ضمن سياق سحب الذرائع التي تتحجج بها الولاياتالمتحدة الأميركية ، وافقت الحكومة السودانية نهائيا على حزمة "العيار الثقيل" من الدعم الأممي للقوة الأفريقية في دارفور في إطار اتفاقها الأخير في أديس أبابا مع كل من الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي.و تشمل المرحلة الثانية من خطة دعم الأممالمتحدة للقوة الأفريقية المنتشرة في دارفور على نشر مروحيات هجومية وسيارات نقل مدرعة وثلاثة آلاف جندي افريقي الى جانب سبعة آلاف آخرين موجودين هناك . وجددت الحكومة السودانية تمسكها ب "عملية هجين" وليس "قوات هجين"(مشتركة) من المنظمة الدولية والاتحاد الافريقي تحت قيادة واحدة تكون مطابقة للمعايير والقواعد المعمول بها في الاممالمتحدة ، كما يرى نائب وزيرة الخارجية الأميركية جون نيغروبونتي الذي زار الخرطوم مؤخرا ، ووضع السودان بين خياري المساعدة في تحسين الوضع في إقليم دارفورأو التعرض إلى عزلة دولية، متهما في الوقت عينه الحكومة السودانية بتقييد النشاط الإنساني في غرب البلاد. ورغم قبول السودان بنشر قوات دولية تحت مظلة الاتحاد الإفريقي في إقليم دارفوربدعم لوجستي وفني من الأممالمتحدة ، فإن الإدارة الأميركية كشرت عن أنيابها الحادة ، لجهة تنفيذ الخطة (ب) العقابية ضد حكومة السودان والتي تسرب منها حظر سفر ثلاثة مسؤولين كبار في الحكومة، بيد أن الأمين العام للأمم المتحدة طلب إرجاء أمر العقوبات الأمريكية حتى يستنفد كل القنوات الدبلوماسية مع السودان، وهكذا أجلت الإدارة الأمريكية التنفيذ لأسابيع إكراماً لخاطر كي مون! إن التطبيع الذي تريده الولاياتالمتحدة مع السودان هو تطبيع مشروط، ومرتبط بحل أزمة دارفور .و لعل من أهم هذه الشروط نزع سلاح ميليشيات "الجنجاويد"، و التي لا يمكن أن يكون لها وجود بدون دعم قوي من الحكومة، ونشر قوة مشتركة سريعاً تحت قيادة الأممالمتحدة ،حسب وجهة النظر الأميركية.لكن الولاياتالمتحدة لاتزال تضغط دائما على الحكومة السودانية لجهة التطبيع الكامل مع إسرائيل كشرط رئيس لحل أزمات دارفور و الجنوب، وهو ما رفضه النظام السوداني ، لسببين ، الأولو يتعلق بقاعدته الإسلامية الواسعة، و الثاني بمبادئه حيال فلسطين. لقد تحولت الحرب المستمرة منذ أربعة أعوام في إقليم دارفور بغرب السودان بين ميليشيات تدعمها حكومة الخرطوم وجماعات متمردة رفضت اتفاق السلام الموقع في أبوجا، في أيار (مايو) 2006، إلى صراع دام مفتوح بين أطراف عديدة يهدد بتقويض أكبر جهود إغاثة إنسانية في العالم. فالميليشيات ومتمردون وجماعات منشقة على جماعات التمرد وقطاع طرق ونحو مايزيد على 70 قبيلة يتقاتلون على كل شيء من السلطة إلى قطعان الماشية.. يدمرون القرى ويشردون مزيدا من الناس ويغتصبون موظفي الاغاثة ويخيفونهم لإبعادهم.ويقدر الخبراء أن نحو 200 ألف شخص قتلوا وأن 2.5 مليون شخص نزحوا عن منازلهم منذ اندلاع الصراع في عام 2003 حين حمل متمردون السلاح ضد الخرطوم متهمين الحكومة بإهمال المنطقة. ليس من شك أن توقيع الحكومة السودانية اتفاقيات سلام محدودة بين بعض أطراف النزاع في دارفور والجنوب، من دون العمل على إشراك مكونات المجتمع السوداني السياسية، لن يغير في الأوضاع شيئاً،و لن يحل حزمة المشاكل التي يعاني منها السودان. وعلى رغم من أن اتفاقيات السلام هذه حققت بعض التقدم ، فإن نتائجها ظلت محدودة، وهمشت الكثير من مكونات المجتمع السياسي والمدني من المشاركة في إيجاد حل جذري لمشاكل تهم كل السودانيين. فالسودان يعاني من موقف متناقض، حيث لا تزال تبعات حرب طويلة ومكلفة في الجنوب، ومعضلة إنسانية لامتناهية ومتنامية في دارفور، فضلاً عن مشاكل أخرى في البلد. ذلك أن الحكومات السودانية المتعاقبة على الحكم منذ فجر الاستقلال ، لم تستطع أن تعالج المشاكل المستعصية التي لها جذور تاريخية في التربة السوسيولوجية التاريخية السودانية ، مثل مشاكل الإهمال والتهميش التي تعاني منها الأقليات الإثنية والدينية المتعددة في السودان ، و هي مشاكل كانت دائماً ذات أبعاد متعددة، أحياناً قبلية، وأحياناً دينية (مسلمين، مسيحيين، احيائيين) إضافة إلى أبعاد إثنية (أفارقة، عرب... إلخ) ، و المشاكل الموروثة من مخلفات الاستعمار البريطاني . و هناك مشاكل أخرى أسهمت في تغذية الصراع في أجزاء مختلفة من البلاد بما في ذلك ندرة المياه والموارد الطبيعية، والفقر، وافتقاد الديموقراطية، إضافة إلى تسع دول جوار لكل منها مشكلاتها وصراعاتها الخاصة. إن أزمة السودان ، هي مركبة في آن معا: في الشق الأول منها ،أزمة ديمقراطية، وفي الشق الثاني منها، أزمة هوية حادة.ومعالجة هذه الأزمة لوضع حلول جذرية و نهائية لتلك المشاكل التي أسلفنا في الحديث عنها ، يحتاج إلى بلورة مشروع مجتمعي جديد يركز على بناء دولة المواطنين التي يحتفظ كل سوداني فيها بجميع حقوقه، بغض النظر عن انتمائه الديني أو القبلي. فالنزاعات في دارفور، أو في الجنوب ، إذا استمرت، ستقود حتما إلى تقسيم السودان. وليس أمام القوى السياسية السودانية وحركات التمرد بدارفور والحزب الحاكم سوى تبني الديموقراطية، أهدافا وممارسات، لإعادة الثقة داخل النسيج الاجتماعي، وبناء المواطنة على أساس التعددية لاعلى أساس الانتماء القبلي الضيق. ملاحظة: وقع تعديل العنوان جزئيا من قبل صحيفة الوسط التونسية. أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني.