من كان في تونس لا يعرف الفنان الجماييكي (نسبة لبلده الجماييك) "شاقي" ولم يسمع عنه من قبل فليعدل ساعته على العصر وإلا سيكون بالنسبة للجماهير الحاشدة التي غص بها مسرح قرطاج الاثري ليلة الثلاثاء كمن يعيش في زمن آخر. آلاف مؤلفة من الشباب والشابات أقبلت على العرض الخاص بهذا الفنان في إطار الدورة الجديدة لمهرجان قرطاج الدولي مع سبق الاعداد والتهيؤ لقضاء سهرة تاريخية بالنسبة لهم. جماهير حاشدة تعاملت مع الفنان وكأنها تعرفه منذ عقود. منذ الثواني الاولى التي انبعثت فيها الموسيقى وإذا بالاجساد كأن الكهرباء قد سرى فيها وإذا بالمشهد يصبح حريا بالوصف. لم تنفك الاجساد كامل العرض تتمايل وتتراقص والجماهير تقفز وتصيح وتطلب المزيد من الموسيقى والمزيد من الايقاعات الراقصة. كانت الايادي مرفوعة والاعين ترقب كل حركة وكل إشارة من الفنان لتطيع كل أمر وكل طلب يصدر منه أومن مرافقيه من الراقصين والفنانين والعازفين. كل ذلك على خلفية صيحات تصدر من الاعماق وهتافات من به شوق وحرقة ورغبة في التحرر إلى ما لا حدود له. الرقص وشفاء النفوس الاستقبال الذي حظي به الفنان "شاقي" جعله يسعى كامل العرض لمبادلة الجمهور شعوره فتحولت السهرة في بعض ردهاتها إلى حفل تنشيطي أكثر منه عرضا متكاملا ولكن من يعبأ بذلك؟. ما كانت الجماعة في حاجة لسماع الموسيقى وما كان همها أن تفقه الكلمات وما كان مطلبها أن تشرب من الالحان. كل ما في الامر أن الجمهور جاء لغاية محددة لمتعة يريدونها أن تكون خالصة. الرقص والرقص وقضاء لحظات تكون شفاء للنفوس التي تشكومن علة أوسقام. لكن لابد من الاشارة إلى أن العرض لم يكن من قبيل العروض التافهة التي تنغص على الحضور أكثر مما تفيده. لقد سهر جمهور مهرجان قرطاج الدولي مع نجم عالمي تباع من ألبوماته ملايين النسخ وهوحائز على جوائز عالمية رفيعة المستوى. شاقي يعتبر إلى جانب كل من ملك الريقي بوب مارلي وشين باول الذي نجده مبرمجا في الدورة الحالية لمهرجان قرطاج الدولي من أبرز الاصوات الناطقة باسم الجاماييك في العالم بفضل الموسيقى. يؤدي شاقي الذي يعيش هذه الاعوام عصره الذهبي لونا موسيقيا يعرف باسم "الراغا" وهي مشتقة من موسيقى الريقي. تاريخها يعود حسب الدارسين إلى الثمانينات من القرن الماضي. وكانت موسيقى الريقي قد عرفت تطورات عديدة منذ أن اشتهرت في العالم على يد "بوب ماري مارلي" الذي يدعى أيضا سفير الريقي إلى العالم. عدة ألوان موسيقية ولدت مع تعدد التجارب نجد من بينها حركة الريقي الراقص. ويعيد الدارسون نشأة "الراغا" إلى هذا اللون الموسيقي الراقص المشتق بدوره من الريقي. لا تعتمد عروض "الراقا" - على ما شاهدناه - من خلال عرض شاقي بقرطاج على المطرب المؤدي التقليدي للالحان والانغام وإنما تعتمد على الايقاعات الراقصة وعلى صوت الالات الايقاعية مع مراوحة مع صوت القيثارة وعلى قدرة الفنان على إيصال صوته والقيام في نفس الوقت بالغناء والرقص والتنشيط وخلق كل أجواء الاحتفال التي تعتمد على تشريك الجميع في الحفل لذلك ما انفك شاقي كامل العرض يدعوالجميع إلى الرقص. االعناصر المرافقة لشاقي من أصوات نسائية ورجالية لا تكتفي بدور ثانوي وإنما تشارك هذا الفنان الغناء والرقص والتواصل مع الجمهور. تونس بلد الاحبة وزيارتي لها لن تكون الاولى والاخيرة لم يجد شاقي صعوبة تذكر في مواصلة العرض تقريبا بنفس الايقاع. وبمجرد أن تهفت الاجواء قليلا يقوم بقفزاته وبهتافاته وبحركاته المثيرة والمستفزة فتنتعش الاجواء وينفث في الجمهور فإذا الحماس يشتعل والمشاعر تلتهب. أما عندما يصل إلى سماعهم لحن معروف فلا تسل عن الاجواء بالمسرح. أغنية "بومباستيك" الشهيرة مثلا كان لها فعل النار التي تسري في العشب. تلتفت من حولك وتنظر أمامك فتجد المكان مشتعلا. الكل وجد القوة اللازمة للدوران والرقص والهتاف. لم تكل الاقدام ولم تجنح الاجساد إلى الراحة. الكل تابع العرض وقوفا حتى أن الكراسي تركت إلى جانب أواستعملت لمساعدة الجماهير على رؤيا أفضل. كانت الحفاوة بالغة حتى أن الفنان لم ينفك طيلة العرض يتغنى بتونس معلنا أن تونس بلد الحب والاحبة ومؤكدا أن زياراته لهذا البلد سوف تتكرر. وقد غنى خلال السهرة للحب وطالب الجماهير بالهتاف معه باسم الحب. وللعلم فإن موسيقى الراغا تتكون من تلك الايقاعات الراقصة والثائرة التي تعكس رؤية أصحابها للمجتمع ولعدد من القيم التي تسود العلاقات البشرية ومعروف عن هذه الموسيقى أنها مستفزة لعدد من الاطراف لانها لا تتردد في إدانة بعض الاخلاقيات السائدة حاليا بالعالم خاصة منها بعض الممارسات الشاذة. ولا تتردد هذه الموسيقى في أحيان أخرى في التحول إلى نشيد للحب والسلام وقد قدم شاقي نماذج من الاغاني في هذا السياق خلال عرضه بقرطاج. يحمل شاقي في رصيده ثمانية ألبومات. وهووإن يؤدي غالبا ما يسمى ب"الراغا " فهولا يتردد في استعادة كلاسيكيات الريغي خاصة من رصيد بوب مارلي وعديد الالوان الموسيقية التي تأثرت بها هذه الموسيقى خاصة منها الراقصة. ولعله يجدر الاشارة إلى أن شاقي يستمد شهرته من عمله دون شك ومن حنجرته المميزة التي يقول عنها العارفون بأنها حالة خاصة لكن أيضا من تلك السمعة التي يتمتع بها بوب مارلي التي بقيت على حالها سنوات بعد رحيله وهوما من شأنه أن مهد الطريق لعدد من الفنانين من الجماييك نحوالعالمية. هناك استعداد واضح لقبول موسيقى الريقي وكل الالوان المتفرعة عنها منذ بوب مارلي لكن هذا لا يمنع من أن المنحى الذي اتخذته موسيقى الريقي اليوم جعل عشاق هذه الموسيقى يشعرون بالحنين إلى الاجواء العتيقة التي كانت فيها هذه الموسيقى أميل إلى الاجواء الحالمة. يبلغ حاليا شاقي من العمر حوالي أربعين عاما. لكن جمهوره لا يمكن أن يرى فيه وهوعلى تلك اللياقة البدنية سوى شاب مازال في المراحل الاولى من فترة الشباب. لعل مشاركته في الحرب ضد العراق مع الجيش الامريكي - فقد انظم إلى البحرية الامريكية في سنين الشباب المبكر- لعل مشاركته في الحرب منحته أجنحة فهويكاد يطيرعلى الركح. فعندما نعيش الحرب عن قرب ربما نعطي معنى أعمق للحياة. هيئته بدورها مميزة بلباسه الذي يثبت أن الانضباط والتقيد بما يجب أن تكون عليه الهيئة المحترمة أوالمقبولة اجتماعيا ليس من شيمه. ولكن الريقي أو الراغا التي نشأت من خلال ذلك التلاقح بين عديد التقاليد والالوان الموسيقية القادمة من آفاق مختلفة من افريقيا والبلدان السمراء بالقارة الامريكية وغيرها ولئن جمعت الملايين من البشر من حولها فإنها تبقى وسيلة تعبير عن انتماء خاص.