يوم الخميس الماضي تقدم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي رسميا بدعوى قضائية ضد «إيف بارتران» الرئيس السابق لجهاز الاستعلامات العامة الفرنسية (R.G) بسبب ما نشرته مجلة «لوبوان» (le point) يوم 9 أكتوبر الحالي من «مذكرات» مدير الاستعلامات تنال من سمعة ساركوزي وتمس حياته الخاصة وثروته منذ أن كان وزيرا للخزانة. وقال المحامي «تيري هرزوق» الذي قدّم الشكوى نيابة عن الرئيس: «لقد فعلت ذلك لأن الرئيس ساركوزي لا ينوي الاكتفاء بحق الرد في الصحافة. وهو لم يقدم الدعوى لأنه الرئيس بدليل أنه كان سنة 2006 أول شخصية سياسية ترفع دعوى في ما عرف بقضية «كليرستريم» ثم تبعه في ذلك سياسيون آخرون». لكن يبدو أن للحكاية جذورا قديمة و«تصفية حسابات» تعود تفاصيلها الى حقب ماضية ولا تخص ساركوزي وحده وإنما العديد من الشخصيات السياسية وغير السياسية الاخرى. غير أن حجز دفاتر الرئيس السابق لجهاز الاستعلامات في إطار ما اصطلح عليه بقضية «كليستريم» كشف بعد مدة المستور.. فالقضاة كانوا قد أذنوا بتفتيش بيت برتران وحجزوا فيما حجزوا دفاتره التي تحدث في جانب منها عن قضية «كليرستريم» وظلّت تلك الدفاتر محفوظة ضمن وثائق القضية التي أضحت اليوم أمام انظار القضاء.. ويبدو أن بعضهم في إطار اطلاعه على فحوى ملف القضية اكتشف معلومات هامة في دفاتر برتران فسرّبها الى مجلة لوبوان فكانت الفضيحة. ساركوزي رفع ضده دعوى قضائية ولم ينجح سابقا في إزاحته لأنه كان يحظى بحماية الرئيس شيراك حتى غرف نوم السياسيين وتفاصيل حياتهم الخاصة والعائلية لم تسلم من جهاز الاستعلامات مذكرات خاصة جدا في مذاكرته الخاصة التي حجزت مكتوبة على 16 دفترا، لم يترك رئيس الاستعلامات الخاصة شاردة أو واردة عن الحياة العامة والخاصة بالعاصمة الفرنسية باريس. وخلال 12 سنة، وهي الفترة التي ترأس فيها برتران جهاز الاستعلامات كان هذا الجهاز يعمل كالآلة التي «تشفط» الغبار من الارض بحيث لا تفلت منها معلومة صحيحة كانت أو كاذبة مما جعل لهذا الجهاز «دوسيات» خاصة لآلاف الاشخاص هي عبارة عن سيف مسلط على رقابهم يمكن استخدامه في أي وقت.. وكانت هذه المعلومات التي شملت 800 الف شخص تتراوح بين الخطإ البسيط على غرار مخالفة مرورية مثلا وبين الاخطاء الجسيمة التي يمكن أن تصل الى مستوى الجرائم. وفي عهد برتران كان على جهاز الاستعلامات أن يملأ «بالمعلومات» ملفات هؤلاء الاشخاص ال 800 الف. ومن أجل ذلك لم يكن الجهاز يخجل أو يتردد في دخول غرف النوم أو حتى العيادات الطبية.. ونتيجة للمعلومات والاشاعات التي كان الجهاز يطلقها احيانا بقصد وفي وقت معين..طارت رؤوس وعوقبت شخصيات أخرى حتى بغير حق في أحيان كثيرة. ضحايا ومشهورون من خلال التحقيقات التي تهم «مذكرات» برتران تظهر أسماء عديدة لاشخاص لهم وزن سياسي في فرنسا أو في أنحاء أخرى من العالم. ولأن هذه المذكرات لم تخل أبدا من «التوجيه السياسي أو الأمني» فقد ذكر فيها صاحبها سنة 1999 أن شخصية سياسية كبيرة مصابة بالسرطان.. وذكر سنة 2000 أن أحد الوزراء الفرنسيين مصاب بالسيدا. أما الدليل القاطع على أن هذين المعلومتين كانتا مفبركتين فهو أن الشخصين مازالا الى اليوم على قيد الحياة.. وفي سنة 2001 أشاع برتران أن نائبا شابا بالبرلمان الفرنسي شاذ جنسيا وفي 2003 أشاع أيضا أن ابن أحد الوزراء في حكومة «رافران» يعيش مع ابن مساعد عمدة باريس مقابل تشغيل ابن الوزير بمكتب ابن العمدة. وبما أن الاستعلامات العامة تعتبر المعلومات عن الحياة الجنسية للشخصيات العامة صيدا ثمينا فإن وزيرة الداخلية الفرنسية حاليا لم تسلم من مذكرات برتران حيث وردت تفاصيل كثيرة ودقيقة عن حياتها الخاصة. ولم تكن هذه الوزيرة وحدها التي مرت بهذا «الصراط» بل شملت المذكرات 4 وزراء أخرين إضافة الى الرئيس ساركوزي. كوكايين وحكايات في سبتمبر 1999 سجل برتران في مذكراته أن «الوزيرة الاشتراكية» سقطت في فخ الكوكايين وأنها اشترت منزلا فخما سنة 1991 وأدخلت عليه اصلاحات سنة 1993 وقد تكفل رجل أعمال بدفع تكاليف الاشغال. وفي ماي 2002 كتب في مذكراته أن شخصا سياسيا هاما له عشيقة في باريس ينفق عليها بسخاء بينما تعاني زوجته من مشاكل مالية كثيرة.. وفي نفس الصفحة كتب برتران أن نفس الشخص (السياسي) شاذ جنسيا وأن شخصا آخر مهما مجدا ضبطته زوجته في حضن عشيقته التي ذكر كل التفاصيل عنها. أما في سنة 2002 فقد كتب أنّ احدى المستشارات المقرّبات جدا من جاك شيراك تعيش بمنزل إحدى «ملكات الليل» صحبة ممثلة كوميدية معروفة. وفي سنة 2003 ملأ برتران صفحات كاملة للحديث عن نجم فرنسي معروف اتهم باطلا في قضية أخلاقية ختمها بعبارة مشهورة: «لا يستطيع اغتصاب فتاة لأن عليه أن يأخذ الدواء الفلاني قبل 7 ساعات من الاغتصاب». إزاحة «باسكوا»؟ سنة 1999 كتب برتران في مذكراته : «قضية كبرى في moulineaux Issy-les- سيتكوم - باسكوا وسانتيني». وفي أكتوبر من نفس السنة انطلقت «قضايا» عديدة طالت المرشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية شارل باسكوا الذي مازال الى اليوم مقتنعا بأن برتران لفق ضده قصصا وهمية لابعاده عن منافسة جاك شيراك. ومن جملة التهم التي وجهها برتران الى باسكوا ضلوعه «في ما عرف آنذاك باسم» الفضيحة الانغولية» وهي قضية صفقة سلاح لفائدة أنغولا انطلقت في شأنها جلسات محاكمة المتهمين الاسبوع الماضي وعندما نعود قليلا الى الوراء نجد في مذكرات برتران ومن خلال قراءته للاحداث أن باسكوا، وزير الداخلية السابق، أنشأ حزب التجمع من أجل فرنسا (R.P.F) وقد حقق حزبه أحسن نتيجة حققها اليمين آنذاك وهي 13% من أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية. وهذه النسبة هي التي شجعت باسكوا على الترشح الى الانتخابات الرئاسية لسنة 2002 . واستنتج برتران أن تحالفا ممكنا بين باسكوا وزعيم الجبهة الوطنية جان ماري لوبان يمكن أن يزيح جاك شيراك منذ الدور الاول من الانتخابات. عندئذ انطلقت «فضيحة أنغولا» وقد كشفت مذكرات برتران أن هذا الاخير التقى عدة مرات القاضي المكلف بالتحقيق في قضية صفقة السلاح إضافة الى مكالمات هاتفية عديدة دارت بينهما. أما في سنة 2000 فقد ذكر برتران تفاصيل مبالغ مالية ضخمة قال إن باسكوا تسلمها من صديقه «ميشال تومي» الذي خضع الى التحقيقات قبل أن يتم قتله في جزيرة «كورسيكا». ابن الوزير لم يكن برتران مهتما بالوزير شارل باسكوا فقط بل كانت أجهزة الاستعلامات تتابع خطوات «فيليب باسكوا» ابن شارل باسكوا.. فقبل ثلاثة اشهر من إصدار القاضي الذي حقق في فضيحة السلاح كان جهاز الاستعلامات قد سجل في دفاتره أن فيليب يوجد آنذاك بضاحية سيدي بوسعيد (تونس) وقد جمع الجهاز عن ابن الوزير معلومات كثيرة استعملت في سدّ الطريق أمام والده من أجل إزاحته عن الانتخابات الرئاسية. الأخت والمنتج كان الوزير الاول «ليونال جوسبان» محط اهتمام رئيس جهاز الاستعلامات وقد زاد هذا الاهتمام عندما قدم جوسبان ترشحه لرئاسية 2002 وكان الباب الاول الذي دخل منه برتران هو «نوال شاتيلي» أخت جوسبان. فقد كتب في مذكراته أن «مارتن كارميتاز» صاحبة شركة 2MK للانتاج دفع مبلغ 50 ألف فرنك فرنسي (أي ما يعادل 100 ألف دينار تونسي) الى نوال مقابل سيناريو فيلم عبّر عنه برتران بأنه Bidon وأنه لم تعد كتابته ولم يتم إخراجه كان ذلك قبل سنة ونصف من الانتخابات الرئاسية. وقد سعى برتران الى جمع أكثر ما يمكن من المعلومات عن المقربين من المرشح اليساري جوسبان وأقاربه، وعندما علم كارميتاز بأمر هذه المذكرات كاد يغمى عليه وقال: «إن الحكاية تعود الى سنة 1986 عندما توفي زوج نوال الشاعر الفرنسي فرنسوا شاتلي الذي كان صديقا مقربا لي. وقد طلبت منها ذلك السيناريو كي أساعدها فقط. وقد كتبته ولم يكن «بيدون» مثلما قال برتران رغم أنه لم يخرج الى الآن وهذا يحمل دائما في السينما. أما الحصول على هذه المعلومة فلم يكن ممكنا دون النبش في الدفاتر الخاصة بالضرائب لأني لم أخبر أحدا بقصة هذا السيناريو أبدا». ولم يكتف برتران بمعلوماته عن أخت جوسبان وإنما بحث حول كارميتاز ووصل الى معلومات عن صديقته الكاتبة كارولين والى حساب شركة 2MK بسويسرا خاصة أن كارميتاز كان عضوا ناشطا في اللجنة التي ساندت جوسبان في حملة الانتخابات الرئاسية. الشغل الوهمي والماضي الشيوعي طالت معلومات برتران ابنة عمّ جوسبان. وفي 2001 سجل معلومات عن زوجته الاولى التي اتهمها بأنها تتقاضى أجرا مقابل شغل وهمي باحدى المؤسسات. وعندما يتعلق الامر بإزاحة جوسبان فإن برتران كان قادرا على العودة الى تاريخ والده روبار جوسبان. وبعد شهرين من تكليف عون من الاستعلامات بالمهمة ظهر في السوق كتاب يتناول في بعض فصوله تاريخ روبار. وقد حرص برتران على نشر الماضي التروتسكي (السياسي) لوالد جوسبان. ما حكاية اللبناني عماد لحود؟ بتاريخ 8 ماي 2001 كتب برتران: «لبناني ثري عنوانه 90 شارع نيال اسمه عماد لحود. مولود ببيروت في 7 أوت ..1967 صهر «هايل برونر» وقد اعتنق الديانة اليهودية من أجل أن يتزوج ابنة برونر» وحسب العارفين فإن برتران كان يعرف اسم مفبرك قائمة المتهمين في قضية «كليرستريم» ثلاث سنوات قبل اندلاعها. ومن هنا برزت تساؤلات عديدة منها هل أن جهاز الاستعلامات قام بتجنيد عماد لحود رغم انه معروف بأنه زعيم تبييض الاموال؟ هل تم تجنيده للعمل ضد جوسبان تحديدا؟ ويمكن ايجاد جزء من الاجابة عندما نعلم أن التحقيق في قضية «كليرستريم» كشف علاقات وطيدة بين برتران وعماد لحود وضابط مخابرات كان مكلفا بالتحقيق في مسالك تمويل زعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن. لماذا دام 12 سنة؟ منذ أن كان وزيرا للخزانة اقترح عدة مرات أن يقع إعفاء رئيس جهاز الاستعلامات من مهامه. لكن الرئيس السابق جاك شيراك كان يرفض ذلك بشدة. وربما هذا ما يفسر أن برتران كان الذراع الطويلة التي كانت تقصي منافسي شيراك على الرئاسة.. ولم يكن ساركوزي وحده الذي طالب بإقالة برتران. فجوسبان الذي كان وزيرا أولا طالب بذلك واصطدم برفض شيراك. ولعل ما زاد في «حقد» برتران على جوسبان أن هذا الاخير كان يريد حذف جهاز الاستعلامات نهائيا وليس برتران فقط. فقد قال في أحد خطاباته «في الجمهورية لا مكان لبوليس سياسي». ما هي «كليرستريم»؟ هي باختصار قضية مجموعة من الشركات الفرنسية التي دفعت أموالا ورشاوي الى مسؤولين فرنسيين كبار من أجل الفوز بصفقات هامة في افريقيا والشرق الاوسط. ج.م للتعليق على هذا الموضوع: