لو امكن لكل عائلة في غزة ولكل ام ولكل طفل ان يروي مأساته مع الحرب في غزة لأسمعت كلماتهم من به صمم والامر طبعا يتجاوز حدود البيوت المدمرة والخراب والحجر الى البشر.. وقد لا تكون مأساة تلك الام الغزاوية التي لجات الى الابرة والخيط لرتق جراح طفلها النازف ثم ظلت تحتضنه ثلاث عشرة ساعة وهي تامل في وصول سيارة الاسعاف قبل ان يلفظ انفاسه بين يديها سوى واحدة من بين حكايات كثيرة قد تروى عن غزة قريبا.. بل ان اطوار الحكاية لا تتوقف عند هذا الحد، فقد ظلت تلك الام تراقب جثة طفلها من النافذة طوال خمسة ايام حتى لا تنهشها الكلاب، فيما قوات الاحتلال تطوق المكان.. مأساة تتجاوز حدود الخيال ولكنها بالتاكيد تتفق مع ممارسات الجيش الاسرائيلي الذي يتقن القتال والفتك.. وحكاية هذه الغزاوية التي وقفت بالامس لتروي للعالم مأساتها توشك ان تتكرر طالما ظلت اسرائيل بلا محاسبة وبلا مساءلة عن مختلف جرائمها ولكن ايضا طالما ظل العالم على موقفه المنحاز في التعامل مع الوضع في غزة من منظار اسرائيلي.. من الاتفاق الامني الاسرائيلي الامريكي الموقع في الساعات الاخيرة من عمر الادارة الامريكية الراحلة بين ليفني ونظيرتها رايس، الى الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية الاتحاد الاوروبي في بروكسيل، وصولا الى قرار فرنسا التعجيل بارسال بارجة حربية مجهزة بالمروحيات والرادارات لمراقبة سواحل غزة ومنع تهريب الاسلحة الى القطاع، الى الاتصالات المستمرة لعقد مؤتمر دولي في استكهولم بهدف وقف تسريب السلاح الى غزة.. تبدو تحركات مختلف الجهود الدولية والاقليمية السياسية على درجة من النشاط المثير للاستغراب لا سيما ان اغلب الاطراف المعنية اختارت سياسة النعامة طوال ايام الحرب المفتوحة على غزة وتجنب احراج اسرائيل ومنحها ما يكفي من الوقت لتحقيق اهدافها من الحرب لتعود كل تلك الاطراف الان وتوحد جهودها لا باتجاه التسريع بارسال المساعدات الانسانية المطلوبة لاهالي غزة والمنكوبين الذين باتوا يعيشون في العراء، ولكن باتجاه تكثيف كل الجهود تحت شعار منع تسريب السلاح الى القطاع، وهو شعار يدرك اصحابه افلاسه وعدم جدواه لسببين بسيطين معلومين، فليس سرا بالمرة ان وصول السلاح الى غزة والى عناصر المقاومة "حماس" او غيرها من الفصائل الفلسطينية المسلحة ياتي في اغلبه من اسرائيل ومن تجار السلاح الاسرائيليين والاستخبارات الاسرائيلية، تدرك ذلك بل وتعمل في احيان كثيرة على تجاهل الامر لاسباب معروفة بدورها من شانها ان توفر الذريعة للجيش الاسرائيلي لاجتياح غزة في كل مرة حتى وان كان هذا الجيش لا يحتاج لذريعة او ترخيصا للقتل والهدم والتخريب.. اما السبب الثاني والمتعلق بصواريخ "القسام" التي تستهدف اسرائيل فهي بدورها وفي اغلبها محلية الصنع ومحدودة القدرات ولذلك فان كل الجهود التي تبذل للقضاء عليها لا يمكن ان تفلح وستجد تلك العقول "الفلسطينية" التي تجمعها في قاع الارض بدل الطريق الف طريق لتركيبها.. ولعل في ما نشرته صحيفة "الاندبندت" خلال الحرب عندما حث احد الصحافين البريطانيين جنرالات اسرائيل في مقال ساخر خلال الحملة على غزة بعدم تفويت الفرصة وعقد صفقة مع "حماس" لاقتناء بعض من تلك الصواريخ ما يمكن ان يعكس حجم التناقضات الصارخة في التعامل مع الوضع في غزة في مرحلة ما بعد الحرب، وهي تناقضات تكرس مبدا الهروب الى الامام والابتعاد عن الحل السياسي المطلوب في صراع يزداد تعقيدا وخطورة امام الاتفاق الحاصل ضمنا بين صناع القرار على ضرورة تعزيز قدرات الاحتلال في القتل والتدمير مقابل تجاهل واقع وحق وافاق الجانب الاضعف الواقع تحت الاحتلال في الوجود والبقاء والحرية والكرامة، بل وفي انكار الحق الذي اقرته كل القوانين في النضال المشروع. لقد اختارت فرنسا وهي التي اعلنت وقف خمس عملياتها العسكرية في العالم بسبب الازمة المالية ان تحرك احدى بوارجها في زمن قياسي لمراقبة شواطئ غزة الممنوعة اصلا على الصيادين الفلسطينيين فيما يتجه الحلف الاطلسي بدوره لتعزيز موقعه في المنطقة كل ذلك اذا ما اضيف اليه الدعم العسكري الامريكي لفائدة اسرائيل الذي يقدر بثلاثة مليارات سنويا وبلغ 247 مليار دولار منذ نشأة اسرائيل ليتجاوز بذلك حجم المساعدات الامريكية المخصصة لجنوب الصحراء الافريقية وامريكا اللاتينية والكاراييب معا.. ومنذ سنتين زادت ادارة الرئيس السابق بوش خمسة وعشرين في المائة من مساعداتها العسكرية لاسرائيل مع ضمانات لها بالتفوق على مختلف الصفقات التي تعقدها مع دول عربية او خليجية. ولولا ان صفحة الحرب الباردة قد طويت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط المنظومة الشيوعية بسقوط جدار برلين لكان من اليسير على اصحاب القرار في العالم وممولي اسرائيل بالسلاح الجزم بان قطاع غزة تلك الرقعة المعدمة الا من ثروتها البشرية جزء من تلك الحرب الباردة وانها تشكل خطرا على الامن والسلم الاقليميين والدوليين.. قبل عشر سنوات قال ايهود باراك في رده على سؤال صحفي ماذا كنت تفعل لو انك ولدت فلسطينيا "بكل بساطة كنت سانضم لحركة ارهابية" ولعلها المرة الوحيدة التي كان فيها باراك صادقا وهو يقول ذلك وقد اكد بدوره جون جينغ المسؤول الاممي في الاراضي المحتلة انه بعد الخراب والدمار الذي لحق بغزة فلن يبقى امام ابنائها سوى الانضمام الى صفوف "حماس" تحت الانفاق او خارجها..