وسط الضجيج الذي تثيره جولة الرئيس جورج بوش التي يقوم بها للمرة الأولى منذ انتخابه رئيسا في العام 2001 إلى عدد من الدول العربية وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة التي تنزف يوميا شهداء وجرحى وأسرى، يحاول بوش تحقيق إنجاز ما يحفظ له ماء الوجه، ويغطي على إخفاقه الواضح في كل من: أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان، وحتى في شعبية الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه، بشكل غير مسبوق. هذا ما دفعه إلى إعادة النظر في الأولويات على المستويين الكلي العالمي والشرق الأوسطي، حيث إن المنطقة تعتبر منطقة أزمة كلية. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية القادمة، تحاول إدارة الرئيس بوش استعادة الصدقية المفقودة عبر التحضير لأشكال أخرى من الحرب، ولاسيما أن احتدام الأزمة الإيرانية دفعها إلى تغيير التكتيك المتبع حفاظاً على الإستراتيجية المرسومة. لبنان بين الإشعال والاطفاء إذا كان الشرق الأوسط بتشعباته وتعقيداته من أبرز تجسيدات الصراع الدولي، سواء في مرحلة الحرب الباردة، أم في مرحلة نظام القطب الأوحد الأميركي، فإن لبنان هو البؤرة النموذجية بامتياز لممارسة لعبة الكرّ والفر، يتبارى فيها جميع الأطراف المحليين والإقليميين والدوليين. والوضع اللبناني يقدم لوحة من التناقضات التي تتجمد لحينها ولكنها تعود للانفجار مجدداً، وبقوة أكبر. فهو وضع مرشح لمحاولات الإشعال والإطفاء بشكل متواتر، من الجبهة السورية، إلى جبهات التناقضات الطائفية والمذهبية، وداخل كل طائفة بنفسها، وإلى جبهة العدو الصهيوني الذي يعمل على توجيه ضربات مستمرة موجعة لزعزعة الوضع الداخلي اللبناني، والقضاء على المقاومة، والمراهنة على تفاقم الصراع في لبنان. وكما هو معروف فإن الورقة اللبنانية هي ورقة تحرص سورية على الإمساك بها، بيد أنه مع الاحتلال الأميركي للعراق، أصبح الأميركيون يستخدمونها ضدها. ومع ذلك فإن المهمة الرئيسة التي تواجه قوى الموالاة و المعارضة على اختلاف مشاربها الأيديولوجية والدينية، تقتضي منها عدم الاستقواء بالأطراف الإقليميين والدوليين لتحديد مواقفها. ولأن الصراع الإقليمي والدولي كان يجري جزئياً اختبارات قوته على الساحة اللبنانية، ولأن الوقائع على الأرض لم تكن أبداً ثابتة، بل عرضة للتغير منذ بداية الحرب وحتى الآن. فما يكاد ميزان القوى يميل لصالح طرف ما، ويبدأ بفرض شروطه وحله، حتى تعود الكفة للميلان باتجاه الآخر، ويعود الصراع انعكاساً طبيعياً سيّد الساحة. إن مأساة لبنان كدولة حاجزة، هي حقاً مأساة الحياة السياسية اللبنانية، أو بعبارة أدق، دراما الحياة السياسية. والحال هذه، فالدولة اللبنانية ليست مصنوعة في الخارج، ولا هي مستوردة، إنما هي صيرورة كان اتفاق الطائف إحدى لحظاتها التاريخية المهمة في تاريخ لبنان الحديث الخارج من أتون حرب أهلية مدمرة وهي، بدل أن تكون حصيلة قرار تتخذه إرادات فردية واعية، تتيح لهذه الإرادات أن تتطور داخل صيرورتها. لقد عاش لبنان منذ أكثر من سنة في أزمة بنيوية عميقة: فمجلس النواب موصدة أبوابه تماماً منذ نهاية العام 2006 ورئاسة الحكومة تحاول جاهدة وبصعوبة بالغة الإيحاء بأن الحياة تدب في شرايينها، علماً بأنها تعي قبل سواها أنها تعمل بالحد الأدنى، وسط شكوك بشرعيتها، وبدورها. أما الرئاسة الأولى، فهي شاغرة منذ نحو شهر ونصف الشهر. ووسط كل هذا المشهد السوداوي، بدا لبنان وطناً وشعباً، كياناً هشاً ودولة مرتبكة بلا قيادة وبلا مؤسسات سياسية وبلا مؤسسات أمنية، بلا اقتصاد وبلا تصور واضح للمستقبل، وبلا مصدات للتدخل الأجنبي. لقد كشفت سنة 2007 عمق الأزمة اللبنانية، ولاسيما في ظل انسداد الأفق وتعذر التوصل إلى اتفاق بين فريقي الموالاة والمعارضة على آلية ما، ترفع المرشح التوافقي العماد ميشال سليمان إلى القصر الجمهوري في بعبدا، فاستمرت السجالات السياسية بين التكتلين أقطاباً وأعضاءً مضيفة إلى الأجواء العامة المزيد من الاحتقان والتعبئة من كل لون وآفة، وأخطرها اعتماد اللغة الغرائزية التي أغرقت لبنان في الشعارات الطائفية والمذهبية. وبينما تصر المعارضة على الاحتفاظ ب «الثلث الضامن» في الحكومة العتيدة التي سيجري العمل على تأليفها فور انتخاب رئيس الجمهورية، ترفض الموالاة التسليم ب «الثلث المعطل»، لأن هذا الأمر إذا ما حدث يعتبر انتحاراً سياسياً، على حد تعبير زعيم الغالبية النيابية النائب سعد الحريري. قبل بدء زيارة بوش هذه للمنطقة العربية، أقر وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الاستثنائي في القاهرة الأحد 6 يناير 2008 خريطة طريق لحل الأزمة اللبنانية. فهل تعتبر مصادفة في ذلك؟ اجتماع القاهرة الأخير ويجمع المحللون العرب المتابعون لاجتماع القاهرة، وللاتصالات التي جرت قبل انعقاده، أنه في مساء السبت، وقبل الاجتماع الرسمي يوم الأحد، التقى ولأكثر من ساعة، وفي منزل عمرو موسى الأمين العام للجامعة، كل من وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، ووزير الخارجية السوري وليد المعلم، ورئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بن جبر (الذي قدِمَ إلى القاهرة من دمشق)، ووزير الخارجية العُماني يوسف بن عَلَوي. وهناك في ما يبدو جرى تظهير البنود الثلاثة للبيان في شأن لبنان، ليأتي إعلان الأمين العام للجامعة عنها بعد اجتماع قصير وتشاوري في مقر الجامعة، وقد أُضيف إليها البندان الرابع والخامس - وهما إجرائيان - ويتعلّقان بتكليف الأمين العام للجامعة المجيء إلى لبنان لمتابعة تنفيذ الحل، والبند الآخر المتعلّق باجتماع وزراء الخارجية العرب مرة أخرى يوم 2008/1/27 كي يُقدّم لهم الأمين العام تقريراً عما توصل إليه في المهمة التي كُلِّف بها. وباستثناء مرة واحدة تحدث فيها الجانب السعودي عن صيغة 14-10-6 وكان رد الجانب السوري أن هذه الصيغة (للنائبين وليد جنبلاط وسعد الحريري) طرحها الجانب الفرنسي على المعارضة اللبنانية ورفضتها فوراً. وقد لعب ممثل قطر الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني دورا تسوويا من خلال الصيغة التي حظيت بموافقة الجميع وتضمنت العناصر الآتية: 1 الترحيب بتوافق مختلف الأفرقاء اللبنانيين على ترشيح العماد ميشال سليمان لمنصب رئاسة الجمهورية، والدعوة إلى انتخابه فوراً وفقاً للأصول الدستورية. 2 الدعوة إلى الاتفاق الفوري على تشكيل حكومة وحدة وطنية تجري المشاورات لتأليفها طبقاً للأصول الدستورية على ألا يتيح التشكيل ترجيح قرار أو إسقاطه بواسطة أي طرف، وتكون لرئيس الجمهورية كفة الترجيح. 3 الدعوة إلى بدء العمل على صياغة قانون جديد للانتخابات فور انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة. 4 تكليف الأمين العام للجامعة إجراء اتصالات فورية مع جميع الأطراف اللبنانية والعربية والإقليمية والدولية في ضوء هذا القرار، وله أن يستعين بأي مسؤول عربي للمساعدة في هذا الشأن. 5 يعقد وزراء الخارجية العرب اجتماعاً مستأنفاً لدورتهم غير العادية لاستعراض نتائج جهود الأمين العام في 27 يناير الحالي. وقد بدأ فرقاء في المعارضة جهوداً من أجل التأقلم مع خطة الحل العربي لأزمة الفراغ الرئاسي في لبنان، والقاضية بانتخاب فوري لقائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، ثم تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تكون فيها لأي فريق القدرة على ترجيح أي قرار أو إسقاطه وتكون للرئيس كفة الترجيح في الحصص الوزارية. وفيما رحب رئيس المجلس النيابي نبيه بري وقادة الأكثرية بالخطة العربية، انضم إليهم أمس رؤساء الطوائف الإسلامية الثلاث، مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان وشيخ عقل الطائفة الدرزية نعيم حسن، في بيان مشترك صدر عنهم، دعوا فيه المراجع السياسية إلى التجاوب مع المبادرة التي صدرت عن اجتماع وزراء الخارجية العرب وحضوا على درء الفتنة. في المقابل أعلن زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون أن لا جديد في المبادرة العربية، مؤكداً انتظاره مجيء الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى. واقترح عون ترجمة البند المتعلق بتشكيل الحكومة من طريق اعتماد توزيع يضمن للمعارضة 11 وزيراً (الثلث المعطل) وللأكثرية 14 وزيراً ولرئيس الجمهورية 5 وزراء، فيما نصت المبادرة العربية على ألا تكون لأي فريق القدرة على إسقاط أي قرار في الحكومة المقبلة. المتابعون للشأن اللبناني يرون أن هذه البيان الوزاري العربي يتضمن نقاطاً مبهمة أو خلافية يمكن اختصارها بالآتي: -1 هل المبادرة كل متكامل أم يمكن تجزئتها؟ -2 هل القول بانتخاب الرئيس وفقاً للأصول الدستورية، يعني صيغة التعديل الدستوري عبر الحكومة، أم خيار المادة 74 التي طرحها الوزير بهيج طبارة وتبناها الرئيس نبيه بري؟ -3 وهل يتوجه النص المتعلق بألا يتيح التشكيل الحكومي «ترجيح قرار أو إسقاطه بواسطة أي طرف»، إلى طرف بعينه أم أن النص شيء ونية المشترع شيء آخر، وإذا سئل عمرو موسى في بيروت عن هذه الصيغة أو تلك، ماذا سيكون جوابه، خاصة بعد أن كشفت المعارضة أن فهمها الدستوري الواضح له ترجمة وحيدة، أي أن تكون النسب متساوية بين المعارضة والموالاة ورئاسة الجمهورية، بينما تبنت الموالاة صيغة 14+6+10 التي طرحها أكثر من مرة النائب وليد جنبلاط؟ لبنان ومشجب المصالحة السورية - السعودية هل نضج الحل في لبنان لكي يتم تنفيذ خريطة الطريق التي أقرها المجلس الوزاري العربي؟ إن هذا الأمر يتوقف على جهود المصالحة العربية - العربية،ولاسيما السورية-السعودية. فنجاح خطة الجامعة العربية في لبنان مرتبط بمستقبل العلاقات السورية-السعودية المرتبطة بدورها بتحقيق انفراج في لبنان. ومن الواضح أن سورية أعربت من خلال القيادة المركزية ل «الجبهة الوطنية التقدمية» الحاكمة، عن تأييدها خطة الجامعة العربية الرامية إلى انتخاب فوري للعماد ميشال سليمان. ويعتبر تجاوب سورية مع الجهود العربية مدخلا لتطبيع العلاقات السعودية-السورية وتوفير الأجواء المريحة لعقد القمة العربية في دمشق في آذار (مارس)، إذ إن بعض الدول العربية يربط مشاركته في القمة بتحقيق تقدم ملموس في لبنان يؤدي إلى انفراج على المستويات كافة. الموالاة والمعارضة مطالبتان بالتحرر من النظرة العدمية ولغة التخوين، والعمل كل من موقعه على خوض معركة وحدة لبنان وحريته وعروبته، على أساس الثوابت الوطنية والديموقراطية الفعلية، اللتين تمنعان التقسيم، وتسقطان برامج الطوائف، وتعيدان بناء الدولة اللبنانية على أسس، تضمن حقوق المواطنة، وتصون الحريات، وتحرر النظام الاقتصادي والاجتماعي من هيمنة القوى المعادية للشعب، ومن الارتباط بالمخططات الخارجية المعادية، وتنظيم علاقات لبنان مع سورية، وسائر الأقطار العربية، على أساس وحدة المصالح ووحدة المصير، وبما يحفظ الأمن القومي والمصالح القومية. * كاتب من المغرب