عن معركة الإرادة الدائرة بين الحياة والفيروس القاتل التى تخاض فى تلك اللحظات تحت الجلد الأسمر الذى يخاله الغافل ساكناً لا يتحرك .
عبدالمجيد يبلغ من العمر "23 " عاماً .. من مدنية " القبة " شرق ليبيا .. وهنا تعمدت أن أذكر الرقم لتصحيح بعض الأخطاء .. فالأطفال لم يعودوا أطفالاً.. فهم الأن شباباً .. ومن الخطأ وصف بعضهم إعلامياً بالأطفال .. وصاروا يعرفون قضيتهم جيداً .. ويعرفون كل كبيرة وصغيرة عن مساراتها وإتجاهاتها .. يعرفون حقوقهم الممنوحة والمسروقة على السواء .. حكى لي عن كل شيء .. عن بدايات المرض .. وعن يتمه وفقدانه للأب .. وعن عمه الذى وصفه بأنه بمثابة والده وزيادة .. وعن حرمانه من إتمام دراسته نتيجة لبعد المدرسة عن مكان العلاج .. ولإسباب أخرى يتحمل وزرها المجتمع " المتخلف " ومؤسساته .. سألته عن الكيفية التى يقضي بها وقته ؟!.. فقال : فى متابعة المواقع الألكترونية .. خاصة الثقافية منها .. وعندما سألته : الثقافية فقط ؟! .. أضاف : لا .. بل والطبية أيضا .. فالمرض دفعني للتعرف على الكثير من المواقع الطبية .. وعن أمنياته يتحدث عبدالمجيد قائلا : عندما أفقت من العملية يوم أمس .. تمنيت أن أزور مكة المكرمة .. وأيضا لدى عبدالمجيد رغبة فى زيارة بريطانيا .. ويرغب فى العودة لدراسته فى أقرب وقت .. أمنيات لا تكلف أقل رجال الأعمال حظاً مكاسب يوم فى حياته .. ولكن عبدالمجيد يراها بعيدة المنال .. ردّدت
أمامه عبارة " ما على الله صعيب " .. وأنا أستحضر فى نفسي بعض الشخصيات المحبة للخير .. وأمل أن تكون رسالة عبدالمجيد قد وصلت إليها .. إنتهت الزيارة .. وأصر " عبدالمجيد " على مرافقتي وصديقي الى خارج المستشفى .. وعندما ودعته سألته : هل أنت راضٍ عن الحكم بالإعدام على البلغاريات ؟!.. أجاب بسكينة أحسده عليها : أعرف أنهم قد يتلاعبون بالحكم .. ولكن الحكم النهائي والعادل بين يدي الله .. وعندما إلتفت عبدالمجيد عائداً الى سريره .. لمحت صديقي وهو يحاول أن يخفي دموعه عنه .
الى مستشفى " الماير " بمدينة " فرانسيا " .. أين يتردد " المجبري " .. البالغ من العمر " 8 " سنوات .. شاهدته يقفز .. ويضحك .. ويملأ الدنيا حيوية .. ويغمر المحيط فرحاً .. فهو لم يدرك بعد ماذا يعني أن تكون مصاباً بفيروس " الإيدز " .. تحدث والده .. فيما جلست الأم تراقب إبنها بقلق واضح .. تحدث عن كيفية حقن إبنه الذى كان عمره يومئذ " 52 " يوماً فقط .. وعن رحلة العلاج المريرة .. وتحدث طويلاً عن المشاكل الإجتماعية التى تضاف الى فاتورة المرض .. كان الوالد يتحدث .. وأنا أرقب " محمد " وهو يلهو فى " بهو " المستشفى .. لم أستطع أن أقاوم الرغبة فى المقارنة بينه وبين إبني الصغير.. أو بين إبن أي أب فى الدنيا .. كان يفترض أن يكون الأن على مقاعد الدرس .. أو فى نادٍ .. أو حديقة يلهو مع أترابه .. أي جريمة هذه !! .. أي أخلاق التى يتغنى بها السيد بوش .. وأي قيم التى ينطوي عليها دستور الإتحاد الأوربي العظيم !! .. هكذا بكل بساطة المطلوب إطلاق صراح البلغاريات دون شرط أو قيد !! .. لو إقترحوا فكرة إقامة " محكمة دولية " فلربما قلنا أنهم لا يثقون فى القضاء الليبي .. ولكن أن تحسم القضية بقرار سياسي فهنا أحد علامات الإستفهام الكبيرة حول الدوافع وراء تكالب أوربا وأمريكا على فكرة حسم القضية سياسياً .. وهذا ما يحتم علينا التشبت بالقضية لإفهام الغرب بأنها قضية رأي عام .. وأنه لا الدولة الليبية ولا معمر القذافي .. يستطيع أن ينهي هذه القضية عبر القرار السياسي فقط .. عموما قبّلت محمد كأب يستشعر معنى رؤية إبنه يلهو مع الموت البطيء .. وغادرت الى الشارع وأنا أحمل المزيد من علامات الإستفهام .
الى مستشفى " البنبينو جيسو " بروما .. ومحاولة زيارة طفل هناك .. ولكن للاسف لم تتم لعدم حصولي على الإسم كاملاً .. مما تعذر معه الوصول الى القسم الذى يرقد فيه الطفل .. وهناك إلتقيت " ضحى السيد عماد الدين " البالغة من العمر ثمان سنوات .. وهذه الطفلة تنفرد عن الجميع بكونها يتيمة قادمة من دار الرعاية .. هادئة .. تبتسم لكل من ينظر إليها .. فى أعماق عينيها حزن يحتاج الى ألف ديوان لشرح مفرداته .. تمتمت فى أذنها ببعض العبارات فى محاولة لإستدراجها فى الكلام .. ولكن يبدو أن صخب المكان جعلها تكتفي بإبتسامة صغيرة .. أعترف بأن قصتها هزتني بقوة .. وأن الدنيا قد قست عليها كثيراً .. ولو لم يحقن البلغار والطبيب الفلسطيني غير هذه الطفلة لكان حكم الإعدام قليل فى حقهم .. وأنا أدعو السيدة " دارين لحجوج" لزيارة الضحايا لتعرف حجم الجرم الذى إرتكبه شقيقها .. ولتطلع على أوراقهم الطبية بعناية ففيها ما يكفي لجعلها تتحدث بشئ من المنطق بدلاً من الهراء الذى تنشره عبر الإعلام .. وربما من الأجدر بها أن تأتي الى حيث يرقد الضحايا وتطلب منهم العفو والغفران لشقيقها .. فهم أناس طيبون يا سيدة دارين .. وربما أسهم وجودك بينهم فى ترقيق قلوبهم ونيل عفوهم .
وفى ذات اليوم صافحت " جليلة محمد الدرسي " (19) سنة .. و" سعاد مصطفى العقوري " (17) سنة .. ولم أتمكن من زيارة " رشيد السنوسي الوسيع " (21) سنة .. و " خلود عبدالرازق البهلول " (12) سنة لإقامتهم فى مكان بعيد خارج روما .
هكذا يبدو المشهد العام لقضية الأيدز .. أطفال .. وشباب .. وشابات يقاومون المرض بإرادة كالحديد .. يتمسكون بحقهم فى الحياة .. وينظرون الى المستقبل من ثقب الأمل .. الأمل فى قدرة الله على الشفاء .. الأمل فى سعي البشرية لإيجاد حل للغموض الذي يغلف المرض .. الأمل فى غدٍ أفضل .. وينظرون الى عدالة تنصفهم .. والى مجتمع يمد إليهم يد الحب والحنان قبل يد الواجبات .. ولو توقف المشهد عند هذا الحد لكان فيه ما يكفي من الألم والعذاب .. ولكن ليس هذا كل شيء .. فهناك ما يمكن أن نتحدث عنه فى القضية .. فماذا عن الهمس الذى يدور حول عزل العائلات إجتماعياً دون تدخل مؤسسات الدولة ؟!.. وماذا عن الكولسة ؟!! .. وماذا عن سرقة مستحقات الضحايا ؟!.. ماذا عن معاناة أولياء الأمور التى باتت تضاهي معاناة الضحايا أنفسهم ؟!.. وماذا عن السفارة الليبية فى روما .. التى سألت بعض المرضى ممن تكاد مدتهم تصل الى التسع أشهر : هل زاركم السفير الليبي .. أو القنصل ؟! .. فكان الجواب : لا .. وصمتوا لأنهم يعرفون أن الحديث عن الوحوش الكاسرة قد يهيجها .. مما قد يفقدهم فرصة علاجهم بجرة قلم.. إذن للحديث بقية .. فللفساد والفاسدين وكر فى روما .
والسلام
:
منذ أن كشف الغطاء عن قضية ما عرف بمستشفى " الأطفال ببنغازي " .. إستمعت الى الكثير من المعلومات .. فى لندن .. باريس .. وروما .. وقرأت أكثر عن القضية .. من أوراق النيابة .. الى أوراق الدفاع .. الى تحاليل الصحافة .. وأخيراً عندما وقفت أمام أحد عجائب الدنيا السبع " برج بيزا المائل " تساءلت : هل هذا الشيء الوحيد المائل حتى يعتبر " أعجوبة " ؟!.. لن أذهب بعيداً.. وسأبدأ القصة من دخول مجموعة من أولياء الأمور على العقيد القذافي شخصياً فى خيمته .. حيث قالوا له حرفياً .. نحن لم نأتي للهتاف .. أو للمبايعات السياسية .. نحن جئنا من أجل قضية الأطفال .. فإستمع إليهم بإهتمام .. وتقول الرواية .. أنهم خرجوا من عنده بوعد أرضاهم جميعاً .. ترجم فيما بعد الى قرار اللجنة الشعبية العامة الصادر فى شهر 72005 .. الذى ينص على رصد مبلغ وقدره ( 5.5 ) خمسة ونصف مليون دولار .. " للعلاج الكامل " .. وللعلم فهذا المبلغ فقط لمجموعة ايطاليا .. على أن تمنح باقي المجموعات (سويسرا وفرنسا ) مبالغ مماثلة .. ودائما تحت بند " العلاج الكامل " الذى وعد به العقيد القذافي .. الى هنا لا يمكن لأي منصف أو عاقل إلا أن يعتبر ذلك شيئا إيجابياً .. هذه نقطة أولى .
النقطة الثانية تمثلت فى ظهور تصريحات أوربية تؤكد بأن ضحايا مرض نقص المناعة المكتسبة " الإيدز " يعالجون على حساب أوربا .. وفى المقابل ظهرت تأكيدات ليبية تصر على أن الضحايا يعالجون على حساب المجتمع الليبي .. وهنا يكمن اللغز.. فالقرار الليبي يؤكد أن الدولة والمجتمع متكفل بمصاريف ما وصفه القرار ب " العلاج الكامل " .. وما يجري على الأرض شيء أخر مخجل .. مذهل .. ومريب .. يجعل من التصريحات الأوربية حقيقة لا يمكن جحدها بالمطلق .. وللاسف فلدى الأوربيين وثائق تثبت ذلك .
يا سادة يا كرام.. هل تعلمون أن الكثير من الحالات تفاجأت بأن العقود التى أبرمت بين السيد الدكتور " خريص بالقاسم خريص " ممثل الطرف الليبي .. ومن يوصف برجل البزنس الكبير الدكتور " كستيلي " .. عبر مستشفى " البنبينو جيسو روما " هي فقط للتحاليل وليس للعلاج .. وأن الضحايا وذويهم يطردون بشكل سافر عقب إنتهاء التحاليل .. ونفس الأمر يحدث فى مستشفى " الماير فرانسيا " .. بين الطرف الليبي والمتعاقد البرفسور " ساقالي " كجهة إدارية .. والبرفسور " قالي " كجهة طبية .. فهل تعلم اللجنة الشعبية العامة .. وهل يعلم الدكتور البغدادي .. وقبلهما هل تعلم القيادة الليبية .. وهل تعلم " مؤسسة القذافي للتنمية " بصفتها المكلف من طرف الضحايا بمتابعة قضيتهم .. هل يعلم كل هؤلاء بأن الملايين التى رصدت لم تذهب كلها للعلاج .. وان العقود التى وقعت غالبيتها للتحاليل والكشوفات العامة.. أو ربما وقعت عقود وهمية سرّبت الى ليبيا .. وعقود ثانية تم بموجبها ما نلمسه على الأرض .. أو ربما تكون العقود لم تغطي وتشمل كل الحالات .. وتم قضم الجزء الأكبر منها .. لأن ما نلمسه على الأرض يشير الى وجود لغز يحتاج الى حل .. وهنا قد يقول قائل .. وماذا عن العمليات الجراحية التى نسمع عنها ؟!..وماذا عن الأشخاص الذين تحدثت عنهم بأنهم نزلاء بعض المستشفيات ؟!! .. الجواب فضيحة أخرى تحتاج الى تحقيقات مستقلة .. على إعتبار أننا دولة نفطية غنية .. ونزعم بأننا نوزع ثروتنا بشكل عادل .. ولدينا قرار من أعلى الجهات التشريعية والتنفيذية فى الدولة يأمر برصد مبلغ وقدره " للعلاج الكامل " !!.
يا سادة ما عرفته عن بعض هذه المستشفيات أنها مستشفيات خيرية.. تعالج بالمجان تحت برنامج يسمى " الاس . تي . بي ".. أو ما يشبه نظام الضمان الإجتماعي .. بل وضع مستشفى " الماير " مثلا على لافتته الخارجية عبارة تقول " أن المستشفى يعالج الأطفال اللقطاء والمهجرين " !! .. أما مستشفى " البنبينو جيسو " .. فمن اسمه " أبناء المسيح " تعرف أنه ملجأ كنسي خيري .. تابع " للفاتيكان " ويقدم خدماته مجاناً .. فهذا بلاغ الى السيد النائب العام .. أو المدعي العام .. إن ما يحدث فى روما عار على الدولة الليبية .. فالناس.. أو بعض الناس .. يعالجون بالفعل على حساب المجتمع الأوربي .. واذا ما أخرجت لكم أوربا ذات يوم مستندات تثبت معالجة أطفالكم بالمجان فلا تستغربوا من ذلك .. ولا تستحضروا نظرية المؤامرة !!.. أنا هنا لا أتهم أحداً .. فقط أؤكد وجود تسريب " ما " فى الخطوط الواصلة ما بين لجنة متابعة ملف الأطفال "السيد عبدالحفيظ بوظهير " .. وبين السيد الدكتور " خريص بالقاسم خريص ".. وبين السفارة الليبية فى روما .. وبالتأكيد من واجبي كليبي أن أطرح هواجسي بشفافية.. ومن صميم صلاحياتك سيدي النائب العام .. أن تؤكد ذلك أو تنفيه .
وحتى تتضح لك الصورة أكثر فالطفل " محمد عبدالهادي " على سبيل المثال الذى إنتشرت صورته فى الإعلام العربي .. توفى بمستشفى " البنبينو جيسو " التابع للكنيسة .. وعلى سريره رفع " العلم الإيطالي " !!! .. وبما أن " مؤسسة القذافي للتنمية " ممثلة فى السيد / سيف الإسلام مخولة بصفة رسمية من طرف أولياء الأمور بمتابعة القضية .. فأرجو أن تعتبر هذا البلاغ ايضا موجه إليها للنظر فيه ولتتأكد من المعلومات على الأرض .
السفارة الليبية هل تسكنها القطط السمان :
هذا العنوان لن أستطيع أن أغادر قبل أن أعرّج عليه .. فسفيرنا هناك على ما يبدو ليس لديه الوقت لمتابعة أخطر قضايا بلاده .. سفيرنا قيل أنه يمتلك ثلاثة عربات " مرسيدس " من أجل إنجاز مهامه التى لم يثبت أن من بينها الإعتناء بملف قضية الإيدز .. القضية الأخطر حالياً والتى تعتبر أوربا طرفاً فيها .. سيدي السفير " حافظ قدور " إن التيه الذى شاهدته فى عيون الناس الواقفين أمام باب سفارتك غير مبرر .. هؤلاء الأباء يعانون معاناة نفسية كبيرة .. قسم من رفعها يجب أن تقوم به كجزء من وظيفتك التى خولك بها المجتمع .. والقسم الثاني مطلوب منك كإنسان .. وكشاهد على فصول مأساة كبيرة .. ولكن للأسف ما يجري على رصيف السفارة الليبية بروما شيء يدفع للكفر بالوطن .. وهنا أكرر إستفهامي هل يعلم رئيس وزرائنا ما يجري لأناس بسطاء إختارتهم يد المؤامرة ليكونوا ضحاياها دون سبق معرفة .. هل يعلم أن كرامة المواطن الليبي الذى يراد له أن يشكل المجتمع الجماهيري السعيد تهدر أمام مكتب السفارة .. وكمواطن ليبي أحمّل سعادة السفير بصفته الشخصية والإعتبارية مسئولية أي خروقات قد تضر بقضية الأطفال .. مثل تسجيلهم فى مستشفيات خيرية غير متخصصة .. ودفعهم للعلاج المجاني .. مما يعزز موقف أوربا فى تصريحها بأن الأطفال يعالجون داخل أراضيها دون مقابل .. ولن أتحدث عن صمت سفارته تجاه قضية إلحاق الأطفال بالمدرسة الليبية فى روما .. التى سعت لإبعاد الأطفال عنها بفرض مبالغ كبيرة على ذويهم .. ولن أتحدث عن المنح الهزيلة التى تمنح للضحايا مما إضطرهم للسكن فى أماكن ضيقة جداً .. وبعيدة جداً عن المستشفيات .. ولعل الكشف المرفق يوضح التلاعب .. ففيه تجد أن قيمة إقامة عائلة للعلاج فى روما ولمدة ثلاثة أشهر تتراوح ما بين ( 2000 الى 3000 يورو ) .. فهل هناك مهزلة أكبر من هذه .. والعجيب أنك تجد أن منحة من سيبقى ثلاثة أشهر تساوي تماماً منحة من سيبقى شهراً واحداً .. ومنحة الأسرة الكبيرة تساوي منحة الفرد .. ومنحة من جاء لمعالجة أمراض مضافة الى مرض الإيدز تساوي منحة من جاء للكشف العام .. مما يعني أننا أمام قسمة قسمة ضيزى .. ولا علاقة لها بملف القضية بقدر ما لها علاقة بقصة الفواتير المطلوبة لتغطية العجوزات مثلا !! .. فوجدت من بين العائلات من غادر بيته للسكن فى غرفة واحدة فقط .. ووجدت من طرد من المستشفى صبيحة يوم موعد إجراء أشعة أو تحليل أو المنظار .. وغالباً ما يرفق الطرد بعبارة " هذا خارج المتفق عليه فى العقد ".. فيلجأ الناس الى المستشفيات المجانية .. وجدت الهم والقلق يرافق هؤلاء الناس .. فإذا لم تنجح يا سعادة السفير فى رعاية من يفترض أنك جئت لرعايتهم .. فهذا يعني أنك وبكل أسف ومرارة ممثل فاشل للشعب الليبي على الأراضي الإيطالية .. فالسفارات كما قيل لنا قد تحولت الى " مكاتب شعبية " مما يعني توسيع قاعدة خدماتها وإنفتاحها على الجمهور .. ومع هذا فآخر محطة تسمح لليبيين بالوقوف أمامها هي رصيف سفارتك .. مما يجعلنا نترحم على سفراء العهود الماضية الذين كانوا يلحقون بيوتهم بسفاراتهم كمضافات لليبيين .. سادتي الكرام لن أطيل عليكم فيبدو أن لديكم قطط سمينة فى روما أيضا .
أولياء الأمور جناح اخر يوشك أن ينكسر :
من خلال العيش مع أو بالقرب من القضية تتكشف أمامك معاناة أخرى .. لا تقل خطورة وألم عن معاناة المرض ذاته .. إنها معاناة أولياء الأمور .. فهذه الشريحة من المجتمع الليبي التى إختارها القدر لهذا الإبتلاء .. تعاني بين المطرقة والسندان .. بين مطرقة الأبناء المحقونين ومشوار علاجهم .. وبين سندان بقية الأسرة التى باتت بلا راعي يرعى شئونها فى ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني التى كان يمكن أن تسد هذا الباب .. فتراهم مشتتين بين هنا وهناك .. ومنهم من لديه أطفال يحتاجون الى علاج من مشاكل صحية اخرى .. ومنهم من يعاني هو نفسه من مشاكل صحية .. وربما أغلبهم بات رفيق أمراض كالسكري وضغط الدم .. والكثير منهم باع ما يمتلك وباتت الديون تتراكم عليه .. وإذا ما أضفنا الى كل ذلك مشاكل العزل الإجتماعي .. وتخوفات مجتمع لا يعلم شيئاً عن ثقافة التعاطي مع مرضى الإيدز .. فإن القصة ستتفاقم .. خاصة مع الأمهات .. ومع البنات اللاتي دخلنا سن الشباب .. أين سيتجه كل هؤلاء ؟!!.. كيف سيقضون بقية أعمارهم ؟!!.. ما هي المؤسسات التى سترعى وستهتم بقضاياهم الإجتماعية ؟!!.. وماذا عن دراستهم .. وربما شغلهم ؟!!.. سادتي الكرام هنا تكمن مشكلة اجتماعية خطيرة .. فالأسر التى لن تجد من يعينها سيضطر الأب الى توجيه جل إهتمامه بالطفل أو الشاب المصاب .. وسيترك بقية أفراد الأسرة فى مهب الريح .. وربما سيفيق المجتمع والدولة على شريحة عانت العزل والفقر والإزدراء والظلم الإجتماعي .. وبالتالي فهي مرشحة للذهاب فى كل الإتجاهات بما فيها تلك التى لا نرغب فى سماع أخبارها .. فهل ستلتفت الدولة ومؤسساتها لهذا الموضوع للتخفيف من أثاره ؟!!. شخصياً أمل ذلك .. بل وأذهب أبعد من ذلك .. أذهب الى الدعوة لتكوين جمعيات " أصدقاء المريض " وفتح قنوات إتصال مع الأطفال والشباب بشكل مباشر لإشعارهم بأنهم ليسوا وحدهم وسط هذا التيه .. وأيضا لإشعار أوربا وشركاتها العابرة للحدود أن القضية قضية " رأي عام " ولن يسمح بأن تمر مرور الكرام .. وأن قصة الإتجار بها لن تقبل .. وربما سيولد حلها بطريقة قصرية مضاعفات أكبر مما تتصوره الدولة والغرب على حد سواء .
النداء الأخير :
عندما سألت أحدهم : ماذا تريدون بالضبط ؟!!.. أجاب : نريد ما وعد به العقيد القذافي فى خيمته .. عندما أوصى بضرورة رصد ما يكفي لعلاج الأطفال علاجاً كاملاً .. نريد ما يثبت أن ذلك حقيقة .. نريد متابعته من جهات عليا .. من " مؤسسة القذافي للتنمية " .. أو من مكتب أمين اللجنة الشعبية العامة ( رئاسة الوزراء ) بشكل مباشر .. فلم تعد الوعود تفيد فى شيء .. نحن وأطفالنا وعائلاتنا نعاني .. وما يمنح لنا لا يكاد يغطي مصاريف الأكل والشرب وإيجار السكن .. أما العلاج فيبدو أنه قد دخل سوق السمسرة .. والله يعوض علينا .
غادرت يوم الجمعة مطار " بيزا " متجهاً الى مطار " ليفربول " .. وأنا أكثر إعتقاداً بأننا نسير فى إتجاه مشتت .. فالقضية تزداد كل يوم خطورة.. خاصة بعد أن قرأت صبيحة اليوم عن موقف الإتحاد الأوربي .. سادتي الكرام نحتاج الى تكاتف الجميع فى بعض مستويات القضية .. ولنترك المستويات التى نختلف حولها لحينها .. لنتكاتف فى شد أزر هذه العائلات .. فقد لمست نوعاً من الأنفة وعزة النفس عندهم .. وبالتالي سأقول نيابة عنهم كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له " .. أقول لرجال الأعمال .. وللخيّرين داخل ليبيا وخارجها .. إدعموا هذه الأسر قبل أن تنهار .. وأدعموا صوتهم المتمثل فى " جمعية أولياء أمور الضحايا " .. وأبحثوا عن صمامات أمن إجتماعية للقضية .. فحق هؤلاء الأطفال والشباب فى أعناقنا جميعاً فإذا ضاع فأنا أول من سيبصق على كثير من اللافتات .. وسأكفر علناً بكثير من الشعارات .. وسأدوس أمام الجميع ما يعتبرونه ثوابت .
والسلام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.