ما آلت إليه أخلاقيات الممارسة السياسية في البلاد من تراجع وتدنّ، تجاوز كل الخطوط الحمراء مهددا بذلك مسار الانتقال الديمقراطي برمته ووجود وكيان الدولة في حد ذاتها. اعتقد الجميع مع بداية دربة الأحزاب على التجربة الديمقراطية والتعددية بعد 14 جانفي أن السنوات العجاف من «الكبت» الحزبي والسياسي ستخلف دون شك آثارها، ومن الطبيعي في «السنوات الأولى ديمقراطية» أن يواجه المسار انحرافات مردها الجهل بمقومات الحياة الحزبية السليمة كما تقتضيها نواميس العمل السياسي في مناخ من الحريات، آملين في الآن ذاته أن تنجح تلك النخبة والأحزاب المناضلة من أجل الديمقراطية والمتعطشة للتعددية والتنافس الديمقراطي السليم في تجاوز فترة الدربة والمرور إلى الممارسة السياسية الحقيقية التي بدونها ودون أحزاب قوية مهيكلة لا يستقيم الحديث عن ديمقراطية منشودة. لكن للأسف سرعان ما تبدد ذلك الحلم أو كاد مع إصرار الجميع دون استثناء على المضي في «سياسة العبث» تجسدت على امتداد الثمانية سنوات الأخيرة في أكثر من موضع وشوهت السياسيين والفعل السياسي في عيون التونسيين وهم يرون النخبة متبدلة متلونة تجمعهم وتفرقهم لا المبادئ والبرامج والإيديولوجيات بل المصالح الضيقة وحدها ديدنهم ومبتغاهم في نهاية المطاف. لسنا هنا في وارد التجني أو التحامل لأن البعض قد يحاجج بأحكام السياسة التي تقتضي فيما تقتضيه «أن لا صديق دائم ولا عدو دائم»، وهذا صحيح، لكن ما تأتيه النخبة السياسية من ممارسات في الآونة الأخيرة مع بداية المعركة الانتخابية لا يندرج بأي شكل من الأشكال في باب مقتضيات وأحكام السياسية، بل لعلنا اليوم دخلنا الخانة الأخطر في صراعات الأحزاب والنخب وذلك بالزج برموز ومؤسسات الدولة في حرب طاحنة. وما يؤكد حدة الانحرافات وخطورتها أننا أصبحنا في تحاليلنا وتعليقاتنا نستعين بتوصيفات «المواجهة المفتوحة» و»صراع كسر العظام» و»منطق ربح جولة في انتظار نهاية الحرب»، كما بتنا نتحدث عن «الميركاتو» و»التكتيكات الفردية والثنائية» وكأننا في وارد التعليق على سجال جانبي أو مباراة كرة قدم، والحال أننا بصدد تقييم علاقات رئيس الجمهورية برئيس الحكومة وتوصيف التحالفات السياسية بين أهم الفاعلين الممسكين بدواليب الدولة والمتحكمين في المشهد السياسي وفي مستقبل البلاد. عديدة هي المنزلقات والمحذورات في ممارسة الفعل السياسي على امتداد السنوات الأخيرة عكست أزمة أخلاقية بامتياز مع انتشار العقلية الانتهازية والمفاسد السياسية والانتخابية إن صح التعبير. ويقر كثيرون أن الوقت قد حان للتفكير جديا في طرح مشروع «ميثاق وطني لأخلاقيات الممارسة السياسية» تنخرط فيه الدولة والأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية والمجتمع المدني لوضع الحد الأدنى من الشرف الأخلاقي والقانوني لتحصين الحياة السياسية والحزبية من التداعيات الخطيرة للسياحة الحزبية وشراء الذمم والابتزاز بعناوين سياسية وانتخابية وغياب شفافية التمويلات والارتباطات الخارجية وغيرها من صنوف الانحرافات غير الأخلاقية المتنامية والطاغية في المشهد اليوم.