باجة: تسجيل 7 حرائق بين 1 و27 ماي الجاري والحماية المدنية تنطلق فى تنفيذ خطة لحماية صابة الحبوب    انطلاق تداول القسط الثاني من القرض الرقاعي الوطني 2024 ببورصة تونس اليوم الأربعاء    تقرير: 26 يومًا إضافية من الحر خلال 12 شهرًا مضت    قنابل يدوية على سطح منزل..ماالقصة ؟    قضية فقدان 4 مجتازين تونسيين بسواحل صفاقس: القبض على منظم العملية    عاجل/ تونس تعلن عن موعد أول أيام عيد الاضحى..    إختيار نجم ريال مدريد أفضل لاعب في الليغا هذا الموسم    حادث مرور قاتل بسيدي بوزيد..    مدرب جيرونا يحصد جائزة أفضل مدرب في الليغا    مدينة العلوم بتونس تُعلن عن موعد عيد الإضحى حسابيّا    اللقاحات والصحة الرقمية محور جلسة عمل بين وزير الصحة بممثلي منظمة الصحة العالمية    الملحق التأهيلي لأولمبياد باريس 2024: إسلام الفرشيشي تنهزم امام الاوكرانية "كوفالشوك"    الصناعة الذكية رهان جديد لتنمية الصّادرات    تونس وسويسرا في تعاون في مجال حماية المناخ.. التفاصيل    تفاصيل غرق طفلين بقنال بحيرة تونس    مؤلف المسلسل الرمضاني ''الحشاشين'' يحصد جائزة الدولة للتفوق    جيش الإحتلال يعلن مقتل 3 عسكريين خلال معارك في قطاع غزة    40 بالمئة نسبة حجوزات الجزائريين في تونس خلال صائفة 2024    يوميّا: 20 مهندسا تونسيّا يُغادر الوطن    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الاربعاء 29 ماي    تونس وسويسرا تطلقان التعاون في مجال حماية المناخ وآفاق واعدة للشراكة الجديدة في المجال    البطولة الاسبانية: إشبيلية يعلن رحيل لاعبه إيريك لاميلا بنهاية الموسم الجاري    الحماية المدنية: تسجيل 6 وفيات و411 إصابة في حوادث مختلفة    لأول مرة في العالم: شفاء مريض سكري باستخدام العلاج بالخلايا    اتصالات تونس تختار المشغل الايطالي "سباركل" من اجل طريق جديدة للعبور الدولي لبروتوكول الانترنات IP نحو اوروبا    عاجل : صدمة بعالم كرة القدم    الفيفا تصدر بيانا فيما يخص قضية يوسف البلايلي ..التفاصيل    تونس: كراء سيارة يصل الى 150 دينارا لليوم الواحد    الحماية المدنية: 6 حالات وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    بداية من 1 جوان: تنظيم الدورة السابعة للمهرجان الدولي لفن السيرك وفنون الشارع بتونس    يهم التونسيين : الأسعار الحالية للأضحية تتراوح من 700 إلى 1500 دينار    تفكيك شبكة مختصة في التنقيب على الأثار مالقصة ؟    مفزع/ حجز 188 كغ من الزطلة منذ بداية السنة إلى غاية الأسبوع الحالي..    يوم مفتوح بعدد من الولايات للتحسيس بمضار التدخين    وزارة التربية تكشف حقيقة عقد اتفاقية شراكة مع مؤسسة "سمارتيرا"..#خبر_عاجل    الجزائر تتقدم بمشروع قرار لمجلس الأمن الدولي "لوقف العدوان في رفح"..    طقس الاربعاء: الحرارة تصل الى 39 درجة بهذه المناطق    عاجل/ إخلاء مستشفى القدس الميداني في رفح بسبب تهديدات الاحتلال..    بطولة رولان غاروس : برنامج النقل التلفزي لمواجهة أنس جابر و الكولومبية كاميليا أوزوريو    اليوم: مجلس النواب يعقد جلسة عامة    نمت بأكثر من 3 %... الفلاحة تتحدى الصعاب    بورصة تونس ..مؤشر «توننداكس» يبدأ الأسبوع على ارتفاع    تحطم طائرة عسكرية من نوع "إف 35" في ولاية نيومكسيكو الأمريكية (فيديو)    الاحتلال يترقب قرارا من غوتيريش يصنفها "قاتلة أطفال"    280 مؤسسة توفر 100 ألف موطن شغل تونس الثانية إفريقيا في تصدير مكونات السيارات    افتتاح الدورة السادسة للمهرجان الدولي للموسيقيين والمبدعين من ذوي وذوات الإعاقة بعد أكثر من 4 سنوات من الغياب    تعظيم سلام يا ابن أرض الرباط ... وائل الدحدوح ضيفا على البلاد    قبل جولته الأدبية في تونس العاصمة وعدة جهات، الكاتب جلال برجس يصرح ل"وات" : "الفعل الثقافي ليس فقط في المركز"    وزير الصحة يشارك في مراسم الاعلان عن مجموعة أصدقاء اكاديمية منظمة الصحة العالمية    وزارة الصحة تنظم يوما مفتوحا بعدد من الولايات للتحسيس بمضار التدخين في اليوم العالمي للامتناع عن التدخين    الليلة أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 18 و28 درجة    فتح باب الترشح للدورة 36 لمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية    27 ألف مشجّع للنادي الافريقي في دربي العاصمة    عاجل :عطلة بيومين في انتظار التونسيين    في الملتقى الوطني للتوعية والتحسين البيئي... ياسين الرقيق يحرز الجائزة الأولى وطنيا    في إطار تظاهرة الايام الوطنية للمطالعة بعين دراهم ...«الروبوتيك» بين حسن التوظيف والمخاطر !    أولا وأخيرا «عظمة بلا فص»    معهد الفلك المصري يكشف عن موعد أول أيام عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأخ المناضل مرسل الكسيبي من الوسط إلى الانحياز


*
لقد ترددت كثيرا قبل الإقدام على كتابة هذا المقال عن الأخ الفاضل المناضل مرسل الكسيبي خوفا مما قد يترتب عليه من ردود ومساجلات غير محمودة بين الإخوة، كما كان قبل ثلاث سنوات في موضوع "المصالحة" الذي انقلب إلى سباب بين إخوة الدرب الواحد، وكما كان قبل قبل بضعة أسابيع في موضوع "البياض والسواد" الذي تحول إلى مشاحنات بين الأساتذة وتلاميذهم. وإن القلب ليدمى لذلك فقد صار حالنا كحال السيارة التي يريد صاحبها أن يخرجها من الوحل، فتظل عجلاتها تدور في الفراغ إلى أن تحترق إطاراتُها وينتهي وقودُها دون أن تبرح مكانها، والعدوّ شامت يتفرج مستبشرًا...
لكن مع ذلك فقد أقدمت على الكتابة بعد طول تردد، لأن السكوت على الخطأ لا يُصلح الخطأ بل يؤول إلى مزيد ارتكاب الأخطاء، من الشخص الواحد، وقد يفتح مجال الخطأ لغيره رحبا فسيحا، وقد تصبح الأخطاء خطايا.. ولا يزيد ذلك من وضع شعبنا ومعاناتنا في الداخل والخارج إلا سوءً، وأحوالنا ومصير أجيالنا القادمة -المعلق على صراع الهوية اليوم- إلا تدهورا ومهانة وذلاًَ.
قبل ثلاث سنوات عندما عبّر الأخ الفاضل مرسل الكسيبي عن استيائه
من صمت قيادة حركة النهضة عما يدور من سجال حاد، كنت أشاطره الرأي في تقصير قيادة الحركة تجاه أبنائها واتصلت به هاتفيا من أقصى الأرض محاولا رأب الصدع. وأرسلت في ذلك رسالة خاصة واضحة في الشأن إلى الشيخ راشد الغنوشي أحمّل فيها القيادة مسؤولية ما آل إليه حال علاقة إخوة النضال. وعندما استقال الأخ دعوت له بالتوفيق من كل قلبي.
وعندما أصبح الأخ ناشطا -وخصوصا في برنامج "المحرر" (Reporteur) الذي كنت أتلقاه في عنواني باستمرار- استبشرت لذلك قناعة مني بأن حركة النهضة قد خسرت فردا ساكنا مجهولا، وكسبت حركة النضال عنصرا نشيطا فعّالا.. وفي ذلك كل الخير.
وعندما أسس الأخ موقع "الوسط" كنت أول من هنأه عبر البريد الإلكتروني، قناعة مني بأن الوسطية هي عين التمسك بالمبادئ وهي الركن الركين في الدفاع عن الحق والنضال من أجل العدالة، وأحسب أن هذه هي مهمة جميع المناضلين، وليس انتماؤنا للنهضة أو غيرها إلا وسيلة لذلك...
لكن مقام الوسط مقام راق يسمو على التحيز والمحاباة ولا يقبل من صاحبه إلا العدالة في الأحكام والنزاهة في المواقف، وإلا تلفظه إلى مزبلة التاريخ إن كان جديرا حتى بأن يذكره التاريخ، ثم إلى قضاء أقضى القضاة أعدل العادلين في الآخرة حيث لا يضيع حق وإن لم يكن وراءه طالب.
صدقني يا أخي العزيز؛ لست معك في مقام التقريع ولا أنا بواعظ، فمثلك لا يحتاج إلى موعظتي، ولكنه لوْم خفيف، أملا في التنبّه واليقظة لنفسك، ولا أقول مراجعة الذات ومحاسبة النفس.. وكلنا خطاء... فقد استغربت حديثك عن رقيّ موظفي القنصلية التونسية في مدينة بون والمبالغة في إطرائهم. فإذا كانوا يستحقون الإطراء فذاك حقهم، ولكن هل سألت نفسك بصدقٍ عما إذا كانت تلك المعاملة الراقية يحظى بها غيرُك من التونسيين سواء من المعارضين أو حتى من المواطنين العاديين!
لا أظنك تستطيع الجواب بالإيجاب وأنت تعرف أن إخوانك -وأنا منهم- ترتعد فرائصهم لمجرد رؤية عَلم تونس يرفرف فوق مبنى سفارة من السفارات وخصوصا في البلدان العربية.
وإذا كان جوابك بالنفي، فاسألْ نفسك: لماذا أنت بالذات من دون الآخرين؟ فهل أن الخُلق الحضاري لم يتسم به هؤلاء إلا معك أنت؟ أم أن القوم يتربصون بك دائرة السوء والخنوع وقبول المذلة..مقابل جواز سفر هو في الأصل حق طبيعي لك بدون منة، وهو مقابل لم يقبل به غيرك من إخوانك الماسكين على الجمر حفظا لمبادئهم وكرامتهم ورفعة نفوسهم. فما بالك وأنت تنعم بنسيم الحرية في أرقى عواصم العالم!
فما الذي يجبرك على دفع هذا الثمن الباهظ ولا حاجة لك في تلك الثمرة الزهيدة.
صدقني لست من أنصار نظرية المؤامرة لأتوجس من الآخرين، ولكن التجارب التي مررنا بها خلال محنتنا الطويلة في غربتنا بين البلدان وتعامل النظام وأتباعه في كل مكان معنا علمتنا الكثير. وقد قال لي دبلماسي أردني ذات يوم:"لا يوجد سفير في العالم أو أي موظف في سفارة أن يتصرف في شيء دون أخذ الإذن من الداخل"، فاعمل حسابك أن هذا امتحان لك من الداخل، وما كان للطاقم الديبلوماسي التونسي الذي سارع ممثلا في سعادة القنصل العام ونائبه المحترم إلى استقبالك بواحد من المكاتب الرئيسة للمبنى أن يفعل ذلك باجتهادٍ منه إلا أن يكون قد تلقى سلفا إشارة بخصوصك من الداخل...
فأوْلى بك يا أخي أن تنتظر حتى يستقبل ذلك الطاقم الدبلوماسي إخوانك التونسيين مثلما استقبلك أنت بالترحاب والمعاملة الراقية لتطمئن إليهم.. فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية...
ومع هذا الشعور الذي خالجني بعد قراءة مقالك الأول (15 جانفي 2008) فإنني لم أجرؤ على كتابة شيء في شأنك، إلا بعد صدور مقالك الثاني (17 جانفي 2008 عن برنامج الاتجاه المعاكس) وبعد تردد وتلكؤ مني لحساسية الموقف بين إخوة الدرب الواحد.. فقد هالني حقيقةً تحاملك على الأخ الأستاذ محمد غلام نائب رئيس حزب الاصلاح والتنمية الموريتاني منذ الافتتاحية؛ بأنه صراع بين جناح قوي داخل أروقة السلطة التونسية وبين جناح غير راشد وغير محنك داخل التيار الاسلامي العربي والمغاربي.
فإذا كنت تقصد أن كلام الأخ محمد غلام شخصيا غير راشد لأنه يدافع عن الشعوب المسحوقة ويعتبر ما تعيشه البلدان العربية استدرارا وليس استقرارا... فراجع نفسك!
ودعوى أن د. خليل بن سعد وأمثاله يمثلون جناحا قويًّا داخل السلطة التونسية، هي مغالطة لا أظنك أنت نفسك تصدقها، فالسلطة التونسية نفسها قوية فعلا بهراوات البوليس وأدوات التعذيب، أما الدكتور خليل بن سعد وأمثاله من المثقفين الداعمين للسلطة، فهم مساكين يعتاشون بمقولة "الدنيا للواقف"، وبعضهم –وخصوصا من اليسار الانتهازي وهم قلة- استثمروا موجة الخلاف الإيديولوجي بدافع عداوتهم لهوية الشعب التونسي، أو تصفية حساباتهم مع خصم سياسي بتسخير قبضة السلطة...وليسوا أبدا جناحا قويا داخل السلطة، وهؤلاء جميعا يعرفون أنهم في مهب الريح، الصوْلةُ لغيرهم، ولا يعرفون متى تهب نسمة مؤامرة على أحدهم من داخل السلطة فتودي بهم، وما مثال حمّى الهمّامي ومحمد الشرفي عنا ببعيد... فلا جناح قوي داخل السلطة غير رؤوس وزارة الداخلية، ولا جناح قوي داخل القصر غير رؤوس عائلة الطرابلسي (وليس جميع من يحمل لقب الطرابلسي).
وأما إذا كنت تعني أن التيار الإسلامي في تونس والوطن العربي غير راشد وغير محنك، وأن النظام السياسي في تونس والوطن العربي هو الراشد والمحنك.. فأقول لك: يكفي هذا التيار غير المحنك شرفا أنه يدافع عن كرامتك وكرامة شعبك، ولذلك كنتَ تعتز بالانتماء إليه قبل بضع سنوات. ويكفي الأنظمة في تونس والبلدان العربية عارا لشراستها في قهر شعوبها وسلب حقوقها وثرواتها. وهذا بالضبط ما قاله الأخ محمد غلام في برنامج الاتجاه المعاكس وقد شاهدتُه مثل ملايين العرب، ولم أر في الرجل إلا روح المسؤولية والشعور بالحُرقة لما يصيب شعوب المنطقة من سحق وظلم وتنكيل، وقد كان كلامُه واضحا في دعوة الحكام إلى إتاحة هامش من الحرية لشعوبهم، فإن لم يكن، فعلى الشعوب أن تضغط بالوسائل السلمية لاسترجاع حقوقها، فإن لم تتمكن الشعوب من ذلك بالمعارضة السلمية وانهزمت أما جيوش الحكام المدججة بأحدث أسلحة تفريق المسيرات، فقد دعا الرجل من فيهم بذرة الوطنية من ضباط الجيش إلى إزاحة أولئك الحكام وفتح مجال الانتخابات، لأنه إن لم يحصل شيء من ذلك (والكلام له) فإنه لا يمكن أن نأمن نتائج ثورات الشعوب المقهورة وانفلاتها، وما مثال كينيا عنا ببعيد بعد تزوير نتائج انتخاباتهم...فكلام محمد غلام واضحٌ.
هذا ما قاله الرجل، فلماذا التركيز فقط على دعوته ضباط الجيش إلى الانقلاب دون ذكر المراحل المتدرجة التي دعته لقول ذلك! فقد اكتفيتَ بالقول: "...إننا نرفض اطلاقا وتأكيدا المنطق الذي تحدث به الأستاذ محمد غلام نائب رئيس حزب الاصلاح والتنمية الموريتاني والذي دعى من خلاله الجيوش وقادة الأمن للاطاحة بالحكومات العربية القائمة من أجل ارساء حالة موريتانية انتقالية في المنطقة العربية ...!!!
ألا ترى أن في نقلك لكلام الرجل اجتزاءً متحاملا عليه، وانحيازا لمحاوره الذي لم تذكر عما قاله شيئا، بل لم تذكر حتى اسمَه. فلماذا لم تعلق على كلام الدكتور خليل بن سعد عضو التجمع الذي أطنب في امتداح حزبه والأحزاب العربية الحاكمة التي قال عنها إن أنصارها بالملايين ولا تحتاج أبدا إلى تزوير الانتخابات. لماذا لم تقل شيئا عن ذلك؟ فهل أن الحديث عن تزوير الانتخابات في البلدان العربية كذبة؟
وهل أن ما قاله عن نعيم الحريات في تونس وعن قوة المؤسسات المدنية وتطوّر المجتمع المدني وحرية القضاء...صحيح؟ فلماذا لم تعلق عليه بشيء كما علقت على محمد غلام؟
وهل صحيح ما ادّعاه من أن الحزب الحاكم يقوم بنشاط راق في التأطير السياسي والثقافي؟ فهل يوجد في قاموس التجمع الحاكم غير فرض الانتماء بصنوف الترغيب والترهيب؟
وقولُكَ: "الدفاع عن العمل الانقلابي ومحاولة الترويج له على أساس أنه هو المخرج والحل لمنطقتنا وشعوبنا في مواجهة حالة التعثر في موضوع التنمية السياسية ليس الا لخبطة فكرية وذهنية لم تتعظ من تاريخ التجارب الانقلابية عبر افريقيا ومصر واليمن والعراق وغيرها من التجارب العربية أو تجارب شعوب أمريكا اللاتينية"
كلامك هذا -فضلاً عما فيه من تضخيم ومبالغة لمنطق الانقلاب الذي لم يكن مدار حديث الرجل- فإنك لم تذكر فيه التجربة الانقلابية في بلادك، فهل أن تلك البلدان التي ذكرتها وحدها قد نُكبت بسبب الانقلابات؟ أليست تونس أيضا منكوبة بسبب انقلاب بن علي على بورقيبة؟ ألم يكن انقلاب 7نوفمبر منعرجا نقل تونس من عهد المرحوم بورقيبة السيئ إلى عهد بن علي الأسوأ؟ ألم يأت بورقيبة ببن علي من الثكنة لإحكام قبضته على الشعب بعد ثورة الخبز 1984؟ فهل نعمنا بالحرية والكرامة بعد انقلاب 7 نوفمبر أم ازداد حالُنا سوءً؟.. كن صادقا مع نفسك ولك الجواب.
ثم إن قولك:"ان بلدا مثل تونس بما ينعم به من ثروات بشرية وطاقات فكرية وسياسية ومجتمع مدني نشيط وحزب حاكم عريق التجارب السياسية لا يمكن أن تقبل بوكلاء بالنيابة عن مفكريها أو قادة أحزابها الشرعية أو المحظورة من أجل أن يدافعوا عن سجنائنا أو عن الحريات وحقوق الانسان بطريقة مشوهة وخطابية تنتهج البلاغة والتفتيش عن الأرقام كسبيل لاقناعنا بسبيل الانقلاب لاستحداث اصلاحات سياسية بطريق القوة ومسلك العنف !!!"
أليس فيه بعض المغالطات؟ صحيح أن تونس فيها ثروات بشرية وطاقات فكرية، ولكن هل هي طاقات حرة وكريمة؟ أم نقنع بما قاله عنا الرئيس الفرنسي السابق "جاك شيراك" : "يكفي الشعب التونسي أنه يأكل ويعيش"، فأبقار تونس وأغنامها وقططها وكلابها وحتى حشراتها أيضا تأكل وتعيش...
ومن هي الطاقات السياسية التي تتحدث عنها؟ وهل هي في السلطة أم خارجها؟
وهل في تونس مجتمع مدني نشيط غير المؤسسات التجمعية الموجَّهة؟
إذا كنت لا تثق بالمعارضة الإسلامية -وهذا حقك- فاسألْ المعارضة العلمانية ستجيبك، أو عد لما قاله الدكتور المنصف المرزوقي في الحلقة السابقة من الاتجاه المعاكس عن المجتمع المدني في تونس، فهو رجل مثقف ومفكر علماني ليس بإسلامي ولكنه صادق مع نفسه ولا يحابي ولا يداهن.
أما الحزب الحاكم في تونس عريق التجارب السياسية الذي تتحدث عنه فعمره الآن عشرون عاما من الظلم والقهر وليس له من تجربة غير ذلك، فحزب بورقيبة الذي كان قائما على شرعية تاريخية أذلنا بها ثلاثة عقود قد مات بموت بورقيبة، وانظر عدد أنصاره الذين ظلوا أوفياء له بعد خروجه من القصر. وحزب التجمع الذي قام على شرعية "لا ظلم بعد اليوم" و"لا مجال لرئاسةٍ مدى الحياة".. -وصدّقناه يومها تغليبا لحسن النوايا-.. لم يكن له من إنجاز غير التنكب لشعاراته التي فتح بها باب الجثوم على صدورنا. وسنرى كم سيكون لبن علي من نصير بعد انتقاله إلى رحمة الله، وماذا سيقول عنه أقرب المقرَّبين له بعد رحيله.. والأيام بيننا.
ومع أنني لا أضع نظارة سوداء لرؤية الواقع، فمن حقي مخالفتك في إطرائك لمواطن الخير والانجاز في التجربة السياسية التونسية -وهي كثيرة جدا- مع النضال من أجل تحسين التجربة على الصعيد الحقوقي والسياسي.. لأنه لا قيمة للإنجازات الاستعراضية إذا كانت تُقام على جماجم الشعوب وعلى حساب حرياتهم وكرامتهم وحقوقهم السياسية، وتُورثهم المهانة والخوف والاستكانة لأجيال قادمة وتقتل فيهم مواهب النهضة والإبداع. فقد ترك الاتحاد السوفياتي إنجازات هائلة لا تساوي إنجازات بن علي أمامها شيئا، في مختلف المجالات من الصناعة ومظاهر القوة إلى مجال غزو الفضاء...ومع كل ذلك فإنه لمّا انهار لم يأسف عليه إلا قلة من الذين كانوا متمعشين من وجوده، لأنه كرس الاستبداد وأشاع المظالم وسفك الدماء ووأد الحريات...
وإذا كنت يا أخي غير مقتنع بسبيل الانقلاب لاستحداث إصلاحات سياسية بطريق القوة ومسلك العنف من قبل المعارضة (ولا نختلف معك في هذه القناعة)، فكيف تريد المعارضة في المقابل أن ترضى بممارسة القوة والعنف تجاهها من قبل السلطة؟
فالعنف هو العنف والإرعاب هو الإرعاب (ولا أقول الإرهاب) مهما كان مصدره، سلطة أو معارضة. أليس هذا الحق والمنطق الذي كان ينبغي أن تقتنع به بلا تحيّز؟
ثم إذا كان يضيرك تدخل الغرباء أمثال محمد غلام في شأن بلادنا ليدافعوا عن سجنائنا وحرياتنا وحقوقنا، ألم يكن أوْلى أن تسأل نفسك أوّلاً: لماذا لدينا سجناء سياسيون؟ ولماذا ليس لدينا حريات؟ وأين ذهبت حقوقنا؟
فلو كانت لنا تلك الحقوق لما تجرّأ أحدٌ أن يذكر حكامَنا بسوء، ولمَا كنّا مضغة على ألسنة الآخرين وطرفا يرقّ لحالنا ويدافع عنا الغير، حتى من بلدانٍ أكثر منا فقرا وتخلفًا.
كما أن قولك: "تحية وطنية صادقة الى أبناء تونس الأبرار المتعالين عن الجراح وتحية الى رجالات تونس ونسائها الأوفياء لكلمة "لا ظلم بعد اليوم" التي كانت أبرز عنوان في بيان سبعة نوفمبر الأول وأبرز مضمون سياسي تجدد معه الأمل تونسيا في خطاب الذكرى العشرين.
فيه إغراب -أرجو أن لا يكون مقصودا- وتعريض مجهول الضمير.
فمَنْ الوفيّ لكلمة "لا ظلم بعد اليوم"؟ هل هو من قالها واعتلى بها العرش؟ أم من سمعها وصدّقها فرزح تحت أغلالها؟ كلنا مع هذه الكلمة نريدها، وكثيرون عُذّبوا وسُجنوا أو تشردوا.. وبعضنا ماتوا من أجلها، وأحسب أن وجودك في المنفى كان لأجلها. فمن تنكّر لهذه الكلمة غير من قالها؟
فحذار يا أخي العزيز!، إن أرواح الذين ماتوا تحت التعذيب وفي السجون وضحايا الأمراض المزمنة..تسمعك وستذكرك عند باريها. ودموع بنات المرحوم أحمد بوعزيزي لم تجف بعد، فاتق الله.
وإذا كنت لا تزال تعلق آمالا على تجدد ذكرى خطاب "لا ظلم بعد اليوم" بعد تكرارها للعام العشرين. فأخشى عليك أن تبقى تنتظر سنوات قد تطول بتطاول عمر صاحبها، لا قدّر الله، وآمل من كل قلبي أن لا يكون ذلك بانقلاب، لكي لا يعيد التاريخ نفسه.
أما قولك عن الأخ محمد غلام أنه دافع بشراسة وحماسة عن تجربة حركة النهضة التونسية وزعيمها الذي أطنب في مدحه واطرائه الى حد التقديس والتبرك...! ففيه مبالغة فادحة؛ أولا لأنه لم يتحدث عن تجربة حركة النهضة أصلا، ومنشط البرنامج د. فيصل القاسم لم يسمح له بالحديث عن تونس وطلب منه الحديث عن عموم الوطن العربي عموما، رغم أن محاوره د. خليل بن سعد قد استدرجه بامتداح التجربة السياسية التونسية. فلم يكن هناك حديث عن تجربة حركة النهضة بالذات.
أما الشيخ راشد الغنوشي فقد امتدحه محمد غلام فعلاً في حديثه، وقال عنه أنه مفكر راقي وأنه عارٌ على تونس تشريده لتستضيفه بريطانيا. ولكنه لم يطنب في مدحه وإطرائه إلى حد التقديس كما تدّعي يا أخي مرسل. ولو اعتبرنا أن ما قاله فيه يصل حد التقديس، لكان اعتبار قولك أنت لبن علي هو التقديسَ عينه، في تأكيدك على إلحاحية التدخل السياسي السامي من قبل الجهات العليا بالبلاد التونسية قصد رفع القيود عن كافة مواطنينا المقيمين بالخارج.
فمنذ متى كان التونسيون يخاطبون رؤساءهم بالسموّ، فالسمو لله وحده على كافة خلقه. وقد كنا ننفر من وسائل الإعلام الخليجية لحديثها عن سمو الأمير وسمو الملك.. ولم نسمع تونسيًَا واحدًا يتحدث عن سموّ الرئيس، ولا حتى المذيع محمد رؤوف يعيش في زمن المرحوم بورقيبة.
وإلى متى سنظل نستجدي لفت انتباه الجهات العليا بالبلاد التونسية ونسترحمها يا أخي، فقد استجداها المعارضون في الداخل عشرين سنة كاملة، واستظرفها الدكتور الحامدي ومن والاه لسنوات، وأخيرا استلطفها الخط الرمادي الذي سخط من السواد الحالك ولم يرض البياض الناصع...كل ذلك بلا طائل...فلماذا نلوم من ينتظرون خروج المهدي المنتظر من الكهف لعدة قرون إذن..فلْنقتدِ بهم، فننطوي على أنفسنا في كهف الحياة ولو كان خاليًا تماما من نور الحرية والكرامة، ونلعن الدنيا أملاً في الآخرة...
اتق الله يا أخي فإن للحق ربٌّ يحميه، ولن يحتمي أحدٌ ممن حادوا عن الحق والعدل وظلموا الناس يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون والعاقبة للمتقين، فاتق الله.
وإذا كنت أخي تعبتَ من الغربة وطالت عليك المحنة، فإننا كلنا كذلك، نموت كمدًا على فراق الأهل والاشتياق لمواطن الصبا، وليس ذلك خيارُنا وما باليد حيلة، وليس الانهزام للظلم والظالمين، والتنكر للحق وأهله بالحل السوي الذي يعيدنا إلى أوطاننا.
وإذا كنت قد اخترت نهائيا الحياد عن الوسط، والانحياز إلى الدنيا مع الواقف، فليكنْ ذلك بهدوء وصمت مثل الكثيرين الذين استقالوا من الحركة بصمت، وتركوا النضال بصمت، ومنهم من التحقوا بصفوف الموالاة بصمت، عملا ب "إن عصيتم فاستتروا".. فلم يسمع بهم أحد ولم يذكرهم أحدٌ بسوء.
فالتاريخ لا يرحم،
ويبقى أملنا في أن الله يرحم..
وأخيرا، عذرًا يا أخي العزيز مرسل على ما قد يبدو لك تطاولا، وهو في رأيي صراحة، وكثيرا ما تكون الصراحة مرة، فالذي يجاملك قد يخدعك. وإنني والله ليعتصرني الألم أن أضطر إلى كتابة هذا المقال، وما جرّأني على الكتابة في الشأن السياسي التونسي -بعد انقطاعي لثلاث سنوات- إلا الكمد على رؤية فرسان يترجلون إلى المقابر، وفرسان يتساقطون في طريق النضال، ولولا أنني كنت ولا أزال أحسبك فارسا، ما كتبتُ فيك حرفا..
والله تعالى يبلونا بالخير والشر فتنة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.