تخوض تونس حربا وهذه المرة ليست للتخلص من مستعمر غزا الأرض وهتك العرض واغتصب الثروات, ولكن حربا للتخلص من الهوية العربية الإسلامية بكل مظاهرها وأشكالها, بل وأصحابها ومريدها كذلك. فمن الملاحظ أنها تخطو خطوات غير مسبوقة على طريق التغريب وتذويب الهوية الإسلامية, ربما لم يجرؤ الاحتلال الفرنسي ذاته أبان سيطرته على البلاد أن يُقدم عليها, بل يمكننا أن ندعى أنها لم تطرأ على الذهنية الاستعمارية التي أتت أساسا لسلخ الأمة عن هويتها العربية والإسلامية, بل ولم يتمكن الغرب من فرض إجراءات مماثلة على المسلمين في أراضيه, وهو الذي يسعى جاهدا لإذابتهم في هويته وثقافته. لقد ذهب النظام التونسي مذهبا بعيدا في معادته للتوجهات الإسلامية, جعلت الشكوك تخامر الذهن حول الهدف من تلك الحرب التي نظنها شنت بالأصالة في راغبة جانحة لاستئصال الهوية الإسلامية, وليس فقط لكسب الرضا الغربي أو لحيازة قصب السبق في المسابقة المعقودة للحرب على 'الإرهاب'. فنحن إذا ما التفتنا فسنجد أن النظام السابق تحت رئاسة الحبيب بورقيبة قاد تونس لثلاثة عقود بعد انتهاء الاستعمار الفرنسي عام 1956، و قد أصر على الدفع بالأفكار العلمانية المناهضة للهوية الإسلامية مثل تحرير المرأة وإلغاء تعدد الزوجات، والعبث ببعض العبادات كالصيام بدعوى تأثيره على الإنتاج, وأصر بورقيبة ذو الزوجة الفرنسية على خط معاد للإسلام بالمقام الأول. وتم عزل الحبيب بورقيبة عام 1987 على أساس أنه لم يعد في كامل قواه العقلية، و جاء النظام الحالي الذي سار على الضرب ذاته لاستكمال 'حرب التحرر' من الهوية, وأسرف في ذلك أيما إسراف, جعلت من الحرب على الإسلاميين تتعدى حدود الخصومة السياسية و تقليص النفوذ والخوف على السلطان إلى حرب استئصال سافرة على الحجاب وكافة المظاهر الإسلامية التي يمكن أن تصبغ المجتمع. تلك الحرب جعلت الأذهان تتقبل ما نسب لوزير الداخلية التونسي من 'تقنين وترشيد' الصلاة في المساجد من خلال 'البطاقة الممغنطة'. والخبر كما تناقلته المنتديات والمصادر الإخبارية يشير إلى إعلان وزير الداخلية التونسي الهادي مهني أنه سيتم عمل 'بطاقة مغناطيسية' لكل مصل لتنظيم الصلوات في المساجد وترشيدها, و أن وزارة الداخلية ستقوم بتسليم كل من يتقدم بطلبها بطاقة تمكنه من ارتياد أقرب مسجد من محل سكناه أو من مقر عمله إذا اقتضت الحاجة. وحسب الإجراءات الجديدة كما جاء في الخبر يتعين وجوبا على المصلي اختيار أقرب مسجد لمكان إقامته أو لمركز عمله، أما إذا كان المسجد المختار غير جامع فيجب على المصلي التقدم بطلب بطاقة خاصة بصلاة الجمعة! كما أن على أئمة المساجد أن يتأكدوا من أن جميع المصلين داخل قاعة الصلاة حاملون لبطاقاتهم, كما يتعين على كل إمام طرد كل مصل لا يحمل بطاقة أو على بطاقته اسم مسجد آخر غير الذي يصلي فيه!! وأكد أن لكل مصل الحق في أن يرتاد لأجل أداء صلواته الخمس مسجدًا واحدًا فقط، فإذا كان المسجد لا يقيم صلاة الجمعة فإنه يمكنه الحصول على بطاقة خاصة بصلاة الجمعة إذا عن له أن يطلبها. ورغم غرابة الخبر إلا أنه لم يكن غريبا أن ينسب لتونس في ظل توجهاتها الحالية, حتى اضطرت السلطات هناك إلى نفيه والتنصل منه, ولكنه هو في الأول والأخر يشير إلى ما يمكن أن يذهب إليه النظام هناك, والحدود المتصورة ذهنيا لحربه على التوجهات والمظاهر الإسلامية في البلاد. حقيقة الأمر أن توجهات النظام الحالي نحو إنفاذ الأجندة الغربية في العالم العربي, أو مسايرتها للتيار الأمريكي الجارف ليست ما نددن حوله كثيرا, وإنما الذي يعنينا, بالأساس, هو محاولة مسخ الهوية التونسية الإسلامية والعربية. وتونس في سبيل إذابة الهوية وفصم الشعب عن حسه الإسلامي والعربي كان لها سبلا متعددة وطرق شتى منها: لجأت تونس إلى تضييق الخناق على المظاهر الإسلامية التي تضفى على المجتمع صبغته الدينية وتبرز هويته الإسلامية, ومن اشد المظاهر التي نالت تضييقا وخناقا كان الحجاب. فرغم معاول الهدم التي تنشب أظفارها, تشهد تونس عودة ملحوظة إلى ظاهرة الحجاب التي أصبحت لافتة للنظر في الشوارع والكليات الجامعية, وهو مما دفع إحدى الجمعيات النسوية التونسية ذات التوجه التغريبي إلى دعوة السلطات لوضع حد للظاهرة قبل استفحالها، كما طالبت وزارة التعليم العالي في أكثر من مناسبة رؤساء الجامعات بمنع المحجبات من دخول الحرم الجامعي استنادا إلى قانون صدر سنة 1981 في عهد الرئيس بورقيبة يعرف 'بالمنشور 108' ينعت الحجاب بالزي الطائفي. وعلي اثر هذه الدعوات وزعت الجهات الرسمية على أئمة المساجد منشورا تحثهم فيه على بيان فضل صلاة المرأة في بيتها، وعدم مطالبتها دينيا بالخروج إلى المساجد. وعلقت المعارضة التونسية من خلال نشرة 'تونس نيوز' التي تصدرها تيارات للمعارضة التونسية في أوربا على المنشور الحكومي بقولها: لقد أصبح إمام المسجد مجرد بوق لسياسة النظام الذي يبدو أن أطرافا فيه لم تعد تتحمل مشاهدة أفواج النساء المحجبات يتقاطرن على بيوت الله لمجرد أداء الصلوات وحضور الجُمع, فأصدروا الأوامر إلى أئمة المساجد لنهي النساء عن الصلاة في المساجد باسم الدين. كما تعهد وزير الشؤون الدينية التونسي أبو بكر الأخزوري في أكثر من مناسبة باجتثات الحجاب, ووصفه بالدخيل والنشاز غير المألوف على المجتمع التونسي. وقال الأخزوري: إن 'الحجاب زي طائفي يخرج من يرتديه عن الوتيرة'، واعتبر أنه ظاهرة آخذة في التراجع بسبب ما وصفه بثقافة التنوير التي تنشرها الحكومة، وأن هذا الفكر كفيل باجتثاث الحجاب. وأكد على رفضه أيضا ارتداء الرجال للجلباب الأبيض وإطالة اللحية باعتبار هذه المظاهر تنبئ عن اتجاه معين! حتى الصلاة لم تسلم من كون 'التحريض' عليها جريمة تستحق العقاب, حيث وجهت تهمة ارتكاب 'جريمة مخالفة للقانون' لأحد الطلاب تمثلت في تجرئه على المطالبة بمسجد للصلاة داخل الكلية، والتحريض على رفع الأذان فيها، وإقامة الصلاة في ساحة الكلية. 2 علمنة التعليم وتسارع عملية التطبيع تتخذ تونس خطوات واسعة نحو علمانية شاملة في جميع الجوانب التعليمية، بدأت بتغيير مناهج التربية الإسلامية في كافة القطاعات التعليمية وصولاً إلى جامعة الزيتونة. وركز التغيير بالأساس على مادة التربية الإسلامية من عدة جوانب، مثل: النزعة التي تنحو منحى التشكيك في كل شيء بما في ذلك المعلوم من الدين بالضرورة، مثل الأنبياء والعصمة والملائكة والقرآن والسنّة ونحوها من المسائل الغيبية. كما تم استبعاد المسائل الشرعية والفكرية الإسلامية التي لها علاقة بالفكر السياسي الإسلامي، مثل الحكم والخلافة والحاكمية. وركزت المناهج الجديدة على إظهار التاريخ الإسلامي السياسي بمظهر الصراع اللانهائي على السلطة والقتل والخداع والمكيافيلية في سبيل 'الكرسي' والحفاظ على العرش حتى ولو سُخر الدين ووظفت آلياته في سبيل ذلك. كما بدأت المدارس والجامعات التونسية في تدريس 'التوراة والإنجيل'، وذلك في إطار ما يسمى بالانفتاح على الحضارات والديانات الأخرى. وكانت الجامعات التونسية بدأت منذ سنوات تدريس اللغة العبرية، واعتمدت كليتا سوسة ومنوبة للآداب والعلوم الإنسانية اللغة العبرية مادة اختيارية، رغم احتجاج بعض أساتذة التعليم العالي المناهضين للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني. 3 منع المشاعر المؤيدة لقضايا العرب والمسلمين فرغم النكبات التي يمر بها العالم العربي والإسلامي, والتي أدت إلى شيوع ثقافة التظاهرات والاعتراضات كصورة تعبيرية عن الغضب والاستنكار إلا أن هذه المظاهر محظورة تونسيا حتى داخل السياج الجامعي. فقد منعت قوات الأمن مسيرة طلابية في 'بنزرت' شمالي العاصمة للتضامن مع الشعبين الفلسطيني والعراقي عقب الغزو الأمريكي للعراق, كما منعت تنظيم مسيرة مماثلة داخل حرم الجامعة, بدعوى أن مثل هذه الاحتجاجات 'لا مبرر لها'!! وفي هذا العام ومع شدة الغليان التي أصابت العالم الإسلامي بعد نشر الصور المسيئة للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم, كان لتونس منحا مختلفا ومغايرا. فقد أصدر مجلس التأديب بجامعة صفاقس في جنوبتونس قرارا بطرد 5 طلاب، بتهمة المشاركة في تنظيم تظاهرة طلابية أوائل فبراير الماضي احتجاجًا على الرسوم المسيئة التي نشرتها صحيفة 'يولاندز بوستن' الدانماركية في سبتمبر 2005. كما تم تحرير محضر بالشرطة ضد الطلاب الخمسة في 23 فبراير أحيلوا بعده إلى المحكمة الابتدائية بصفاقس!! نقول أخيرا إن كثيرًا من الأنظمة قد يتوجه بسياسته لموائمة ومسايرة 'النظام ذو القطب الواحد', ومحاولة كسب مزيد من الثقة بمحاربة أكثر ضراوة وأشد باسا للتوجهات والمظاهر الإسلامية, فهذا مشاهد لا سبيل لإنكاره وان كان في حد ذاته منكرًا, ولكن إدخال الشعوب في ' حلبة اللعب' يذهب بالرصيد الذي يمكن أن تلوذ به تلك الأنظمة وقت العوذ الذي لا ريب آت, ويجعل من أبناء الأمة 'مسخ' لا يرجى منه خير, ولا يحصد من ورائه ثمر. إن العبث بهوية الشعوب يجر علي الأمة كلها النكبات, ولن تغني حينئذ الزفرات ولا التنهدات المصحوبة بالحسرات. الأحد 8 جمادى الأولى1427ه – 4 يونيو 2006م