: الحوار كلمة جميلة وسنة ربانية ومهمة جليلة ابتعث لها الخالق سبحانه أنبياء ورسل وجعلها وسيلة مثلى في التواصل بين الخلق وفض النزاعات , وبرغم علو المقام الالهي الذي لايضاهييه مقام ولايبلغ شأنه شأن , فان ايات القران الكريم حفلت بحوار بين ابليس اللعين وخالق السماوات والأرض الذي يتعبد له الكون حجره وشجره ومخلوقاته الفيزيائية والحية بلغات لم تفلح الظاهرة الانسانية في فهمها وفقه كنهها واليات تحاورها... ابليس اللعين تحاور مع خالق السموات والأرض سبحانه وتوعد باغواء شرائح عظيمة من المجموعة البشرية ولم تتعجله برغم ذلك القدرة الالهية العظيمة بالعقاب بل ترك مصيره ومصير المفسدين الى يوم يبعثون . الهداية والقلوب تبقى أيضا أمرا ربانيا لايحيط بسرائره الا من يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور , وهو مايعني أيضا أن أمر الايمان يرتبط بكيان تعجز التقنية الحديثة عن كشفه حتى وان توصلت الثورة العلمية المعاصرة الى أجهزة قيل أنها تكتشف الكذب .. من هذا المنطلق فان الدور البشري والرسالي المتمثل لمرجعيات القيم الاسلامية لم يطلب منه التكشف على مافي قلوب الناس أو سرائرهم أو حياتهم الخاصة , وهو ماعنى أن محاكم التفتيش لم تكن يوما ما ظاهرة اسلامية أو ظاهرة تمثل الاسلام على صورته المشرقة التي قدمها خاتم الأنبياء وصحبه الكرام والراسخون في العلم للناس كافة .. وبالتأمل في قضايا الخلاف العقدي والديني بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الملل والنحل, فان النص الديني جاء واضحا وراسخا في التأسيس لحرية التعبد والاعتقاد , ومن ثمة فان المشهد البشري من منظور اسلامي عميق الوعي لابد أن يحتمل تنوعا فكريا وثقافيا ودينيا وايديولوجيا وسياسيا حتى وان كان متضاربا أو متناقضا أو ناسفا لأسس الاعتقاد الاسلامي , وهو مابرهنت عليه فعلا تجربة القيادة النبوية بالمدينة المنورة أو قبلها بمكة المكرمة حين تعايش الاسلام سواء كان في طور القوة والمنعة أو في طور الاضطهاد مع أصحاب الملل الأخرى ولم يلغها بل حماها بنصوص قرانية أو توجيهات نبوية أو وثائق دستورية مأسست لهذا التعايش وجعلته عقدا اجتماعيا تحديثيا في ظواهر التنظم والاحتكاك البشري . ماأصاب المسلمين بعد ذلك من تراجع ذهني وفكري وعلمي وحضاري , وأنهك الدولة في كيانها المركزي أو في أطرافها على مستوى الأمصار عجل بميلاد ظواهر التنازع والتناحر والاقتتال المدفوع بحوافز مذهبية او طائفية أو فقهية جعلت من علوم الكلام جوهر ومفرق تنازعها في قضايا لم تتقدم بالعالم الاسلامي وانما شغلته عن النهضة والتعمير والبحث العلمي وحركة الترجمة وتحديات العصر , وتطور الأمر الى ظواهر شوفينية قاتلة زادها تأجيجا ادخال الاسلام الى حلبة المنافسة السياسية التوظيفية والتعبوية من قبل بعض الجماعات التي بالغت في تضييق الواسع والتربص بالاجتهاد الفكري والسياسي المخالف . شكلت الظاهرة الاستعمارية في القرنين الماضيين والعصر الحديث محفزا اخر من أجل انشاء نخب قطعت مع تراث وحضارة شعوبها , ولقد تولت المؤسسة الاستعمارية القديمة مهمة زرع الفتنة الداخلية عبر اللعب على تناقضات الملل والنحل والفرق المذهبية التي تشق المنطقة ومن ثمة فقد وقع تطوير علوم الاستشراق بقصد فهم هذه التناقضات وتوظيفها في خدمة الصالح الاستعماري القديم والحديث. ولم تكن المهمة الاستشراقية بمعزل عن رغبة عارمة في التعويض عن الفشل العسكري في ادارة المنطقة , ومن ثمة فقد توسعت وظائفها خدمة وأداء في مجالات الثقافة والتعليم والاعلام من أجل التشكيك في أرصدة العالم العربي والاسلامي الحضارية والتعويض عنها بأخرى وافدة قيل انها أرقى تحديثية وأكثر مواءمة للعصر . واذا كان ماجلبه الغرب في هذه الحقبة عبر مؤسساته الفاعلة والقوية لم يخل من الغث والسقيم , الا أنه حمل بلاشك بذور عودة العرب والمسلمين الى دائرة الأضواء العلمية والتقنية والمعرفية في كثير من التخصصات , حيث كان النظام التعليمي الحديث بوابة الشرق نحو المؤسساتية الدقيقة والادارة المتطورة الوافدة عبر مناهج التعليم الغربي مع التأكيد على ان بداياتها انطلقت مع حقبة الحكم العثماني الذي استطاع أن ينافس الغرب في كثير من معارفه حين كانت امبراطوريته تدق ابواب فيينا . وفي العشريات الحديثة كان للأوضاع السياسية التي ورثتها المنطقة عن الحقبة الاستعمارية دورا اخر في تكريس انقسام نخبوي تعمدت الأنظمة توظيفه في ترسيخ تواصل بنيتها في منظومة الحكم والادارة , وهو مازاد في تأجيج صراع داخل البنية المؤسساتية للدولة وهوامشها حين خرج هذا الصراع الى الوجود بشكل معلن وحاد عبر محورين مازالا يمزقان بنية العالم الاسلامي الاجتماعية , ألا وهما المحوران العلماني والاسلامي . هذا التمزق الفكري والسياسي ذي الخلفية الدينية والذي شجع عليه الاستشراق ورعته مؤسسات حريصة على المكسب الاستعماري , سيظل في تقديرنا خادما للقروسطية السياسية والادارية والعلمية والتقنية التي مازلنا نعيشها في اطراف بعض بلاد العالم العربي والاسلامي وهو جوهر تعطيل حركة النهضة العربية المعاصرة وجوهر الداء الذي لم تتفطن له النخب برغم ادعائها للحداثوية والاضافية والابداع ... ماينبغي الوقوف عليه مراجعة من قبل النواتات الحاكمة والمعارضة والمساهمة في الشأن العام هو ضرورة الغاء الحدية في الاختلاف والافتراق في الرؤى على أرضية استيعاب الانساني المشترك والحضاري الجامع والتاريخي الموحد والمصيرى الاستراتيجي عوض العودة بالعالم العربي وقلب المنطقة الى مراحل داحس والغبراء وحرب البسوس . العالم العربي والاسلامي لابد أن يعود الى دوائر المواطنة والانتماء الحضاري ومفاهيم الوحدة الجامعة ورسم الرؤى المستقبلية على أرضية أن الوطن ملك للجميع والمؤسسات تحتضن كل الرؤى وتذوب منطق الحزبية الضيقة والايديولوجيات الدغمائية الجامدة , لنؤسس بذلك مرحلة تجديدية تخرج الاسلام من دائرة التوظيف السياسي الرخيص أو العداء والتحريض القبيح , لتجعل منه كما انطلق أداة للمحبة والحوار والتوحيد والتسامح والتسامي والترفع والاشراق والتألق والارشاد للخيرات وماينفع الناس ويمكث وينفذ في أقطار السموات والأرض ... انه الاسلام الوسطي المعتدل الذي نشدناه والذي نريد ان نراه أداة للرحمة بين أبناء الوطن الواحد وجسرا للتواصل فيما بينهم وقوة معنوية تعيد الوصال بعد القطيعة وتضع وزرا للحرب الصامتة بعد ان اشتد شوقنا الى السلم وتعيد للحوار كلمته العليا بين جوانب المجتمع وهياكل الدولة , وهو ميثاق اعتراف وجودي وسياسي وقانوني بالجميع خارج أطر السجن والات السحل الحقوقي والجلد الذهني والفكري للاخرين حتى وان كانوا مخالفين في العقائد والمذاهب والمدارس والفلسفات ... انها فعلا عظمة الاسلام الحضاري المتجدد تلقي بظلالها الوارفة على الوطن وتتسرب رقراقة بمياه عذبة في نماذج للانطلاق والريادة بين دول الجوار ومحيطنا المتوسطي الحالم بعلاقات دولية أكثر اعتدالا وعدلا وتسامحا وديمقراطية تحترم حق شعوب المنطقة في التحديث الحقيقي والمأسسة والاختيار الحر . حرره مرسل الكسيبي* بتاريخ 7 سبتمبر 2007 - 25 شعبان 1428 ه . *كاتب واعلامي تونسي- رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :