والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    بطولة العالم لألعاب القوى لذوي الإعاقة: التونسية سمية بوسعيد تحرز برونزية سباق 1500م    طقس اليوم: أمطار بالمناطق الغربية والشرقية وحرارة أربعينية بالجنوب    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    إنقاذ طفل من والدته بعد ان كانت تعتزم تخديره لاستخراج أعضاءه وبيعها!!    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    بن عروس: اندلاع حريق بمستودع قديم وغير مستغل    رئيسة مكتب مجلس أوروبا بتونس تقدّم خلال لقاء مع بودربالة مقترح تعاون مع البرلمان في مجال مكافحة الفساد    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    تونس تشارك ب14 مصارعا ومصارعة في البطولة العربية بالأردن    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    قابس: تراجع عدد الأضاحي خلال هذه السنة مقارنة بالسنة الفارطة (المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية)    إرتفاع قيمة صادرات المواد الفلاحية البيولوجية ب 24،5 بالمائة    تفكيك شبكة لترويج الأقراص المخدرة وحجز 900 قرص مخدر    القيروان :الاحتفاظ ب 8 اشخاص من دول افريقيا جنوب الصحراء دون وثائق ثبوتية يعملون بشركة فلاحية    مدير معهد الإحصاء: كلفة انجاز التّعداد العامّ للسّكان والسّكنى لسنة 2024 تناهز 89 مليون دينار    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    وزير التشغيل والتكوين المهني يؤكد أن الشركات الأهلية تجربة رائدة وأنموذج لاقتصاد جديد في تونس    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    الخارجية الألمانية.. هجمات المستوطنين على مساعدات غزة وصمة عار    رسميا.. سلوت يعلن توليه تدريب ليفربول خلفا لكلوب    اكتشاف جديد قد يحل لغز بناء الأهرامات المصرية    قيس سعيد يُعجّل بتنقيح الفصل 411 المتعلق بأحكام الشيك دون رصيد.    سعيّد يأذن بتنقيح فصولا من المجلة التجارية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    أولا وأخيرا ..«سقف وقاعة»    عاجل/ إسبانيا تتخذ اجراء هام ضد الكيان الصهيوني..    القدرة الشرائية للمواكن محور لقاء وزير الداخلية برئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    دقاش: افتتاح فعاليات مهرجان تريتونيس الدولي الدورة 6    وزير الفلاحة: المحتكرون وراء غلاء أسعار أضاحي العيد    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    حاولوا سرقة متحف الحبيب بورقيبة الأثري...القبض على 5 متورطين    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    570 مليون دينار لدعم الميزانيّة..البنوك تعوّض الخروج على السوق الماليّة للاقتراض    عاجل/ أمريكا تستثني هذه المناطق بتونس والمسافات من تحذير رعاياها    اليوم.. حفل زياد غرسة بالمسرح البلدي    القصرين: وفاة شاب في حادث مرور    اتحاد الفلاحة: أسعار أضاحي العيد ستكون باهضة .. التفاصيل    مباراة الكرة الطائرة بين الترجي و الافريقي : متى و أين و بكم أسعار التذاكر؟    كأس أوروبا 2024: كانتي يعود لتشكيلة المنتخب الفرنسي    طارق مهدي يفجرها: أفارقة جنوب الصحراء "احتلوا" الشريط الساحلي بين العامرة وجبنيانة    فرنسا: الشرطة تقتل مسلحا حاول إضرام النار بكنيس يهودي    بطاقة إيداع بالسجن في حق مسؤولة بجمعية تُعنى بمهاجري دول جنوب الصحراء    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    خطبة الجمعة...الميراث في الإسلام    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    محيط قرقنة اللجنة المالية تنشد الدعم ومنحة مُضاعفة لهزم «القناوية»    روعة التليلي تحصد الذهبية في بطولة العالم لألعاب القوى لذوي الاحتياجات الخاصة    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لمحة عن كتاب : "تطور الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية"

تاريخ الكفاح الفلسطيني جزء لا يتجزأ من تاريخ تونس حيث لم يكن موقف الشعب التونسي وقواها الوطنية من التطبيع ومقاومة الصهيونية مسالة حديثة أو ظرفية بل يعود هذا الموقف إلى العلاقة المتجذرة في وجدان وتفكير التونسيين منذ مطلع القرن الماضي حيث ارتبطت القضية الفلسطينية بقضية تحرر تونس من الاستعمار الفرنسي.
ويبرز ذلك جليا من خلال بعض الكتابات ومنها كتاب جديد صدر أواخر سنة 2006 للدكتور عبد اللطيف الحناشي، مدرس التاريخ المعاصر بجامعة منوبة تحت عنوان: "تطور الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية (1920-1955)".
للكتاب أهمية كبيرة لكونه عملا أكاديميا محكم التوثيق والتحليل والتمحيص باعتماد وثائق الأرشيف التونسي والأرشيف الفرنسي ومختلف الكتابات الصحفية وأدبيات المنظمات الأهلية التونسية وكم هائل من المصادر والمراجع المختلفة علاوة على شهادات حية لبعض الشخصيات الوطنية التونسية المناصرة للشعب الفلسطيني الأمر الذي مكن الباحث من إبراز مكانة وحضور القضية الفلسطينية في الرأي التونسي الشعبي والسياسي رغم القبضة الأمنية المشددة لإدارة الاحتلال الفرنسي آنذاك. يعد الكتاب إضافة قيمة للمكتبة التونسية والعربية عموما. وقد ورد في بابين وسبعة فصول على النحو التالي:
الباب الأول غطى الفترة الممتدة بين 1920-1939 وتضمّن أربعة فصول:
1- الفصل الأول رصد وتفكيك العوامل التي ساهمت في تأخر إدراك الخطاب السياسي في تونس للقضية الفلسطينية والأيديولوجية الصهيونية.
2- الفصل الثاني اهتم بتطور السياسة البريطانيّة بفلسطين والنّشاط الصّهيوني بها وموقف الخطاب السياسي من تلك السياسة ومدى خطورة النشاط الصهيوني على مستقبل فلسطين.
3- الفصل الثالث تفكيك رؤية الخطاب لمختلف مظاهر المقاومة الفلسطينية للاحتلال البريطاني وللمشاريع الصهيونية في فلسطين.
4- الفصل الرابع فقد أبرز موقف الخطاب من مشاريع التسوية السياسية التي طرحتها الإدارة البريطانية والبدائل التي طرحها الخطاب كحلول عملية لتلك القضية..
أمّا الباب الثاني فقد غطّى الفترة الممتدة بين 1945-1955 وتضمن ثلاثة فصول:
1- الفصل الأول رؤية الخطاب السياسي قبل قرار التقسيم وموقفه من قرار الأمم المتحدة حول تقسيم فلسطين.
2- الفصل الثاني حلل فهم الخطاب للحرب العربية الإسرائيلية الأولى وتداعياتها ورؤيته لأسباب الهزيمة والطرق والبدائل لتجاوزها.
3- الفصل الثالث بحث تطور الخطاب للقضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة.
سعى فيها الباحث إلى المساهمة في رصد مكوّنات التفكير السّياسي في تونس، تجاه القضية الفلسطينية. ولتعميم الفائدة سأحاول تقديم ملخص وجيز لهذا الكتاب.
لا شكّ أن عملية، تحديد تطور الخطاب السياسي في تونس بمختلف مكوناته وأنساقه وآلياته إزاء القضية الفلسطينية، تتطلب تمحيصا وتدقيقا للوثائق والمصادر المتنوعة التي تمسح كامل الفترة المدروسة والتي عبرت عن مواقف ورؤى الأحزاب والشخصيات السّياسية التونسيّة و"انطباعات" السكّان التونسيّين ومواقفهم وانشغالهم بالقضية الفلسطينيّة بالإضافة إلى مواقف وأراء الكتاب اليهود والصهاينة حول تطور الحركة الصهيونية بالبلاد التونسية وموقف التونسيين من الصهيونية.
تبدو دراسة تلك القضايا ذات ضرورة ملحّة لرصد حجم اهتمام الخطاب السياسي في تونس للقضية الفلسطينية وكيفيّة إدراكه لطبيعتها وخصوصيتها ودرجة انشغاله بقضية تبدو في الظاهر قضية ثانوية بالنسبة لحركة تحرر وطني ذات أهداف وطنية محددة لكنها في المقابل شكّلت محور اهتمام قطاعات واسعة من الكتابات التونسية السياسية الحزبية والمستقلة وغيرها.. كما أن تحليل هذا الخطاب قد يساعد على معرفة مستوى إدراك النخب بمستجدات العلاقات الدولية وكيفية فهمها وتعاملها مع الأزمات الدولية عامة وذات العلاقة بفلسطين خاصة.. ويمكن من خلال تحليل هذا الخطاب أيضا، تحديد درجة مساهمة القضية الفلسطينية في تعميق الوعي الوطني والعروبي بالبلاد التونسية في فترة الاحتلال وحدود ذلك خاصة بعد أن تم تحليل مظاهر ذلك التفاعل على مستوى النشاط وإجراء بعض المقارنات بين رؤية الخطاب السياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة بها والخطاب العربي السائد حول تلك القضايا، وخاصة الفلسطيني منه.
يعود اهتمام التونسيّين بالقضيّة الفلسطينيّة إلى أمد بعيد وخاصة منذ أواسط العشرينيات ثم تكثّف الأمر وأخذ يصل إلى درجات عليا منذ الثلاثينيات ولم يمنع الاهتمام بالقضايا الوطنيّة من الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة. فقد شكّلت تلك القضيّة إحدى أهم شواغل التونسيّين في اغلب مراحل تطوّرها ومثلت أهم محاور الاختلاف والمزايدة السّياسية بين مناضلي الحركة الوطنية التونسية وحتى داخل الحزب الواحد.. وكانت مادة أساسية لأهم الصحف الوطنية التونسيّة في أغلب الأحيان.
نشأت القضيّة الفلسطينيّة منذ تبلور المشروع الصّهيوني أي منذ انعقاد المؤتمر الصّهيوني العالمي الأول سنة 1897 وهي بالأساس قضية سياسيّة، اتخذت أبعادا أخرى بعد ذلك التاريخ وتحوّلت شيئا فشيئا إلى قضية تحرّر وطني إذ تميّزت عن بقية الحركات التحرّرية في العالم بمواجهة استعمار مزدوج ذي طبيعة مختلفة: فهو استعمار قديم متمثّل في "الانتداب" البريطاني المتحالف مع الحركة الصّهيونيّة من ناحية، والمشروع الصّهيوني ذي المنزع العنصري الاستيطاني الاستئصالي المتكأ على "الجماعات اليهودية الوظيفية" المنتشرة في أنحاء العالم من ناحية أخرى..
تمكّنت الحركة الصّهيونيّة بفعل العديد من العوامل والظروف الموضوعية والذّاتية من تحقيق مشروعها السّياسي في ظرف وجيز بكلّ المقاييس (حوالي نصف قرن) ثم التوسّع على حساب دول الجوار الفلسطيني واحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وممارسة شتّى أنواع الإرهاب والقمع ضد الشعب الفلسطيني...
وقد ظلّت القضية الفلسطينية عالقة لم تتمكّن الإرادة الدولية من حلّها حتى في إطار الحدود الدّنيا التي استنبطها مجلس الأمن الدولي بعد حرب الأيام الستة، رغم التنازلات الهائلة التي قدّمتها الأطراف العربية، وبذلك تظلّ القضيّة الفلسطينيّة قضية راهنة لا تهم في الواقع الشّعب الفلسطيني وحده ولا العرب عامة بل هي قضيّة ذات أبعاد إنسانية ودولية. ومن تلك المنطلقات جميعا يظلّ الاهتمام بها متواصلا في جميع المجالات المعرفية عامّة وفي حقل المعرفة التاريخية خاصة وذلك بهدف مواكبة التّطورات الجديدة التي عرفها هذا الحقل سواء على المستوى المنهجي أو على المستوى المعرفي بالتوازي مع توفّر وثائق أوليّة جديدة تم الإفراج عنها في بعض الدول ذات العلاقة المباشرة كالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وخاصة الدولة الصّهيونيّة إذ استغل بعض المؤرّخين والباحثين في العلوم الاجتماعية تلك الوثائق لإعادة كتابة"تاريخ الدولة الصّهيونية" بعيدا عن الرّؤية الرسمية.
كما برزت بعض الدعوات العربيّة والفلسطينيّة تحديدا لكتابة تاريخيّة عربيّة للقضيّة الفلسطينيّة، وان كان الكاتب لا يدعي القيام بذلك أو الانخراط في تلك العملية الا أنه سعى للاستفادة من تلك الكتابات الجديدة، محاولا المساهمة في البحث من زاوية محددة وتحديدا الانكباب على فهم تطوّر الخطاب السّياسي إزاء القضيّة الفلسطينيّة وذلك انطلاقا من مبدأ التراكم في البحث التاريخي.
أشار الكاتب إلى وجود أقليّة يهوديّة بالبلاد التونسيّة نشط بعضها في إطار الحركة الصّهيونيّة واصطدمت تطلّعاتها ببعض"مشاعر" التونسيّين العرب المسلمين، فكان الفضاء الجغرافي التونسي مجالا للنّقاش والصّدام بل وحتى المواجهة أحيانا بين التّونسيّين مسلمين من ناحية ويهود تونسيّين وغير تونسيّين مقيمين بالبلاد من جهة أخرى، حول قضايا تتعلّق بفلسطين وبالصّهيونيّة الأمر الذي ولّد جدلا فكريّا وسياسيّا حول قضايا مرتبطة بالقضية الفلسطينيّة والصّهيونية وبوضعية الأقليّة اليهوديّة بالبلاد و"وطنيتها" كما طرحت مسالة انتمائها للفضاء التونسي بأبعاده المتعدّدة على خلفية نشاطاتها الصّهيونيّة وخاصة ولاءها وسعيها لتأسيس وطن بديل...وقد شكّلت كل تلك القضايا مادة ثرية تعبّر عن حيويّة الخطاب السّياسي في تونس وانفتاحه وفي نفس الوقت التزامه بقضية الشعب الفلسطيني. وقد بين الكاتب ما أغفلته الكتابات الفلسطينيّة والعربيّة التي تناولت موضوع تفاعل العرب، شعوبا ومنظّمات وأحزابا وصحافة وحكومات، مع قضية فلسطين والتي ركزت على بلاد الشام ومصر دون غيرها من المناطق، في الوقت الذي غيّبت فيه مسألة تفاعل المغرب العربي عامة والتونسيّين بالخصوص، مع تلك القضيّة ولذا جاء كتابه لبيان دورهم في مساندة نضال الفلسطينيّين خلال الفترة المدروسة على الأقل.
ومن المسائل المهمة التي بينها الكاتب مسألة تحديد درجة مساهمة القضية الفلسطينية، بأبعادها المختلفة، في تعميق الوعي السياسي الوطني والعروبي بالبلاد التونسية في فترة الاحتلال رغم خضوع الخطاب السياسي خلال الفترة المدروسة إلى رقابة مزدوجة: تتمثّل الرقابة الأولى في ما تمارسه الإدارة الاستعمارية من ضغوط مباشرة، أمّا النوع الثاني فهو الرقابة الذاتية خوفا من مقصّ الرقابة أو من الإجراءات الزّجرية.
وعليه تميز الخطاب السّياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية بعدم التجانس. ومع ذلك فقد وجدت عدة كتابات منها التي اهتمت مباشرة بدراسة نشاط التونسيين لصالح القضية الفلسطينية وكانت في شكل رسائل جامعية أساسا وبعض المقالات ومنها التي اختصت بدراسة نشاط الحركة الصّهيونيّة في تونس وموقف القوى السياسية من ذلك النّشاط.
ما يثير الانتباه أن النشاط الصهيوني بالبلاد التونسية كان له تأثير سلبي على الجالية اليهودية ما جعل تفاعل اليهود التونسيين مع القضايا الوطنية محدودا إن لم يكن منعدما كما كان انخراطهم في المنظمات والأحزاب الوطنية التونسية نادرا جدا أو يكاد.
وقد أدى هذا الأمر إلى اصطدام إرادتين، إرادة وطنية تونسية لا تفرّق بين التونسي سواء أكان مسلما أو يهوديا وبين الحركة الصّهيونية التي عملت على دفع اليهود التونسيين إلى الهجرة إلى فلسطين لدعم المشروع الصهيوني. وقد تصدّى الخطاب السياسي في تونس للخطاب الصهيوني وفكّك مرتكزاته وبيّن طبيعته الاستعمارية العنصرية وعبّأ الناس على هذا الأساس بهدف مواجهة نشاطات الحركة الصهيونية السياسية والمالية بالبلاد التونسية التي تخدم موضوعيا المشروع الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني.
تعددت مظاهر دعم التونسيين للقضية الفلسطينية ومساندتهم للشعب الفلسطيني منذ منتصف الثلاثينيات وكان ذلك نتيجة لتنامي الوعي السياسي المحلّي ومزيد اهتمام الرأي العام الوطني بالقضايا الدولية والعربية واقتناعه بعمق تأثيرها في المسألة الوطنية ذاتها. بل لربما راهن الوطنيون التونسيون والشبيبة المثقفة على جعل المسألة بمثابة الدربة لتوعية الناشئة.
وكان هذا الدعم غير مشروط سياسيا، فقد كان تحت شعار عدم التدخل في الشؤون الفلسطينية واحترام اختيارات القيادة والاكتفاء بالمعاضدة والمؤازرة ماديا وادبيا.
ومن المهم الإشارة إلى أن أشكال تضامن التونسيين في هذه المرحلة لم تصل إلى صيغ أرقى كتسيير المظاهرات أو اقامة التجمعات الجماهيرية أو المشاركة في القتال إلى جانب الفلسطينيين إلا بشكل محدود جدا. وقد تميّز محتوى الخطاب التضامني في تونس، تجاه القضية الفلسطينية، بالتّجانس النسبي وخاصة تجاه القضايا المحورية.
ويمكن الزعم أن المخاض الذي عاشه الخطاب السياسي في تونس بخصوص القضية الفلسطينية كان له الأثر الفاعل في بلورة الرأي العام المحلي وتطوره وتعميقه بشأن قضاياه الداخلية وهو أمر تعاظم أيضا تباعا بفعل المنافسة الداخلية فيما بين كتلتي حزب الدستور (الخط العروبي والخط الفرانكفوني).
..كما ازدادت مبادرات تضامن التونسيين مع الشعب الفلسطيني وتعددت أشكالها وعبّرت عن الارتباط العميق بين الشعبين ومعاناتهما المشتركة برغم اختلاف طبيعة الحالة الاستعمارية في كلا البلدين.
ولا شكّ أن ذلك التفاعل قد سمح بإجراء المقارنة بين ما يحدث هناك وما يحدث هنا.. وهو ما يشكّل في حدّ ذاته تثقيفا سياسيا غير مباشر وتحريضا مقنّعا أو ضمنيّا لمقاومة الاستعمار الفرنسي بالبلاد وتجذير الحسّ الوطني والنضالي في ظروف سياسية لا تسمح بحرية التعبير والرأي.
لقد انشغل الخطاب، برغم المصاعب، بقضايا جوهرية تهم المشروع الصّهيوني في فلسطين وبأبعاده وانعكاساته المختلفة ليس على الفلسطينيين فقط ولكن وبنفس الدرجة على العرب جميعا وخاصة الدول المحيطة بفلسطين وارتباط ذاك المشروع عضويا بالمشروع الاستعماري عامة والبريطاني خاصة.
وقد تطور تفاعل الخطاب بالقضية الفلسطينية إلى درجة طرح تصورات محدّدة للمقاومة: فرغم عدم تفضيل الخطاب لأسلوب نضالي على آخر، إلا انه أكد على ضرورة استخدام كل الوسائل المتاحة التي تتماشى وظروف الفلسطينيين والظروف الدولية عامة.
وتبرز فرادة الخطاب السياسي في تونس، في تلك المرحلة، في ما قدّمه من رؤى وبدائل عملية لحلّ القضية الفلسطينية و"اليهودية"، ففي الوقت الذي أدان فيه الحركة الصّهيونيّة ورفض قيام الدولة الصّهيونيّة طرح مشروع الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية التي يعيش فيها الفلسطينيون واليهود كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
غيّب الخطاب تحليل مسؤولية القوى الكبرى في ما وصل إليه وضع الشعب الفلسطيني وخاصة دورها في إصدار قرار التقسيم وتحديدا دور الولايات المتحدة الأمريكية الذي تنامي بعد الحرب العالمية الثانية الذّي كان حاسما في مساندة قيام "الدولة الإسرائيلية" وجرّ العديد من الدول الصغرى للقبول بالقرار. ولكن لم يستسلم الخطاب السياسي في تونس للكارثة التي حلّت بالعرب بل لوحظ رفضه لها وطرحه بدائل عملية، فقد تناول الخطاب السياسي التونسي الأسباب العميقة التي أدت إلى الهزيمة سنتي 1947-1948 وقد أكد على عدة قضايا ذات أهمية بالغة كغياب الممارسة الديمقراطية وسيادة أنظمة الاستبداد السياسي والتأخر الاقتصادي والاجتماعي. ولكنه في المقابل لم يستسلم للهزيمة بل رفضها وطرح عدة بدائل عملية لتجاوزها كتحقيق الوحدة السياسية بشكلها الفدرالي ودعوة الأحزاب لتنسيق عملها بهذا الاتجاه.
رغم أن الحركة الصهيونية ما انفكت تطرح نفسها، بإمكانيتها، "كطرف" في الصراع وعرضت خدماتها على الحركة الوطنية التونسية مقابل أن تقوم هذه الأخيرة بدفع الدول العربية للاعتراف بها وقد وجدت في بورقيبة السياسي المتفهم للمسألة اليهودية مع أن الخطاب التونسي الوطني قد انغمس في الهمّ الفلسطيني وكان يرى في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى البديل الأكثر نجاعة لتحقيق المطالب الفلسطينية المشروعة غير أن الهزيمة التي مني بها العرب وانتصار الحركة الصّهيونيّة وحلفائها شكلت صدمة كبيرة لهذا الخطاب.
ساهم الخطاب في تشريح الأسباب المختلفة التي أدت إلى "النكبة" بكل جرأة وروح نقدية، وقد حاول في الوقت ذاته تقديم بعض البدائل العملية الكفيلة بتجاوز مخلفات "النكبة". وكان لتطور الأحداث في فلسطين وبلدان "الجوار" العربية والتحولات العالمية أن دفعت بهذا الخطاب إلى مراجعة تصوراته وحتى تحالفاته في الداخل والخارج وكان من نتائج ذلك تراجع اهتمام الخطاب بالقضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة بها الى درجة دنيا بل غيّبت القضية تماما من الأدبيات التونسية أو تكاد.. ومقابل ذلك برز اتجاه قويّ يعمل على استثمار الواقع العالمي الجديد والاقتراب أكثر فأكثر من الحركة الصهيونية ودولة "اسرائيل" وذلك في محاولة منه لفكّ الارتباط القائم بين الحركة الصهيونية وبعض اليهود التونسيين وفرنسا، التي حاولت خلق "مشكل يهودي" في البلاد بغية تأليب الرأي العام الدولي والحركة الصّهيونيّة العالمية ضد الحركة الوطنية التونسية وإبرازها بصفتها حركة "تعصّب ديني" وذلك بهدف عزلها وتهميشها.
وبالنتيجة بدأت الاتصالات مع الحركة الصهيونية العالمية وبعض ممثلي الدولة الصهيونية في إطار مساومات سياسية تخدم مصالح الطرفين. ويظهر أن الطرف التونسي قد غلّب مصلحة القضية الوطنية على القضايا المبدئية والقومية والإنسانية ومنها القضية الفلسطينية إذ عبّر بعض القادة الدستوريين عن استعداد حكومة الاستقلال التي سيقودها بورقيبة القيام بدور "عرّاب" العلاقات العربية الإسرائيلية.
وقد تفاعل الخطاب السياسي في تونس أيضا مع جميع الأحداث والتطورات التي عرفتها القضية الفلسطينية بعد الحرب العالمية الثانية ورفض جميع المبادرات التي طرحت لحلها وراهن على الحرب التي رأى فيها حلا وحيدا وخلاصا نهائيّا لمأساة الفلسطينيين وعبّأ الناس على هذا الأساس، إلا أن هزيمة الدول العربية دفعت الخطاب لمراجعة البعض من المسلمات ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية انطلاقا من بحثه عن أسباب الهزيمة، وطرح بدائل عملية لتجاوزها غير أن الخيبة قد تعمّقت. فأخذت مساحة اهتمام الخطاب بالقضية الفلسطينية تتقلص لكون الخطاب على وعي بالمتغيّرات الدولية والظرفية العالمية الجديدة فحاول الاستفادة منها وتوظيفها لصالح القضية الوطنية التونسية التي أصبحت تحتل صدارة تفكيره ونشاطه.
لقد تناول الكتاب مسألة معقدة وشيقة تفاعل فيها البعد الوطني التونسي والبعد القومي والإسلامي الأمر يغري القارئ ويشد انتباهه. ويعتبر الكتاب إضافة قيمة بكشف الكثير من المواقف التي عاشها الشعب التونسي وكادت مواقف بورقيبية الواقعية الاستسلامية تطمسها إلا أن إرادة الشعوب أقوى من السياسات الملتوية والروابط القومية والإنسانية فوق الحدود.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.