من النادر جداً أن تجد كتاب في هذا العصر يقدم نقداً جريئاً للحركة الصهيونية العالمية ويفضح عنصريتها وعنصرية مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، دولة إسرائيل، ضمن محاولة للبرهنة على أن الدولة الصهيونية بصورتها الحالية، ليست هي الحل الديمقراطي التاريخي للمسألة اليهودية. في كتابه الجديد "التغلب على الصهيونية إقامة دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين إسرائيل"، يعتبر الكاتب جويل كوفيل أن إقامة دولة علمانية واحدة على أرض فلسطين التاريخية، تكون وطناً لليهود والعرب الفلسطينيين معاً، بعد ان تتخلص من عقد الصهيونية، التي انتقت من الكتاب المقدس والتلمود وكتب الحاخامات شذرات بنت عليها تصورها لاستثنائية اليهود وتميزهم عن سائر الجنس البشري، امكانية تاريخية قائمة. قبل أن يتطرق إلى هذا الحل التاريخي، يستعرض المؤلف تاريخيا كيف استندت الصهيونية الى المعتقدات اليهودية التي جاءت في المزمورالشهير، والتي تمجد روح الانتقام وأشكال العنف كلها بصورة جهنمية، بما في ذلك القتل الجماعي. وهذه السمة الأخيرة، هي التي تزدهر في "إسرائيل" اليوم. ولا بد أن المثقفين الإسرائيليين المبهرَجين، كما يقول المؤلف، قد قرأوا سفر التثنية، وخطاب موسى لقومه، الذي توليه الصهيونية أهمية خاصة: "فخرج سيحون بكامل جيشه إلى ياهص لمحاربتنا. فأتانا النصر عليه من عند الرب إلهنا، فدحرناه وأبناءه وسائر جيشه. واستولينا على جميع مدنه، وقضينا في كل مدينة على الرجال والنساء والأطفال، فلم ينج حي منهم. ولكن البهائم والأسلاب التي نهبناها من المدن، أخذناها غنائم لأنفسنا". (تثنية 2: 33، 35) ثم كان هنالك الملك عوج، ملك باشان، الذي لقي المصير ذاته "وكانت جميعها مدناً محصنة بالأسوار العالية والأبواب والمزاليج، فضلاً عن قرى الصحراء الكثيرة. فدمرناها كما فعلنا بمدن سيحون ملك حشبون، وقضينا على الرجال والنساء والأطفال"، ومرة أخرى أخذوا البهائم غنائم. (تثنية 3: 3، 65) ويقول موسى ان الأمم المعادية سوف تُطرد "تدريجياً، لئلاّ تتكاثر عليكم وحوش البرية، إن أسرعتم بالقضاء عليهم دفعة واحدة. إن الرب إلهكم يسلمهم إليكم موقعاً بهم الاضطراب العظيم حتى ينقرضوا" (تثنية 7: 22، 23) ويرى المؤلف ان هذه الفقرة تصلح، وصفاً لخطط التطهير العرقي الذي تطبقه إسرائيل حالياً على الفلسطينيين. كما تصلح الفقرة التالية لوصف حروب إسرائيل الخارجية، بما فيها حرب 2006: "وكل موضع تطأه أقدامكم يصبح لكم: فتكون حدودكم من الصحراء في الجنوب الى لبنان، ومن نهر الفرات الى البحر (الأبيض المتوسط) غرباً. ولا يجرؤ إنسان على أن يقاومكم" (تثنية 11: 24، 25).ومن بين كلمات موسى الأخيرة لشعبه، نجد التالي، الذي يمثل فخامة العهد القديم، كما يقول المؤلف، والروح الصهيونية الانتقامية، التي كانت أحد مواريثه: "أسكِر سهامي بالدم، ويلتهم سيفي لحماً، من دم القتلى والسبايا ورؤوس قادة العدوّ. تهللي أيتها الشعوب مع شعبه، لأنه سينتقم لدماء عبيده ويثأر من أعدائه ويصفح عن أرضه وعن شعبه". (تثنية 32: 42، 43). اللاسامية واليهودية والصهيونية ويرى المؤلف أن اليهود الذين تعرضوا عبر تاريخهم للاضطهاد، ليس عائدا فقط الى اللاسامية والعنصرية التي جوبهوا بها في القارة الأوروبية منذ القرون الوسطى وحتى فترة الحرب العالمية الثانية، بل إنهم يتحملون قسطاً من المسؤولية في ذلك. والسبب في ذلك أنهم يقدمون أنفسهم هم "شعب الله المختار" المثالي أخلاقياً والمنزّه عن ارتكاب أي أخطاء أو ذنوب. وهكذا، فإن معاداة السامية، والمعاناة التي فرضتها على اليهود، كانت بدوافع عنصرية في بعض الأحيان، ولكن معاداة اليهود كانت في أحيان أخرى، بسبب ممارسات غير طبيعية لليهود أنفسهم، فاليهود بشر مثل سائر البشر، يصيبون ويخطئون، غير أنه ينبغي عدم تحميل تبعات أخطائهم لليهودية ككل، ووصم اليهودية بحد ذاتها، كما يقول المؤلف.. ويستشهد المؤلف كذلك في هذا الصدد بقول الحاخام ابراهام كوك الأكبر (1865 1935) وهو من كبار الشخصيات في الحركة الصهيونية، وأبو التوجه الأصولي اليهودي "ان الفرق بين الروح اليهودية وأرواح غير اليهود، أكبر وأعمق من الفرق بين الروح البشرية وأرواح البهائم". ويستشهد المؤلف كذلك بما كتبه الحاخام ميناحيم مِندِل، زعيم الحسيديين المبجل "إن جسم الشخص اليهودي ذو نوعية مختلفة تماماً عن أجسام جميع أفراد أمم العالم". ويرى المؤلف، ان المنطق الصهيوني، هو الذي جمع بين شخصين مثل موسى بن ميمون، الفيلسوف والمفكر، الذي عرض المؤلف عينة من فكره، وبين مئير كاهانا، أشد المتطرفين في التاريخ اليهودي، وذلك، من أجل تطبيق أجندة صهيونية ذات أهداف مستقاة من ظروف العصر الحاضر. كما ان الصهيونية هي التي ركزت على هذا التمييز بين اليهودي وسائر الجنس البشري، لتصم اليهود باستثنائية وتميز عنصري، انعكسا على تكوين الدولة العبرية وممارساتها حين سنحت الفرصة لقيامها أخيراً. المحرقة لقد استفادت الحركة الصهيونية العالمية من المحرقة اليهودية، في تبرير إيجاد وطن لليهود في فلسطين. ولكنها بعد ان أقامت تلك الدولة اليهودية، لم تفلح في خلق وطن آمن لليهود بالفعل. فإسرائيل اليوم أخطر مكان في العالم بالنسبة لليهود على الرغم من مرور ستين سنة على تأسيسها. إن إسرائيل قامت على أساس أنها قاعدة متقدمة تقوم بدور وظيفي لمصلحة المخطط الامبريالي الغربي، وقد بنت وفق هذه الوظيفة مجتمعا عسكريا مقاتلا، مستعدا دائما لخوض حروب التوسع والعدوان. وهي تقف على طرفي نقيض مع السلام، لأن السلام هو نقيضها التاريخي، ولهذا تحتاج دائما إلى التوتير للاستمرار في أداء هذه الوظيفة التي أقيمت من أجلها. غير أنّ المؤلف يحمّل الصهيونية المسؤولية المباشرة عن كل ذلك، بسبب المبادئ التي تؤمن بها وتطبقها في فلسطين، حيث يسيطر على الحركة الصهيونية هاجس الحفاظ على يهودية دولتها بأي ثمن. وبعض ذلك الثمن، يجب أخذه الآن بالاعتبار، وهو بالتحديد الضغط المتواصل لملء إسرائيل باليهود، للحفاظ على تفوقهم العددي على الفلسطينيين والحفاظ على الأسطورة التي تقول إن إسرائيل هي الملاذ الأسمى لجميع اليهود، أينما كانوا، في صراعهم الأبدي ضد التطرف المناهض للسامية. الأصولية اليمينية في إسرائيل اليوم، تلعب الأصولية الدينية اليمينية دوراً أكبر بكثير من دور الاشتراكية المستنيرة التي كان من المفترض ان تكون شعارالمجتمع اليهودي الجديد. بسبب هذه الحروب المستمرة، وشعور المستوطنين بعدم الأمان، وتعاظم المآزق، تجري الآن هجرة مضادة الى خارج إسرائيل، وقد بلغت نسبة خطيرة، وهي تهدد المعادلة السكانية المقلقلة، التي تشكل همّاً للدولة الصهيونية. ففي أواسط سنة، 2004 كان هنالك نحو 760 ألف إسرائيلي يعيشون في الخارج، بزيادة 40% منذ بدء الانتفاضة الثانية سنة، 2000 ويشير المؤلف هنا الى مفارقة غريبة: وهي ان البلد الذي يقصده اليهود الذين يهاجرون من الاتحاد السوفييتي السابق، لم يعد إسرائيل الآن.. بل هو ألمانيا! وقد أثار ذلك جولة أخرى من الهجمات الصهيونية على الألمان البغضاء، ولكنْ، بسبب "إغوائهم" اليهود للاستقرار في ألمانيا، هذه المرة. وعلى ذلك فإن الحلّ، حلّ قضية الشعب الفلسطيني، وحلّ قضية الشعب اليهودي، تكمن في قيام دولة تقوم على أسس إنسانية وتتخلص من مثالب الصهيونية التي يعدّدها المؤلف في كل فصل من الكتاب. غير أنّ المؤلف يحمّل الصهيونية المسؤولية المباشرة عن كل ذلك، بسبب المبادئ التي تؤمن بها وتطبقها في فلسطين، حيث يسيطر على الحركة الصهيونية هاجس الحفاظ على يهودية دولتها بأي ثمن. وبعض ذلك الثمن، يجب أخذه الآن بعين الاعتبار، وهو بالتحديد الضغط المتواصل لملء "إسرائيل" باليهود، للحفاظ على تفوقهم العددي على الفلسطينيين والحفاظ على الأسطورة التي تقول ان "إسرائيل" هي الملاذ الأسمى لجميع اليهود، أينما كانوا، في صراعهم الأبدي ضد التطرف المناهض للسامية. وقد جعل هذا الواجب الذي يُسمى بالواجب الديموغرافي. يرى المؤلف ان السبيل الوحيد لحل الصراع العربي الإسرائيلي، هو قيام دولة واحدة تضم كلاًّ من الفلسطينيين واليهود، ويقترح لها اسماً، هو فلسرائيل. ويرى ان ذلك يمكن تحقيقه عبر أمور منها: مبادئ للتعايش بين الفلسطينيين واليهود، في دولة تضم الطرفين. ومن هذه المبادئ: 1 احترام الكرامة الفطرية لكل فرد. 2 تنطوي المبادئ الأساسية على المسؤولية والعدالة. 3 ليست أي جماعة من الناس أفضل بطبيعتها من أي جماعة أخرى، أو أنها جماعة "خاصة" بأي شكل من الأشكال. ولذلك فإن الجماعة التي تعتبر نفسها شعب الله المختار، وأنها موعودة منه بأرض معينة، لا تستحق صفة الإنسانية، كما يقول المؤلف. 4 لا يمكن ان يضفي أي قدر من المعاناة في الماضي، الشرعية على الظلم الحالي. أي ان المحرقة اليهودية أو سواها لا يمكن أن تبيح لليهود ما يمنحونه لأنفسهم من استثنائية، أو ان تكون سبباً لإضفاء الشرعية على ما يرتكبونه ضد الفلسطينيين. 5 ما مِن دولة تملك حقاًّ مطلقاً في أن توجد، أي ان الدولة العبرية لا يحق لها الادعاء بأن لها حقّاً فطرياً متأصلاً في ان تقوم. 6 قد تكون الدولة غير شرعية نسبياً، أو بصورة مطلقة..وهنالك حالات من لاشرعية الدولة المطلقة يكون فيها للأشكال التي يأخذها انتهاك حقوق الإنسان، قدرة غريبة على الانتشار عبر المجتمع البشري. والتمييز العنصري الذي مورس في جنوب افريقيا، أحد الأمثلة على ذلك، وإسرائيل مثال آخر. 7 الدولة العنصرية هي دولة لاشرعية بصورة مطلقة. 8 إسرائيل كدولة يهودية، دولة عنصرية. 9 تكمن المشكلة الأساسية في الصهيونية وفي يهودية الدولة العبرية، لا في الاحتلال غير الشرعي للضفة الغربية، لأن الاحتلال من نتائج سيطرة الحركة الصهيونية، وسعيها الى تطهير الدولة من غيراليهود. 10 إسرائيل لا تملك الحق في الوجود. حل الدولة الواحدة ويصرّ المؤلف على ان فضح اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة، هو من الخطوات المهمة في هذا الصدد. فعند فضح هذا اللوبي، يمكن مواجهته. ويقول ان الأميركيين بحاجة الى شن حملة لإجبار اللوبي على الاعتراف بأنه عميل لقوة أجنبية، وحملة أخرى لإقامة بنوك معلومات لفضح المتواطئين معه، وإنهاء الامتيازات الخاصة التي تتمتع بها "إسرائيل" مثل التخفيضات الضريبية، وتحويل التكنولوجيا، وضمانات القروض، وتكنولوجيا الموت والدمار، وما شابه ذلك، مما يثقل كاهل دافع الضرائب الأميركي، بينما يجرّ على فلسطين ولبنان تعاسة ودماراً لا حدّ لهما. يقول المؤلف ان الفلسطينيين يشكلون اليوم أكبر وأقدم مجموعة سكانية لاجئة في العالم، حيث يشكلون ثلث عدد اللاجئين في العالم، وقد نشأت حول محنتهم مجموعة معقدة من القواعد والظروف، التي أهمها، أن لهم حقاًّ في العودة الى وطنهم، لا يمكن إنكاره، وهو متضمن في القانون الدولي، وبخاصة في قرار الأممالمتحدة رقم 194، وحلّ الدولة الواحدة الذي يتحقق من خلال تطبيق حق عودة الفلسطينيين، سوف يتجه بحد ذاته نحو صيغته العلمانية الجامعة. الكتاب: التغلب على الصهيونية: إقامة دولة ديمقراطية واحدة في إسرائيل فلسطين الكاتب: جويل كوفيل، ترجمة عمر عدس الناشر: دار بلوتو برس في لندن 2007 المستقبل - الاربعاء 14 تشرين الثاني 2007 - العدد 2792 - ثقافة و فنون - صفحة 20