إن التجاء المعهد الوطني للتراث للحل القانوني وتقديمه لشكاية لوكيل الجمهورية ضد من يكشف عنه البحث في قضية الاعتداء الذي تعرضت له "الحنايا" في منطقة المحمدية (ولاية بن عروس) بعد تعمد بعضهم هدم جزء من هذا المعلم التاريخي العريق على اثر الفيضانات الأخيرة التي شهدتها المنطقة، هو إجراء منطقي ومنتظر. ولكن إن كنا نعتبر أنه كذلك، بل ومن واجب المعهد وسلطة الإشراف، أي وزارة الثقافة القيام بهذه الخطوة لمحاسبة المعتدين على تراث البلاد وعلى تاريخها فإنه يبقى حلا منقوصا. فإن كان القضاء يمكنه أن يقتص من المعتدين، فإن التربية على احترام تاريخنا بجميع مكوناته هي مسؤولية الجميع. ونعتقد أننا في تونس لم نجد بعد المعادلة المناسبة التي تجعل جميع التونسيين أو على الأقل أغلبهم يعيرون التراث اهتماما يماثل اهتمامهم بمتطلبات الحياة اليومية. ولعلها فرصة للتذكير بأن العديد من التونسيين، ممن يهمهم أمر هذه البلاد، وحاضرها ومستقبلها، نبهوا في عديد المناسبات إلى أننا في حاجة إلى ثورة ثقافية، وأن تونس لن يستقيم حالها إلا إذا ما تغيرت العقليات تغييرا جذريا وحدثت رجة حقيقية تساعد على التخلص من كل الرواسب التي جعلت هذه العقليات متكلسة. ولكن ورغم الاتفاق الحاصل حول حاجتنا إلى ثورة ثقافية حقيقية، لا ثورة شعارات، فإننا لم نتقدم، إن لم نكن قد تراجعنا أصلا، حتى بلغنا مرحلة صرنا فيها غير قادرين على حماية شواهد تاريخية صمدت على امتداد ألفي عام على غرار الحنايا. فالحنايا التي هدم جزء منها (بالمحمدية) اثر الفيضانات الأخيرة بفعل فاعل على ما يبدو وهي مهددة بالهدم الكامل، لو تحققت مشاريع البعض، بنيت وفق المؤرخين في بداية القرن الثاني الميلادي. وتشهد الحنايا وهي عبارة عن سواقي من المياه بنيت بتقنية عالية الجودة وكانت تستخدم في جلب الماء من زغوان إلى منطقة قرطاج على الفترة الرومانية في تونس. وإذ كنا نعتبر أن مصلحة الإنسان هي فوق كل اعتبار وحياته يجب أن تكون مصانة، فإن ذلك لا يعني أنه يجب السماح بتدمير جزء مهم من تاريخنا للتغطية على أخطاء المسؤولين الذين تسببوا في ما آلت إليه الأمور بتجاهل ما يحدث من اعتداءات على المناطق الأثرية تحت مسميات مختلفة، على غرار البناء الفوضوي وتحويل أراض مصنفة تراث عالمي ( على غرار موقع قرطاج مثلا) إلى أراض للبناء دون أن نتحدث عن السرقات وقلة الصيانة وكل التهديدات التي يمكنها أن تنتهي بطمس معالم تراثنا وتاريخنا. وإذا ما عدنا إلى موضوع الثورة الثقافية الحقيقية، فإننا نعني دون شك التخلص من جملة من السلوكات التي تقوم على الأنانية وعدم الاكتراث بمقدرات الدولة وعدم الوعي بخطورة الاستهانة بالتاريخ وبالحضارة واستبدالها بجملة من القيم الأخلاقية التي تجعل المسؤول والمواطن، الاثنان معا، يفكران كثيرا قبل الإقدام على أية خطوة من شأنها أن تعود بالوبال على البلاد بأسرها. لذلك نقول ونشدد، إن بلادنا في حاجة إلى ثورة في العقول تشجّع على النقد الذاتي وتربي في التونسي الشعور بالانتماء حقيقة إلى هذا الوطن وتجعله يدافع عنه تلقائيا. إننا في حاجة إلى ثورة ثقافية تقنع المواطن بأن تونس جزء لا يتجزأ وأن مستقبلنا مرتبط بحاضرنا وبماضينا أيضا، دون أن نتحدث عن حق الأجيال القادمة في حماية ذاكرتها وتاريخها. وقبل كل ذلك بطبيعة الحال، احترام القانون.