هام/ فحوى لقاء رئيس الجمهورية باللواء عماد مصطفى الطرابلسي وزير الداخلية الليبي المكلّف..    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    مع الشروق ..نتنياهو ولعبة حافّة الهاوية في رفح    النادي الصفاقسي يوضح تفاصيل احترازه ضد الترجي    صادرات قطاع القوارص ترتفع بنسبة 15,4 بالمائة    جامعة كرة القدم تحدد موعد جلستها العامة العادية    مجلس الحرب الصهيوني يقرر استمرار العملية العسكرية في رفح    هل يساهم تراجع التضخم في انخفاض الأسعار؟.. خبير اقتصادي يوضّح    طقس الليلة: مغيم مع هبوب رياح قوية في كافة مجالاتنا البحرية    ياسمين الحمامات.. القبض على تونسي وامرأة اجنبية بحوزتهما كمية من المخدرات    أريانة.. غلق المصب العشوائي بسيدي ثابت    مدنين: حجز أكثر من 11 طن من الفرينة والسميد المدعم وحوالي 09 أطنان من العجين الغذائي    فتح بحث تحقيقي ضدّ المنصف المرزوقي    لأول مرة في مسيرته الفنية: الفنان لمين النهدي في مسرحية للأطفال    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة 'سينما تدور'    وفاة مقدم البرامج والكاتب الفرنسي برنار بيفو    رئيس إقليم ''الصوناد'' بمنوبة: اضطراب التزوّد بالماء ناتج عن كسر مفاجئ    رياض دغفوس: لا يوجد خطر على الملقحين بهذا اللقاح    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    كرة اليد: المنتخب التونسي يدخل في تربص تحضيري من 6 إلى 8 ماي الجاري بالحمامات.    التيار الشعبي : تحديد موعد الانتخابات الرئاسية من شأنه إنهاء الجدل حول هذا الاستحقاق    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    عاجل : القاء القبض على السوداني بطل الكونغ فو    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    تعرّض أعوانها لإعتداء من طرف ''الأفارقة'': إدارة الحرس الوطني تُوضّح    بداية من مساء الغد: وصول التقلّبات الجوّية الى تونس    عاجل/حادثة اعتداء تلميذة على أستاذها ب"شفرة حلاقة": معطيات وتفاصيل جديدة..    ناجي جلّول يترشح للانتخابات الرئاسية    سليانة: حريق يأتي على أكثر من 3 هكتارات من القمح    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    الرابطة الأولى: البرنامج الكامل لمواجهات الجولة الثالثة إيابا لمرحلة تفادي النزول    جندوبة: تعرض عائلة الى الاختناق بالغاز والحماية المدنية تتدخل    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    عاجل/ حزب الله يشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا على مستوطنات ومواقع صهيونية    مطالب «غريبة» للأهلي قبل مواجهة الترجي    صادم: قاصرتان تستدرجان سائق سيارة "تاكسي" وتسلبانه تحت التهديد..    اليوم: طقس بمواصفات صيفية    منافسات الشطرنج تُنعش الأجواء في سليانة    القيروان ...تقدم إنجاز جسرين على الطريق الجهوية رقم 99    مصادقة على تمويل 100 مشروع فلاحي ببنزرت    أنباء عن الترفيع في الفاتورة: الستاغ تًوضّح    عمر كمال يكشف أسرارا عن إنهاء علاقته بطليقة الفيشاوي    ثورة الحركة الطلابية الأممية في مواجهة الحكومة العالمية ..من معاناة شعب ينفجر الغضب (1/ 2)    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب هذه المنطقة..    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة السابعة    عاجل/ مقتل شخصين في اطلاق نار بضواحي باريس..    أهدى أول كأس عالم لبلاده.. وفاة مدرب الأرجنتين السابق مينوتي    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    اجتماع أمني تونسي ليبي بمعبر راس جدير    جمعية مرض الهيموفيليا: قرابة ال 640 تونسيا مصابا بمرض 'النزيف الدم الوراثي'    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهادة للّه ثمّ للتّاريخ : مساهمة في حوار المصالحة


قال تعالى:
أعتذر أوّلا إن أسأت لأحد في هذه المقالة، فما أردت ذلك أبدا، ولئن تسيء الكلمة الحرّة والصّادقة بعضا من الخلق، فهذه مشكلتهم، ولقد آخترت أن أرضي ربّي ولو سخط النّاس.
لقد دفعني لهذه المقالة ما قرأته هذه الأيّام في السّجال الدّائر بين رفاق الأمس في حركة النّهضة، وخاصّة ما جاء في ذلك الحوار الأخير الذي أجراه الأخ عبد الباقي خليفة مع الأستاذ راشد الغنّوشي، وما فيه من عدم تصوير كامل للمشهد التّاريخي السّياسي الذي لازم علاقة الحركة بالسّلطة منذ 1981 بداية تاريخ أوّل المواجهات المريرة بينهما.
والذي دفعني إلى هذه المقالة كذلك ما نشاهده للأخ الغنّوشي من تغييب معطيات هامّة وأساسيّة وحاسمة كانت هي وراء العلاقة العدائيّة مع السّلطة منذ ذلك التّاريخ، ولعلّ التّذكير بهذه الحقائق التّاريخيّة، ممّا يسهم في تعديل الصّورة وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، كما يسهم في تقديري من رفع الأزمة الطّويلة والعميقة بين حركة النّهضة والسّلطة.
ولا أبالغ إن قلت: لقد ظهر لي أنّ الرّجل يتعمّد في كلّ مناسبة إخفاء كلّ هذه الحقائق التي سأذكرها، و في كلّ فرصة تتاح له، سواء كان في كتبه أو في برنامج المراجعات في قناة الحوار أو في الحوارات التي يجريها وآخرها الذي أشرت إليه آنفا والذي نشر في موقع تونس ان لاين بتاريخ 24 ماي 2007.
إنّي لا أريد أن أبقى متفرّجا على ما يحدث وكأنّ الأمر لا يهمّني، إذ من لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم، ولأنّي لا أريد أن أساهم في تضييع التّاريخ والتشويش على الناس وصدهم عن معرفة الحقائق.
هذا وإنّي أحمّل المسؤوليّة الدّينيّة والتّاريخيّة والإنسانيّة كاملة على كلّ الإخوة الذين ذكرهم الأخ محمد الهاشمي الحامدي، وخاصّة الأخوين مختار بدري وجمال الطاهر إذ يجب عليهما أن يدليا بدلوها وأن يشهدا بالحقّ وللحقّ. لأنّ كتم الشّهادة في وقت الحاجة إليها يعدّ نوعا من شهادة الزّور وكتمان الحقّ والإعانة على تلبيس الحقّ بالباطل.
إنّ العاقل ليحزن ممّا يراه من سيطرة طغيان الأثرة السّياسيّة يكاد يحصر في تونس في شخص واحد يعطّل كلّ خير للبلد، ويعظم الأمر إذا كان من رجل يعلن أنّه يعمل للدّين، فهل وصل العمل السّياسيّ في تونس إلى مثل هذا المستوى من التّعاسة والبؤس والتّدهور؟
إنّ الكثير من المراقبين والعارفين يكادون أن يجمعوا على أنّ التّجاذب بين حركة النّهضة والسّلطة، أصبح شخصيّا.
وعندما أتناول هذه الحقائق لا أريد ممّن تزعجه أن يطعن فينا، فإنّي وللّه الحمد لم أتحصّل على جواز سفر ولم أرجع إلى البلد، وكنت دائما ولا زلت أدعو السّلطة في أكثر من مناسبة أن يخرجوا كلّ الإسلاميّين من السّجن، وأن يرفعوا أيديهم عن التّحكّم في التزام النّاس بدينهم، دين الجميع ، وأن لا يطوّع لخدمة أغراض حزبية من حركة النّهضة أو من السّلطة، وأن لا يوظّف من أيّ جهة كانت، وأن يتخلّى كلّ منهما عن تلك الأوهام فإنّ إسلامنا أعظم من أن يبقى أسيرا بين فرقاء النّخبة.
هذه شهادات تاريخيّة، وكتمها في وقت الحاجة إليها يعدّ تلبيسا وتزويرا قال تعالى:" وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ". وقال أيضا:" وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ "، ومخالفتي للسّلطة لا تمنعني من إعطائها الحقّ، الشّهادة لها بالصّدق، قال تعالى:" وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".
إنّ من الكلمات التي دفعتني للرّدّ وبيان الجانب الآخر الذي لم يذكره الأخ الغنّوشي ما جاء عنه:
منذ أن أعلنا عن أنفسنا سنة 1981 والتفاوض معنا يتم بأدوات القمع.... الفترة التي شهدت نوعا من توقف الملاحقات بدأت من 7 نوفمبر وحتى ما بعد الانتخابات بقليل.... ولسنا نحن الذين نقضناه و إنما الطرف الآخر بسبب نتائج الانتخابات 1989... لما تبين أن النهضة لم يتم احتواءها بالأدوات السياسية استخرج عصاه وعاد الوضع لما كان عليه في عهد بورقيبة...
هذا يؤكد أن الحركة لم تراهن على احداث ثورة أو انقلاب في تونس... فأين مزاعم محاولة الحركة السيطرة على الحكم؟
وممّا دفعني إلى ذكر هذه الشّهادة أيضا، قول الأخ محمّد الهاشمي الحامدي:"في ذات المساء، دعوت إلى بيتي الأخوين مختار بدري وجمال الطاهر، وهما من أصدقائي وزملائي أيام الجامعة، وحدثتهما بالأمر، وطلبت منهما إبلاغه لك ولقيادة حركة النهضة".
إنّ العاقل المتجرّد المنصف والعارف المتّبع للمنهج الإلاهيّ في معالجة الأخطاء يعرض أمره إلى القرآن الكريم لعلاج ما يصيب الفرد والجماعة.
وقبل أن أدلي بهذه الشّهادة، إسمح لي أخي القارئ أن أذكّر بحقيقتين عظيمتين هامّتين تساعدان على ضبط الأمور في مثل هذه المسائل وهما:
إنّ من السّنن المعلومة لدى كلّ ذي عقل سليم أنّ كلّ ما يصاب به الفرد والجماعات والأمم و الدّول و الحضارات من فشل وهزائم على كلّ الأصعدة إنّما مردّه وسببه إخلالاتهم وتقصيرهم وإعراضهم عن الالتزام الكامل بالسّنن والقوانين التي وضعها المشرّع الحكيم.
وأنّ هذه السّنن عامّة وشاملة لا تتحوّل ولا تتبدّل ومن ثمّ فهي تحلّ على الجميع ولو كانوا خير البشر على الأرض ومعهم أعظم رسول، إذ لا يشفع لهم ذلك في شيء إن هم لم يمتثلوا لأوامر الله تعالى وأوامر رسوله، ألم تر ماذا أصاب الصّحابة ومعهم نبيّهم يوم أحد." أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُم أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "
وقال سبحانه و تعالى:" حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم من يّريد الدّنيا ومنكم من يّريد الآخرة ":"وهو تقرير لحال رماة أحد. وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة، ووقع النّزاع بينهم وبين من يرون الطّاعة المطلقة لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانتهى الأمر إلى العصيان بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النّصر الذي يحبّونه. فكانوا فريقين وتوزّعت القلوب فلم يعد الصّفّ وحدة، ولم يعد الهدف واحدا وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتّجرّد الذي لا بد ّمنه في معركة العقيدة فمعركة العقيدة ليست ككلّ معركة. إنّها معركة في الميدان ومعركة في الضّمير ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضّمير إنّها معركة لله، فلا ينصر الله فيها إلاّ من خلصت نفوسهم له:" منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها، ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتّقوها " ....
ولقد تكرّر خطأ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم في حنين حين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولّوا مدبرين إلاّ القليل منهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم" لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَت عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِين"
فإذا كانت الهزيمة تلحق ذلك الجيل الفذّ والفريد والقدوة وهم على ما هم فيه من النّقاوة والطّهارة بسبب معصية واحدة فكيف لا تلحق غيرهم" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " و " وما أصابك من سيّئة فمن نفسك".
ويزيد الرّسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم تبيين هذه الحقيقة بشكل واضح لا لبس فيه أنّ الكوارث التي تحلّ بالنّاس ما هي إلاّ عقوبة إلاهيّة بسبب الذّنب والمعصية:" ما اختلج عرق ولا عين إلاّ بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر". ويقول:"لا يصيب رجلا خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلاّ بذنب وما يعفو الله أكثر" ويقول:" المصائب والأمراض والأحزان في الدّنيا جزاء". بل جعل الذّنب سببا مانعا للرّزق وسببا من أسباب الكساد الاقتصادي فقال:" إنّ الرّجل ليحرم الرّزق بالذنب يصيبه".
وعلى هذا درج السّلف الصّالح في فهم المسائل، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه : "ما نزل بلاء إلاّ بذنب وما رفع إلاّ بتوبة". وهذا ابن القيّم يزيد الأمر تجلية:"فكلّ نقص وبلاء وشرّ في الدّنيا والآخرة فسببه الذّنوب ومخالفة أوامر الرّبّ، فليس في العالم شرّ قطّ إلاّ والذّنوب موجبتها".
وانظر إلى عظم فقه ابن عبّاس في تأويل قوله تعالى لهذه الآية " قُلْ هُوَ الْقَادِر عَلَى أَنْ يَبْعَث عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقكُمْ " فَأَئِمَّة السُّوء " أَوْ مِنْ تَحْت أَرْجُلكُمْ " فَخَدَم السُّوء وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس " عَذَاب مِنْ فَوْقكُمْ " يَعْنِي أُمَرَاءَكُمْ" أَوْ مِنْ تَحْت أَرْجُلكُمْ " يَعْنِي عَبِيدكُمْ وَسَفَلَتكُمْ وَحَكَى اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ أَبِي سِنَان وَعَمْرو بْن هَانِئ نَحْو ذَلِك...
إنّ المخالفة مجلبة للكوارث قطعا، قال تعالى:"فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة.... " قال ابن كثير:" أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرّسول باطنا وظاهرا " أن تصيبهم فتنة " أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة " أو يصيبهم عذاب أليم " أي في الدّنيا بقتل أو حدّ أو حبس أو نحو ذلك !!! فهذا قول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى الذي يجعل الحبس والقتل وغيره لسبب خلل الذين يبكون اليوم ويجعلون الخصم هو سبب كلّ شيء.
فهل يمكن أن يطعن في الإمام ابن كثير ويقال له: إنّه يصفّي حسابات مع من خالفهم؟ أم تعدّونه رجعيّا وغير ديمقراطيّ كما يروّج المتهوّكون ضدّ كلّ من يسلم أمره للنّصّ؟
إنّ الأصل في الأشياء عند حصول الكوارث والهزائم أن يقيّم من نزل عليهم البلاء أحوالهم تقييما جادّا وعميقا ويحفروا في أنفسهم بجدّ وعمق وأن يؤوبوا إلى الحقّ: لأنّ المسلم دينه آتّباع الحقّ والتّمسّك به، ومن ثمّ تراه حريصا على الأخذ بالأسباب التي تدلّه على الحقّ والثّبات عليه. ألم تر إلى القرآن وقد حفر في أنفس الصّحابة وكشف عن بعضهم الذين ضعف إخلاصهم وتحوّلت نيّاتهم إلى الدّنيا " منكم من يريد الدّنيا" وكفى بذلك ذنبا عظيما يسبّب الكوارث.
إنّه لا بدّ من تقويم ومحاسبة جادّة وعزم على التّخفّف من تلك المثقلات الجالبة للهزائم، ثمّ فرار إلى التّضرّع و التّوبة ثمّ الانطلاق الجديد، وانظر إلى عظم فقه الإمام ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى:" أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ " حيث يقول رحمه الله تعالى:" أي لا يتوبون من ذنوبهم السّالفة ولا هم يذّكّرون فيما يستقبل من أحوالهم."أليس هو دعوة منه إلى محاسبة للماضي من أجل غد أفضل؟
لقد جاءت آيات عديدة تؤكّد هذه الحقيقة: أنّ الابتلاء للتّضرّع والإنابة والتّوبة والأوبة إلى الله تعالى وإلى تصحيح المسار لا إلى العناد والسّقوط في حبل مشنقة الرّضا عن الذّات وجعل كلّ أسباب كوارث البلاد في الخصوم.
لمّا أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيّته وفرق حاجبه فوقع وعليه درعان والدّم يسيل، فأراد الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يرجع سبب هزيمة أحد إلى العدوّ فقال قولته الشّهيرة " كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟ ، فبدأ يدعو في القنوت على خصومه ويلعنهم قائلا :" اللّهمّ العن فلانا وفلانا اللّهمّ العن الحارث بن هشام اللّهمّ العن سهيل بن عمرو اللّهمّ العن صفوان بن أميّة " فعالجه القرآن المعالجة الصّحيحة الدّقيقة فنزلت هذه الآية " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون". فتيب عليهم كلّهم. ثمّ أرجعه بعد ذلك النّهي إلى السّبب الحقيقيّ للهزيمة " حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم ...."
إنّ السّبب الأوّل والرّئيس للهزيمة التي يقع فيها الفرد أو الجماعة ليس الخصوم ولكنّنا نحن الذين نرفع الإسلام ولم نرتق بعد إلى مستوى تعاليمه فلأنّنا لم نحقّق النّصر في ذواتنا لم يتحقّق لنا شيء في الواقع. ولأنّنا لم نأخذ بكلّ الأسباب الشّرعيّة والقدريّة لم نوفّق للبديل المنشود. ولأنّنا لم نغيّر أنفسنا نحو الأكمل لم يتغيّر واقعنا إلى الأفضل.
وما أكثر ما تسمع من الإسلاميّين الشّكوى من ظلم الإستبداد وهم يظلمون بعضهم بعضا، وما أكثر حديثهم عن خبائث المتحكّمين في رقابنا وهم يحملون أوزارا عظيمة، وكم ينمّمون غيبة فيمن خلّط ممّن خالفهم وهم أعظم تخليطا وتحريفا، وما أشطرهم في تحويل هزائمهم نصرا، وما أبرعهم في تحميل خصمهم كلّ أسباب فشلهم.
لقد رأيتهم أكثر النّاس سبّا ولعنا لخصومهم ثمّ لا يعملون، أمّا الخصوم فهم أكثر عملا و صمتا!!! ولو رجع أولئك إلى أنفسهم وأقرّوا بفشلهم وحمّلوا المخطئين منهم أخطاءهم ونال كلّ حسابه لكان خير لهم وأشرف وأفضل. لقد عزل الفاروق خالدا بن الوليد المنتصر في كلّ معركة لأنّه خاف عليه أن يفتن النّاس، فكيف يستميت الفشلة في التّمسّك بكراسيهم وقد كسّروا رؤوسنا بواجب تداول السّلطة وهم أكثر النّاس تمسّكا بها.
شهادة شاهد عيان:
ولانّ معرفة الحقيقة حقّ الجميع، فهذه هي معطيات شاهد عيان، عاش طرفا كثيرا من هذه المرحلة، حتّى يعلم الجميع شطر الحقيقة التي تسعى أطراف معروفة عدم إبدائها، ولست أدري مصلحة من يراد إخفاؤها ؟؟ حتّى أنّ المرء ليحقّ له أن يتساءل هل هؤلاء يعملون من أجل مصلحة كلّ البلاد أم لأشياء أخرى؟
1 لقد بدأت أوّل مواجهة مع السّلطة سنة 1981 وكان سببه الحقيقي والمباشر الذي لا يريد دائما أن يذكره الأستاذ الغنّوشي هو عثور السّلطة على التّنظيم السّرّي للحركة في 5 /12/ 1980، وكان الأستاذ هو المسؤول الأوّل والمباشر على تلك الكارثة بحكم لوائح رئاسته الحركة. ولم يكفه ذلك بل ساهم في تسريع المواجهة بإصراره على التّدريس في المساجد.
هذا وليعلم النّاس أنّه لم تتّفق كلّ أطراف السّلطة على شنّ تلك الحملة، فأشهد الله تعالى وملائكته أنّ شخصا محترما وكان صديقا للوزير الأوّل آنذاك هو سي محمّد المزالي أبلغه رسالة شفويّة مفادها أنّ السّلطة قرّرت مواجهة الحركة وهو غير موافق على ذلك، وكان ذلك قبل آنطلاق الحملة، وكان ذلك الشّخص قد أبلغني تلك الرّسالة لأوصلها إلى الحركة.
2 المواجهة الثّانية: التي جاءت سنة 1987إثر إنكشاف أرشيف الحركة في منطقة الزّهروني بالعاصمة سنة 1986، وكان المسؤول عن ذلك هو الأستاذ الغنّوشي.
3 المواجهة الثّالثة: على إثر إنتخابات 1989، ولقد كان الأخ الغنّوشي هو السّبب المباشر وراء تأجيج الصّراع حيث خالف قرار مجلس الشّورى وكنت أحد أعضائه وكان قد قرّر أن يشارك في العمليّة الإنتخابيّة في قائمة مستقلّة، بعد أن عرضت خيارات أخرى منها الدّخول في قوائم مشتركة، ربّما نتعرّض إليها في مناسبات أخرى.
وأصدر المجلس وهو السّلطة العليا بين مؤتمرين قراره وهو: أن تدخل الحركة في دوائر بين 3 إلى 5 ، لأسباب معلومة لا تخفى على كلّ عاقل، إلاّ أنّ الغنّوشي خالف ذلك القرار وأعطى الضّوء الأخضر لكلّ مناطق البلاد أن تدخل في كلّ الدّوائر، ممّا أخاف كلّ الأطراف في الدّاخل والخارج، وكان مثل تلك المخالفة العظيمة هي التي قسمت ظهر البعير، حيث أجّجت نار الحرب وتعجيل الكوارث.
أصرّ في تلك الفترة على التّدريس في المسجد الكائن بمحلّ سكناه، ممّا زاد في تأزيم المناخ السّياسي وتعجيل المواجهة.
4 الإنتحار الأخير: وهو ما أسمّيه وهو الإنقضاض على السّلطة، وقد جاءنا كلّ المكتب التّنفيذي على مجلس الشورى بذلك الوهم ووالله الذي لا الاه الاّ هو قد اعترضت على ذلك الوهم بكلّ شدّة في مجلس الشّورى على الأخ محمّد شمّام الذي تحمّل مشروع ما يسمّى ‘'فرض الحرّيّات''، وقلت له وللمجلس التنفيذي في آخر دورة حضرتها في مجلس الشّورى: ‘'لا أسلّمكم صكّا أبيض تفعلون به ما تشاؤون''، ولقد دعوت مجلس الشّورى وقتها إلى اليقظة وأن يتحمّل مسؤوليّته الشّرعيّة والوطنيّة والتاريخيّة والإنسانيّة كاملة وأن يرفع ما كان يمنعه عن نفسه من البحث فيه. وكان ذلك القول آخر ما قلته في مؤسّسات تلك الحركة حيث سجنت بعدها ثمّ هاجرت...
5 خروج الغنّوشي من تونس وتحريضه على الثّورة:
وهذا ممّا لا يمكن أن ينكره أحد فبعدما أوصل الحركة إلى مأزق سياسيّ وطلب رئاسة الحركة من الأخ الصّابر: الصّادق شورو فرفض ورفضت كلّ المؤسّسات أن تسلّمه رئاسة الحركة، خرج غاضبا وبدأ يسخّن الأجواء ويطلق التّصاريح الثّوريّة ويرسل الخطابات النّاريّة المسجّلة التي تحرّض على كلّ شيء وتقابل مع صدّام حسين ودعاه أن يأكل الكويت ثمّ السّعوديّة ثمّ ثمّ وممّا قاله في السّودان :" فلا مناص من تركيز الجهد الجماهيري على مجاهدة هذه الأنظمة الخائنة لتعريتها وتوهينها وارضاخها لسلطة الشعب و الإطاحة بها " آنظر صحيفة الإنقاذ الوطني السّودانية في تاريخ 25-04-1991.
هذه بعض المعطيات التي تذكّر الأخ الأستاذ راشد أنّه المسؤول الأوّل عمّا جرى، والله المستعان!!!
كما أنّه من المهمّ كذلك أن أذكّر ما فعلته سلطة 7 نوفمبر بعد تنحية الحبيب بورقيبة، وهي معطيات تاريخيّة مهمّة تسهم في إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه.
3 ما فعلته سلطة 7 نوفمبر مع حركة النّهضة:
أ أخرج الحركة من أكبر مأزق وقعت فيه وهو حدث 8 نوفمبر الإنقلابيّ الذي كانت النّهضة قد همّت بالقيام به ففشل، حيث أطلق الرّئيس بن علي سراح كلّ أبناء الحركة، وعولج الملفّ بأقلّ التّكاليف، وهذه المعالجة تشهد لرئيس الدّولة.
ب مكّن الحركة من شيء من المشاركة السّياسيّة وتجلّى ذلك في:
إدراج الشّيخ عبد الفتّاح مورو في قائمة أعضاء المجلس الإسلاميّ الأعلى، بقطع النّظر عن مدى فاعليّة تلك المؤسّسة.
دعوة الشّيخ عبد الفتّاح إلى حضور ندوة تلفزيّة فرفضت مؤسّسة الغنّوشي التّنفيذيّة لسبب غير مقنع.
حضور الحركة في الميثاق الوطنيّ في شخص الأخ نورالدّين البحيري وقد أمضى على الميثاق نيابة عن الحركة.
السّماح والإعتراف بالإتّحاد العام التّونسيّ للشّغل النّهضويّ، بل ولقاء الأخ عبد اللّطيف المكّي من طرف رئيس الدّولة نفسه.
مدّ الحركة ترخيصا لنشر صحيفة الفجر.
لقاء الأخ الغنّوشي برئيس الدّولة يوم 5 نوفمبر 1988.
إلغاء الأحكام التّي صدرت غيابيّا فيما يسمّى بمحكمة أمن الدّولة والتي ضمّت كلاّ من الإخوة: عبد الفتّاح مورو، حمّادي الجبالي، الحبيب اللّوز، سحنون الجوهري، محمّد الهاشمي الحامدي، خميس بن علي الماجري، وغيرهم لا أذكرهم ..
الخلاصة:
هذه شهادة رجل عاش في مؤسّسات الحركة يصرّح بها ربما لأوّل مرّة أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن ينفع بها.
إنّ الملاحظ أنّ الأستاذ راشد الغنّوشي خاصّة قد غالى في إرجاع أمر الهزائم الّتى لحقت به إلى السّلطة في تونس، وهذا يعدّ من قبيل التّعويض الممقوت.
وعليه أرجو منه أن يتوقّف عن هذا الأمر بعد ما ذكرت من أدلّة تقنع الحجر، أمّا المعاندون فلن تستطيع أن تقنعهم ولو جئتهم بكلّ الأرض أدلّة على أنّ العيب فينا وليس في غيرنا. إنّه ليس تفنّنا في جلدا الذّات وليس قسوة على النّفس ولكنّها الحقيقة المرّة. إنّها الحقيقة التي كشفها القرآن الكريم في أحد وحنين وغيرهما حيث لم يرجع تلك الخسائر إلى الخصم بل أرجعها إليهم.
إنّ إعلان تقييم جادّ من طرف الغنّوشي خاصّة لجدير بردّ الإحترام إليه وإلى حركته، والإسهام في بداية التّعاطي الجادّ مع أعقد ملفّ تونسيّ.
فلقد سارعت رسالة الشّيخ عبد الفتّاح مورو اللّطيفة التي بعث بها إلى الحبيب بورقيبة سنة 1984 وما فيها من آعتدال ولين إلى حلّ المواجهة الأولى التي وقعت بيننا وبينه. وكان لتلك الرسالة الأثر الطّيّب في نفس ذلك الرّجل ولقد ساعدت تلك الرّسالة على طيّ الملفّ وخروج الإخوة من السّجن في نفس تلك السّنة.
بل لعلّي أقول إنّ أعظم عمل لا بدّ أن يقوم به هذا الأخ راشد الغنّوشي وهو العمل المشرّف الذي ربما ينهي به عمله السّياسي أن يعلن تقييما صحيحا وشاملا يعرض فيه تحمّله جزءا كبيرا من مسؤليّته الكاملة للوضع العام في البلد إن لم يكن هو المسئول الرّئيسيّ الأوّل في إدخال الحركة في المواجهة المستمرّة مع الدّولة.
فمن المسؤول على وضع الحركة والبلاد إن لم يكن هو، وهو رئيس حركة النّهضة منذ 17 عاما؟ لماذا يحرص الأخ راشد الغنّوشي على تحميل السّلطة وحدها ولماذا يصرّ على ذلك في كلّ مناسبة أن يجعل السّلطة دائما هي الجانية؟؟؟
لقد جاء الوقت أن ننتهي عن خطاب المؤامرة وأن تكون السّلطة هي لوحدها المسؤولة.
فرجاء يكفي يكفي يكفي.
فلمصلحة من؟ فأين هي العقول؟
إنّي ما زلت أترقّب شهادة الأخوين مختار بدري وجمال الطاهر وغيرهما ممّن لم يذكرهما الأخ الهاشمي الحامدي، حتّى يتبيّن فعلا هل أهدر الأخ الغنّوشي فرصة ذهبيّة لإصلاح ذات البين مع السّلطة أم لا ؟؟؟
وحتّى يبدي الأخوان شهادتهما فكلّ حادث حديث.
-المصدر : الوسط التونسية -27 ماي 2007.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.