لعلها من المفارقات العجائبية ان تتعلق عوائق التحديث بهيكل يجتمع فيه نخبة المجتمع المفترضة من الأدباء والمثقفين والمبدعين، تلك الفئة التي تشتغل على انتاج خطاب يسعى فرضيا الى التطور والاستشراف ويسعى الى تطوير اقامة الافراد عبر الانتصار لقيم الحداثة والحرية والديموقراطية والعدالة والتسامح انطلاقا من تبني المعايير الموضوعية بعيدا عن اي وصاية.. ولعلها من المفارقات السريالية ايضا ان يكون الخطاب الثقافي الذي ينتجه هيكل اتحاد الكتاب التونسيين مقهقرا عن الخطاب السياسي ومتراجعا عنه في علاقة بمفهوم الحداثة بمعناها السياسي والقانوني والمؤسساتي والمدني بل انه خطاب «ثقافي» يواجه الخطاب السياسي ويتحداه ليس من أجل الذهاب الى الامام وانما من أجل التراجع على المكتسبات التاريخية التي تحققت منذ الحركات الاصلاحية في القرن التاسع عشر. وقد سعيت للتنبيه الى ذلك منذ سنوات خلت في المقالات الصحفية وفي ابحاثي الأكاديمية وحتى في نقاشاتي اليومية في المجال العمومي. ومثار اهتمامي وحيرتي وانشغالي أن هذه النخبة من الكتاب والادباء والمبدعين تعتبر بحكم التاريخ سليلة الحركة الثقافية والأدبية في تونس تلك التي قادت حركات الاصلاح في مرحلة اولى والتحرير في مرحلة ثانية وبناء الدولة الحديثة في مرحلة ثالثة. الا ان قطيعة ما حدثت او هوة ما جعلت الخطاب الثقافي في اتحاد الكتاب التونسيين يمضي في اتجاه متناقض ومعاكس لحركة التاريخ، ويفرز ظاهرتين متشابهتي الطبيعة، بيد أنهما لم تجذبا انتباه احد حتى الان، اعني ادعاء الحداثة على مستوى الممارسة الابداعية، والتراجع عنها وانكارها في مستوى الممارسة المدنية.. ان لهذه الحالة النموذجية المركبة حضور لافت في اوساط ليست ضئيلة من الادباء والمبدعين والكتاب الذين يخوضون صراعا انتخابيا من أجل الوصول الى دفة التسيير او من أجل الحفاظ على مقعد في الهيئة المديرة الى الأبد!. 2 لنرجع على اعقابنا اذن، وننظر بعين فاحصة الى التاريخ القريب!.. اذ منذ اندلاع ازمة اتحاد الكتّاب سنة 2003 بسبب رفض رئيسه آنذاك الاستجابة لمطلب الاغلبية ممثلة في عريضة 102 الشهيرة والداعية الى تنظيم مؤتمر استثنائي طبقا للوائح والقوانين والأزمة تتوالد في هذا الهيكل بسبب الخروج الكلي عن الشرعية وانفراط المعايير الموضوعية التي كانت تمثّل السقف الذي تُمارس تحته لعبة التوازنات الانتخابية والتجاذبات التي يسعى من خلالها الاطراف الى التموقع قريبا من هيئة التسيير وذلك في اطار القانون وطبقا للنصوص واللوائح المنظمة للهيكل. ولسنا في حاجة هنا الى التأكيد العلمي بان كل مؤسسة هي في حاجة الى الشرعية من أجل الاستمرار في اداء مهامها ومن أجل الاستمرار في الوجود أصلا ولذلك فان اتحاد الكتاب بفقدانه الشرعية عبر تجاوز هيئته التسييرية لمجمل القوانين المنظمة له عبر التنكّر لفصل اساسي من فصول نظامه الاساسي (الفصل 25) الذي اعتمدت عليه عريضة 102 للمطالبة بجلسة عامة خارقة للعادة فقد اصبح مهددا باستمرار انتهاك هيبته من قبل الاعضاء المنتمين له او الاعضاء الذين يقومون على تسييره وهم يشعرون بفقدان شرعية التواجد فيه وهو ما يؤشر الى أخطار جمّة.. ولعل هذه الحالة من فقدان الجاذبية المعيارية هي التي ادت الى التخبط في المآزق والمنزلقات الخطيرة. ويمكن لنا ان نتبين ذلك من خلال البلاغ الصادر عن الهيئة المديرة الذي تعلن فيه فتح باب الترشح للهيئة المديرة في الجلسة العامة السابعة عشرة مذكرة بأحكام الفقرة الثالثة من الفصل السادس من النظام الداخلي للاتحاد. وبالعودة الى هذا الفصل نجد نوعا من التعبير العابر، جملة قصيرة محشورة بين الجمل مفادها أنه لا يمكن لمن لم يسدد اشتراكه قبل المؤتمر المشاركة في الجلسة العامة الانتخابية او بالترشح او بالانتخاب. ان هذا التعبير العابر انتج تأويلا والتباسا نفسيا حول امر لبث الاعضاء زمنا طويلا عاجزين عن فهم طبيعته الحقيقية والتعرف على كنهه الحقيقي متمثلا اساسا في اقصاء الرأي المخالف وتهميشه والتنكيل به.. ان هذه الجملة هي تعبير عن ارتداد الى غريزة وقائية يتصف بها «خطاب ثقافي» متدهور يسعى الى المداورة ويجهد بكل الوسائل في الحفاظ على نفسه و«يناضل» من أجل البقاء في الوجود.. انه مؤشر على الهوان والتوتر ازاء فقدان الشرعية. لنعمد باختصار الى صياغة واقع الامور كما حدثت في التاريخ حتى يتسنى التصدي الى رغبة الاقصاء والتهميش والتفرّد بالرأي التي ظلت تحكم اتحاد الكتّاب.. لم تجد الهيئة السابقة بدا من ان تقوم بطرد الاعضاء المخالفين للرأي الواحد وكنت أحد المطرودين ولازلت ولسد المنافذ امام أي رأي مخالف عمدت الهيئة المديرة في سياق اتسم بعدم الشرعية، مثلما بينّا ذلك آنفا الى صياغة نظام داخلي جديد يعسّر شروط الترشح على الاعضاء.. الا ان المؤتمر السادس عشر الغى كل الاحكام الجديدة ولذلك فان هذا الفصل يعتبر لاغيا بحكم ان المؤتمرين لم يوافقوا عليه هذا من جهة ومن جهة اخرى فان النظام الداخلي يكون مفسّرا لاحكام النظام الاساسي ولا يمكن ان يأتي بقواعد ترتيبية جديدة مخالفة له وهو ما يتناقض مع الفصل الثامن من النظام الاساسي الذي يشير الى ان الاعضاء يمكن لهم تسديد اشتراكاتهم في شهر ديسمبر من كل سنة لا قبل ثلاثة اشهر وبذلك تنكشف لعبة الاقصاء التي يسعى المتحكمون في اللعبة الانتخابية الى تنفيذها وهو ما يجب أن يتصدى له الاعضاء وهو ما يدعو سلطة الاشراف للتدخل لتطبيق القانون ومنع التحريف الذي يمكن ان يبتدعه البعض من أجل الزج بالمنخرطين في حالة من اليأس والاحباط التي قد تؤدي الى العزوف الكلي عن المشاركة في مكونات المجتمع المدني. 3 ولا بد من التذكير هنا أن الحداثة التي يجب ان يسعى اليها الخطاب الثقافي ويهفو اليها ليست مجرد شعارات نرفعها او نصوص ابداعية نكتبها وانما هي منهج حياة ناضل من أجله الأجداد وتبناه الاعضاء يقوم اساسا على مبدإ المشاركة واحترام حق الاختلاف وحرية التعبير والمساواة امام القانون الذي يجب على الجميع احترام علويته والالتفاف حول معايير موضوعية وقيم تمجّد الروح المدنية من أجل تحقيق الحرية والعدالة والاخاء والتسامح ونبذ العنف والتسلّط والوصاية واحترام الشرعية. 4 سنظل نحلم بالارتقاء الى صميم الوجود من أجل برهان جديد على ان التاريخ سيمضي مشيعا الى بركة تلك الأرواح الضيقة التي لا تؤمن بحق اللطافة في التحليق مع النجوم وهي تورّث الاجيال تلو الأجيال القيم الصميمة التي تهفو الى روح العدالة الكونية. سنطل نحلم بأدب تونسي يشع على العالم وهو يحمل أرواحا حرة لا تعوزها الحكمة والاقتدار تمضي بشوق وبلا تراخ متجاوزة العواقب والمخاطر بلا حذر رشيد الى درب الابدية.