هزّت عدّة جرائم مروّعة وبشعة، الرأي العام، خلال الأشهر القليلة الماضية، جرائم بلغت ذروة الوحشية واستفزّت مشاعر أغلب الناس وكانت سببا في إطلاق دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وقفات احتجاجية تطالب بإنزال أقصى العقوبات على الجناة وهي تنفيذ عقوبة الإعدام المعلّقة منذ التسعينات. فجريمة اغتصاب وقتل عجوز القيروان ذات ال86 سنة، بتلك البشاعة والوحشية وجريمة ذبح الطفل ياسين بعد الاعتداء عليه بالفاحشة بأحد أحياء العاصمة، وصولا إلى جريمة طفلة قبلاط البالغة من العمر 15 سنة واختطافها لعدّة ساعات من طرف 5 أنفار والاعتداء عليها جسديا بالعنف وبالفحش وهلاك جدّتها بعد الاعتداء الذي تعرّضت له في ذات الواقعة، وقبلها جرائم بقيت عالقة بذاكرة التونسيين ومنها الجريمة التي ارتكبها «الفنان» الشعبي العربي الماطري الذي قتل طفلا بريئا بعد أن اعتدى عليه جنسيا أو جريمة قتل المذيعة عواطف بن حميدة، وكذلك جريمة قتل الطفل ربيع، كلّها جرائم أثارت مشاعر الغضب والحنق لدى العامّة خاصّة بعد تداول وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لتفاصيل ووقائع هذه الجرائم، والشعور بالغضب تحوّل في مختلف هذه الجرائم الى المطالبة بالقصاص من الجناة وتنفيذ عقوبة الإعدام المعلّقة. وإذا كانت بشاعة الجرائم ووحشيتها ثابتة بالأدلّة والبراهين القانونية فان السؤال الأهم هو هل أن تنفيذ عقوبة الإعدام كفيل بردع مثل هذه الجرائم الوحشية؟ وهل أن الدول التي لم تلغ أو لم تعلّق العقوبة وظلّت تنفّذ هذه العقوبة ومنها من يتقيّد بأحكام الشريعة في تنفيذها من خلال قطع الرأي بالسيف أو الرجم حدّ الموت في جرائم الزنا،قد شهدت تراجعا في منسوب هذه الجرائم الوحشية؟ وفي السياق الوطني، هل أن عدم تصديق رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي على قرار الإعدام رميا بالرصاص الصادر من المحكمة العسكرية في حق قاتل الطفل ياسين، والرقيب بالجيش الوطني محمّد أمين البجاوي، المُكنّى ب»شلانكا»، تثبيت للتوجّه السياسي القائم منذ بداية التسعينات والقاضي بتعليق تنفيذ أحكام الإعدام؟ وهل أن ذلك يمكن ان يكون مدخلا للأخذ بتوصية تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة في علاقة بتقنين تعليق عقوبة الإعدام؟ الإعدام.. عقوبة ردعية أم انتقامية؟ تعتبر عقوبة الإعدام أقصى عقوبة جزائية تقرّها المنظومات التشريعية في كل دول العالم، لكن هذه العقوبة التي تنتزع الحياة باسم تحقيق العدالة، أو باسم الالتزام بتعاليم الشرع كما يحدث في بعض البلدان الإسلامية خاصّة (رغم اتفاق جمهور الفقهاء على تعليق تطبيق الحدود والتي أبرزها القتل لغياب شروط التطبيق).. ومنذ بداية سبعينات القرن الماضي تواجه هذه العقوبة حملات دولية واسعة تقودها منظّمة العدل الدولية للمطالبة بإلغاء هذه العقوبة التي تراها أغلبية المنظّمات الحقوقية الدولية أنها عقوبة غير إنسانية وقاسية وتناهض أبرز حقوق الإنسان التي أوردها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو الحق في الحياة كما تشير أغلب التقارير الدولية ومؤشرات الجريمة في أغلب دول العالم أنها عقوبة غير رادعة وأن تنفيذها لم يقلّص من منسوب الجرائم وأنها ليست إلا عقوبة ثأرية هدفها الانتقام والتشفّي من الجناة وأن الدولة تمارس من خلال فعل الإعدام نفس فعل القتل الذي جرّمته، ولم يثبت بالأدّلة والبراهين وجود علاقة بين عقوبة الإعدام وتراجع نسب الجرائم. ورغم تعليق تنفيذ عقوبة الإعدام في تونس منذ بداية التسعينات فان أغلب المختصين في القانون يجمعون على أن السياسة التشريعية الوطنية تتميّز بالتوسع في قائمة الجرائم المستوجبة لعقوبة الإعدام ولا ينفي ذلك توجّه المحاكم إلى تجنب إقرار عقوبة الإعدام إلا في الحالات القصوى، وفي أغلب الأحيان تتشكّل هذه الحالات القصوى بضغط من الرأي العام في بعض الجرائم التي يتم تداولها إعلاميا. عفو رئيس الدولة وفق القانون ينفّذ الإعدام في تونس إما بالشنق حدّ الموت في قضايا الحق العام أو رميا بالرصاص في أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم العسكرية، ولا تنفّذ أحكام الإعدام إلا عند استيفاء طرق الطعن القانونية وكذلك بعد موافقة رئيس الدولة الذي جوز له قانونا ممارسة حق العفو الذي يخوّل الحطّ من العقوبة إلى السجن المؤبّد. وقبل الثورة امتنع الرئيس السابق زين العابدين بن علي ومنذ إعدام سفاح نابل الناصر الدمرجي عن التصديق على أحكام الإعدام الصادرة منذ بداية التسعينات، ومنذ الثورة والى اليوم لم يصدّق أي من الرؤساء الثلاثة على أي حكم من أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم، وبعد الثورة مباشرة وخاصّة في عهد الرئيس السابق فؤاد المبزّع تم تحويل 100 حكم بالإعدام الى مؤبّد وذلك الى بداية 2012، كما تم تمكين خلال شهر فيفري 2011 عشرات المحكومين بالإعدام بحق الزيارة العائلية وغادر بعضهم لأوّل مرّة «عنابر الموت».. تلك العنابر الرهيبة والمروّعة ومنهم من أمضى سنوات مقيّدا إلى سلاسل حديدية وخاصّة في سجن 9 أفريل قبل هدمه ووفق شهادات موثّقة لمساجين سابقين ولمنظّمات حقوقية وطنية ودولية. ومذ أشهر قليلة، عادت قضية قتل الطفل ياسين من طرف الرقيب بالجيش الوطني محمّد أمين البجاوي لتشغل الرأي العام من جديد بعد أن أيّدت محكمة التعقيب حكم القضاء العسكري بإعدام «شلانكا»، وأحالت الملف لرئيس الجمهورية لتأييد الحكم وبالتالي تنفيذه رميا بالرصاص أو العفو ليتحوّل الحكم من الإعدام إلى السجن المؤبّد، وامتنعت رئاسة الجمهورية عن توضيح موقف رئيس الدولة إلى حدّ اليوم ولكن الجدل عاد اليوم للمطالبة بموقف واضح من رئاسة الجمهورية التي قبلت بمقترحات لجنة الحريات الفردية التي طالبت في مقترح أوّل بإلغاء عقوبة الإعدام أو تحديد الحالات القصوى لتنفيذ هذه العقوبة أو تقنين تعليق العقوبة، وهو الموقف الذي يراه المختصون في القانون غير منطقي باعتبار أنه عمليا وتشريعيا يصعب تقنين تعليق العقوبة وان حصل فانه سيكون سابقة تشريعية في البلاد وأن المنطقي هو إلغاء العقوبة مع الإبقاء على تفصيل الحالات القصوى لتطبيقها. وكانت لجنة الحريات الفردية والمساواة، اقترحت «إما الإلغاء الكلّي لعقوبة الإعدام وهو ما لا يمنعه الدستور الذي أحال للقانون تحديد الحالات القصوى للعقوبة (مقترح اللجنة) أو الإبقاء على عقوبة الإعدام مع تعريف الحالات القصوى بأنها الحالات التي ينتج عنها الموت وهذه (عقوبات غير قابلة للحطّ) مع تقنين تعليق التنفيذ. مسؤولية الدولة رغم تعليقها للعقوبة غير أن الدولة تواجه «حرجا» حقوقيا مع المنظمات الدولية التي تضغط لتلغي تونس العقوبة بعد عقود منت تعليقها ومنذ أشهر طالب الائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام رئاسة الجمهورية بالتعجيل بالمصادقة على البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بهدف الإلغاء التام والنهائي نصا وتشريعا لعقوبة الإعدام. ويعتبر الائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام المتكوّن من عدّة منظمات وطنية هامّة ومعروفة بدفاعها ونضالها من أجل إقرار ضمانات تحمي حقوق الإنسان من كل الانتهاكات، إن المستهدفين بعقوبة الإعدام والتي يصفها بالعقوبة «الانتقائية» هم في غالب الأحيان من المنتمين للطبقات والفئات الاجتماعية «الفقيرة والمهمشة والعاجزين ماديا وأدبيا عن تملك وسائل الدفاع الضرورية الضامنة لتوفر شروط المحاكمة العادلة». وفي تقرير الاستعراض الدوري الشامل الثالث منذ بضعة أشهر أكّدت الدولة في علاقة بمسألة إلغاء عقوبة الإعدام أن الفصل 22 من الدستور على أن «الحق في الحياة مقدس لا يجوز المساس به إلا في الحالات القصوى التي يضبطها القانون». وأن إلغاء عقوبة الإعدام موضوع نقاش وطني وأنه على مستوى التطبيق، لم تنفذ تونس أي حكم بالإعدام منذ 17 نوفمبر 1991 وكانت من الدول التي أيدت وقف العمل بعقوبة الإعدام الوارد بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادرة في 2012 و2014 و2016.