في يوميات الكاتب والأديب الكبير الأستاذ البشير بن سلامة إحالات وأسرار كثيرة.. بعضها حرص الكاتب على إظهار خصبها، وبعضها يحيلنا إلى أحوال تونس المتدهورة من جراء الاستعمار، وفيها أيضا ما يقص علينا مظاهر الحياة في فرحها وسرورها وفي أحزانها ومرارتها، وفيما أكد على الغيرة على الوطن وعلى محبة الرجال الصادقين. وفي (يوميات) البشير بن سلامة تكتشف أن لتونس تاريخا حافلا كغيرها من بلدان الوطن العربي ، وهامت بلغة الضاد منذ أجيال، وأظلها الإسلام واعتزت به كثيرا.. وترى تونس (عالما عجيبا) وتاريخا متداخلا مع الجغرافية والكونية، وتكتشف أجيالا ارتبطت على الدوام بالزمن وبما تحرك فيه وتجّدد، وبمن كان له طموح وسعي الى الوصول الى الوزارة.. والى لطف جماعات من المثقفين وخلقهم الطيب، والى مواقف ذوي الآراء، الذين اكتووا بنار المؤامرات و الإذايات وبقوا حيارى فيما يجب اتخاذه من موقف وكم انتظروا من سنوات لإنصافهم؟ وفي (اليوميات) تكتشف مخيال الجماعات، التي نهلت العلم من المستشرقين ورزقت الضحالة والجدب، لأن الطريقة الاستشرافية تقتل في أبناء العربية كل إبداع وابتكار. وفي (اليوميات) تتحسس برغبة المؤلف الى عدم قبول الوصايا على طروحات الشبان وبالمناداة بعدم دفعهم الى الاحقاد والضغائن.. وتونس كما رسمها قلم البشير بن سلامة في يومياته، هي بلد معطاء وأبناؤها في محفل التاريخ تألقوا في مجالات العلم والأدب والفكر والسياسة أمثال: حنبعل ويوغرطة، والامام سحنون، وعبد الله بن زيد القيرواني، وابن خلدون وابن رشيق وابن الجزار وخير الدين باشا، والطاهر الحداد والحبيب بورقيبة ومحمد مزالي وتوفيق بكار ومحمد الفاضل بن عاشور وأضرابهم.. وأجيالها اتسموا بسمات فريدة ونظريات جديدة في مسعى الخير.. وحياة التونسيين ظلت في بعض الأوقات المرجع والنبع لدى الكثير من الشعوب، لأن معمار حياتهم كان ثريا، ويترجم عن التفطن والذكاء.. ولنعد في هذا المجال إلى تراث الأجيال، فسوف نجد فيه ترصد الظواهر والمواقف والقضايا الكبرى، وكل ما أثار الجدل وما اختلفت فيه الآراء، أو يشير الى الخصائص المشتركة النابعة من إرادة الأفراد وتدبيرهم. فتلك هي (تونس) كما أراها شخصيا في (يوميات البشير بن سلامة) وفي كتاباته الاخرى ك: (رحاب الفكر، (قضايا) والواحات قصصية)، والعابرون!..» هي وطن ينبع من الطابع التاريخي، وكل شيء فيه متزمن بزمن، او متحرك مع زمن، أو ضد زمن.. وهذه التحديدات سوف تظل على حالها، أو قد تثير جدلا واسعا، او تضيء ذكرى!.. و(يوميات) البشير بن سلامة والتي بدأها منذ عام 1947، من ميزاتها انها (يوميات بعدية)، وكتبها في الغالب بعد إتمام نشاطه.. وهي لون من الكتابة السردية الممتعة.. وفيها عرفنا الكاتب بما انتابه من متاعب ومعوقات في زمن طبيعة الحكم في تونس وفرض من لا يرضاه الناس احيانا، وفيها ما يذكرنا بالأحداث الكبرى وبطبيعة الحكم المطلق، وبالمواقف الجريئة لبعض الشخوص الحرة، وبتأثيرات ما تمزقت بها الحياة وساءت بها الاحوال، وحتى بأجواء المناورات والمخاوف من امتداد الشر. وفي (توضيح) البشير بن سلامة ل(يومياته) كان افادنا بان الكتابة بالنسبة الى (اليوميات)، كانت ككل كتابة لديه، لكنها تكيفت احيانا حسب الظروف ونوعياتها ووضعيته امام قيد الزمن.. وهنا وجدناه يتساءل: «أتكون خالدة خلود الدهر، ثابتة ثبات الديمومة الموغلة في نسق يكاد يكون ضربا من الوحي.. فهل هي كذلك؟..» وفي (اليوميات) وجدنا البشير بن سلامة يتحدث عن (دفتره الصغير) ويقول عنه: هو هام جدا، وفيه دونت رسائل متبادلة بيني وبين صديقي عبد القادر حمام، كما احتوى هذا الدفتر على أشعاره في طور الشباب وانطباعاته حول ما يجري في نفسيهما كشباب قبل أن تشغله قضايا بلاده، ويجد نفسه في (منظمة الشبيبة المدرسية) ثم في صفوف الحزب الدستوري الجديد. ويلفت البشير بن سلامة انظار القراء إلى ان (الدفتر) احتوى ايضا على قصيدة عنوانها (نشيد تونس) وكان كتبها بتاريخ 7 ديسمبر 1947 ويعترف في هذا الشأن بانها ضعيفة، ولكنها تعبر عن حبه للوطن وعمره آنذاك كان ست عشرة سنة. وفي حديث الكاتب البشير بن سلامة عن هذا (الدفتر) يقول: «.. ووجدت في هذا الدفتر الذي طرحته من مشاغلي منذ سنة 1950 العديد من القصائد: (حوالي 20 قصيدة، ومنها ما نشرته جريدة «الصباح» بإمضاء «البشير» في (صفحة شباب اليوم الصادرة كل يوم احد (سنة 1952)، وقد اجازها في ذلك التاريخ الاديب المشهور الهادي العبيدي رئيس تحرير جريدة «الصباح»، ولقد ذكرت ذلك بالتفصيل في كتابين من تأليفي وهما بمثابة سيرة ذاتية: «عابرة هي الأيام» و(بين الجذور والعبور). والبشير بن سلامة تحدث عن علاقاته بالزعيم بورقيبة عندما زار في صيف عام 1950 (مدينة قصور الساف).. وعن لقاءاته به المرات العديدة فيما يقول :»والغريب ان علاقاتي مع بورقيبة ستتصف طوال ست وثلاثين سنة بهذه السمة المتمثلة في القرب والبعد معا وستتكرر مثل هذه المواقف معه بنفس النسق.. ولكني حمدت الله بعد سنوات قليلة عندما نضجت أدبيا انني لم ابدا مسيرتي الكتابية بالمديح». ويثني البشير بن سلامة على المفكر الشاذلي القليبي فيقول عنه: «انه رجل مثقف ومؤمن اشد الايمان بالعقل ويتقصى كل الدقائق ويغوص في كل التفاصيل وهو قادر على الانقضاض بسرعة على ما يظهر من متناقض الكلام أمامه.. له طاقة على الانصات إلى من يحدثه، وتوليد الأفكار معه ليصل إلى جلية الأمر، ولا غرو، فهو متشبع بالفلسفة اليونانية اللاتينية.. الخ..». وفي «اليوميات» تحدث الكاتب عن بعض السياسيين ك: الباهي الادغم، ومحمد الصياح، والهادي البكوش، والطاهر بلخوجة، ومحمد مزالي، وأحمد بن صالح، ومصطفى الفيلالي، وإدريس قيقة، والزعيم الحبيب بورقيبة، والحبيب بورقيبة الابن، والهادي المبروك، والباجي قائد السبسي، ورشيد صفر.. وسواهم.. ولم يهمل بن سلامة الحديث عن بعض المثقفين أمثال: محي الدين صابر، والدكتور الحبيب بالخوجة، والشاذلي القليبي ومحمد الفاضل بن عاشور، ولا عن بعض الرفاق في اتحاد الكتاب التونسيين ك: محمد العروسي المطوي، وعمر بن سالم، ومحمد فنطر، والحبيب الجنحاني، ومحمد فرج الشاذلي، ولا عن كبار الرسامين كزبير التركي... وهكذا... ف(يوميات بن سلامة) هي وإن كانت غوصا في (الأنا) في لحظة أو في موقف، فهي سجل حافل وثري عما جرى في عابر الأيام، وتمثل شهادة حية عما ابتلي به الكاتب في خضم الصراعات السياسية وموقفه منها وتبرز «اليوميات» أيضا عمق الود والتآلف بينه وبين صديقه محمد مزالي في مجمل أيام المحن. إذن: فهذا الكاتب في تقديري جسّد ما عشناه من واقع وذكريات أليمة، لذلك أحبه النقاد وارتبطوا بأدبه وفكره.. ومن هؤلاء كان الدكتور عبد العزيز شرف الذي قال عنه في كتابه: (الأدب العربي ووجه العصر): «إن كتابات البشير بن سلامة تشدنا جميعا، لأنه كاتب أغنى الفكر ولامس أحداث العصر، وأدبه النقدي والإبداعي يمثل مقومات الوحدة ومطالب الحياة اليومية، ومظاهر الوحدة الثقافية العربية المعاصرة المنبثقة من حضارة واحدة.. هي الحضارة العربية».