كل ما عليها فان وكل من عليها فان: النبت والريحان والشجر والحيوان والانس والجان.. كل من اقلّه المكان واظله الزمان.. «كل حي مستكمل عدة العمر ومود اذا انقضى أجله». الله أكبر.. مات استاذنا العظيم محمد عبد السلام، وليس الموت هو الذي عظمه مثلما يعظم سائر الموتى وانما عظمته الحياة قبل الموت مات محمد عبد السلام استاذ التعليم العالي بكلية الاداب والعلوم الانسانية بتونس ثم بكلية الاداب والفنون والانسانيات بمنوبة والعميد الاسبق بكلية الاداب والفنون الانسانية والمدير الاسبق لدار المعلمين العليا بتونس.. مات أحد اساتذتنا البارزين الذين فتحوا عيوننا على عيون القصائد العربية القديمة، لا قصائد «الموت» فحسب، بل وقصائد «الحياة» ايضا.. والتفاني في التدريس والبحث، وبعد ان ادى واجبه كاملا غير منقوص، سواء في النضال الوطني منذ ان كان طالبا في باريس في خممسينيات القرن الماضي او في الاسهام في نهضة الجامعة التونسية من مختلف المواقع على مدى عقود من الزمن، وكان رحمة الله عليه «يغشى الوغى ويعف عند المغنم» كما كان «يكره الموت والبلى ويعجبه ريح الحياة وطيبها». وانه ليشق علينا مشقة حقيقية ان نتحدث عن «الموت» بعده فضلا عن ان نتحدث عن موته هو لانه اطول من تحدثوا عن هذا الموضوع باعا واغزرهم به علما وافصحهم في اللهج به لسانا: فهو أكبر المتخصصين في دراسة «الموت» و«شعر الموت» في الادب العربي لان الموت كان موضوع اطروحته لدكتوراه الدولة، كما كان ابو العتاهية اكبر شعرائه موضوعا لدرس له عميق معروف لدى زملائه وطلابه جميعا.. وهو الذي كشف القناع عن مظاهر باهرة من انشائية شعر الموت وبيّن اهمية هذا الموضوغ في الهام الشعراء الشعر الشجي الجيد وحلل جزئيات الظاهرة وتفاصيلها الدقيقة (تأمل الانسان في حقيقة الموت، في غيره وفي نفسه، لا سيما في المراثي والزهديات، وفي شموله وحتميته وفي برنامج الموت الواقع في الحي منذ الولادة وجريانه في عمره عبر مختلف المراحل، وتعابير دبيب البلى في الجسد البشري، ولا سيما الشيب والهرم، ثم المصرع وعلاج السكرات والهمود، ثم النعي والجزع ثم التصديق ثم تجهيز الميت وحيثيات العناية به وتعهّد الجثة بالتطهير والتعطير والترجيل والتكفين، واعداد القبر جزئيات الدفن وممارسات التفجّع والتأبين والحداد وطقوسه..) وحلل الى هذا كله، ما يهم الأديب ودارس الادب والشعر خاصة من تحوّل الموت الى مجال بارز من مجالات الفن، ومصدر هام من مصادر الالهام وميدان فذ طريف من ميادين الابداع الشعري وبيّن كيف يدخل الشعر المقابر وكيف يخرج من القبور واصفا احوال الموتى ومآل الاجساد الى التردي والتآكل والتلاشي مخبرا الاحياء اخباره الخاص ناقلا اليهم اراجيفه بوصايا الموتى لهم ونصائحهم بأفضل طريقة في «الحياة» تصلح لوصفة موت جيد.. وبيّن عبقرية الشاعر العربي في توقع موته الخاص وفي تصور مسلسله ومخطط وقوعه وفي تصور الدنيا بعده.. فما الذي بقي لنا ان نقول اذن في الموت بعد محمد عبد السلام؟ ومن أين نأتي بكلام نقوله عن موته هو عندما بلغنا نعي استاذنا الجليل فزعنا بآمالنا الى ما يفزع اليه عادة كل فاقد لعزيز عليه.. الى «الكذب».. ثم عزمنا لما «لم يدع لنا تصديقه املا» على رثائه شعرا.. غير انه ارتجّ علينا واصابتنا حبسة غريبة عقدت منا اللسان فكتبنا هذا المقال العيي الذي نعتبره من أضعف الايمان» وذلك لان الموت موضوع شعري اصلا وموضوع شعري جاهز ولان الموت أكثر ظواهر الحياة جدارة بالشعر واستثارة له بحيث لو لا الموت لاصيب الشعر بنقص وضرر فادحين. *** لهفي عليك يا «سي محمد».. يا أبي الثاني ومعلمي الذي رفعني الى مرتبة «الصديق» والذي تمتعت بصحبته وتلهيت بها عن جريان الزمن في عمري، واخذت اشياء من كماله خلطتها بأشياء من نقصي واستحليت الساعات برفقته، فلمّا تفرقنا كأنني واياه لم نعش ساعة معا: فهل نافعي قول السابق عن أخيه: غنينا بخير حقبة ثم جلَّحتْ علينا التي كلَّ الأنام تصيبُ فأبقتْ قليلا ذاهبا وتجهّزت لآخر، والراجي الخلودَ كذوبُ لقد افسد الموتُ الحياةَ وقد أتى على يومه عِلق اليّ حبيبُ لهفي عليك يا سيدي.. فرغت منك عيوننا وعنرت بك الارض.. «ما أفظع الموت للصديق» وما أقرب صفو الدنيا من الكدر وما أثقل اليوم الذي شيعناك فيه بالمهدية.. الى مقبرة تتيه على المقابر.. مقبرة عحيبة كأنها سفينة عملاقة محمّلة بذخائر نفيسة تهم بان تمخر عباب البحر الى وجهة بعيدة.. مقبرة كأنّ ساكنيها سافروا بالبحر وبقيت قبورهم «تملأ الرحب» وتروي حكايات الرحيل وتسرد على الحاضرين مغامرات البادين.. بها قبر كأنه محفور في القلب.. انه قدرنا يا أخي «يدفن بعضنا بعضا وتمشي اواخرنا على هام الاوالي» وتنتشر اجسادنا على أديم الارض في كل اتجاه. لقد أتاك نصيبك من قاطع المدد وهادم اللذات ومفرّق الجماعات»، وادركتك «الرقدة الكبرى» التي ذكرها صاحبك أبو العتاهية وحاذرت نفسه منها قبلك ما سيصيبها.. اما أنا فليس لي بعدك الا ان احتمي بالصبر وان ألوذ بقول صاحبك الآخر في صاحبه: طوى الموت ما بيني وبين محمد وليس لما تطوي المنيّة ناشرُ وكنتُ عليه أحذر الموت وحده فلم يبق لي شيء عليه احاذرُ واني لمدرك تمام الادراك ان دأب الحياة ان تضمّد الجراح وأن تعيد سد الفراغات وترتيب الاشياء كي تنتصر على الموت فتواصل سيرها الى غايتها البعيدة التي لا علم لنا بها، وأن وسيلة الحياة الى ذلك هي النسيان.. ولكنني متبقّن تمام التيقّن ان أسرتك واقرباءك واصدقاءك وأبناء وطنك وزملاءك وطلابك لن ينسوك ما عاشوا، وأنه لن «يحدث بعدك للخليل خليل» فقرَّ عينا.. ولا تبعد.. لا تبعد.