عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    هام/ هذا موعد صرف قروض صندوق الضمان الاجتماعي..وقريبا الإعلان عن تفاصيل القروض السكنية    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    خطير/ تسجيل إصابات بمرض الجرب في صفوف التلاميذ بهذه الجهة..والسلطات تتدخل..    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    وزير الدفاع الايطالي في تونس    إخماد حريق بشاحنة ثقيلة محملة ب7،6 طن من مواد التنظيف..    فرنسا: مقتل ما لا يقل عن 5 مهاجرين خلال محاولة لعبور القنال الإنكليزي..    الفيفا يكشف عن فرضيات تأهل الترجي الرياضي لكأس العالم للأندية    يهم التونسيين : غدًا طقس شتوي 100% و هذه التفاصيل    تفكيك وفاق إجرامي من أجل ترويج المخدرات وحجز 08 صفائح و05 قطع من مخدر القنب الهندي..    جندوبة: الإحتفاظ بمروج مخدرات بمحيط إحدى المؤسسات التربوية    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    اقتطاعات بالجملة من جرايات المتقاعدين...ما القصة؟    لأوّل مرّة: افتتاح جناح تونسي في أكبر معرض دولي للصناعة بألمانيا    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بنزرت: تنفيذ 3 قرارات هدم وإزالة واسترجاع لاملاك عامة بمعتمدية جرزونة    ر م ع الشركة الحديدية السريعة يكشف موعد إنطلاق استغلال الخطّ برشلونة-القبّاعة    سليانة: إستئناف أشغال مركز الصحة الأساسية بمنطقة المقاربة بسليانة الجنوبية    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    عمال بشركة منتصبة بصحراء تطاوين يحتجون ويطالبون بإلغاء المناولة    محمد الكوكي: هدفنا هو التأهل للمشاركة إفريقيا مع نهاية الموسم الحالي (فيديو)    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    سوسة: تعرض شاب لصعقة كهربائية أثناء تسلقه عمود كهربائي ذو ضغط عالي..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    مترشحة للرئاسة تطرح استفتاء للشعب حول تعدد الزوجات في تونس..#خبر_عاجل    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    الإطاحة ب 9 مروجين إثر مداهمات في سوسة    مهرجان هوليوود للفيلم العربي: الفيلم التونسي 'إلى ابني' لظافر العابدين يتوج بجائزتين    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    نقل مغني فرنسي شهير إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    البطولة الأفريقية للأندية الحائزة على الكأس في كرة اليد.. الترجي يفوز على شبيبة الأبيار الجزائري    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    وصول محمد الكوكي الى تونس فهل يكون المدرب الجديد للسي اس اس    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 بالمائة    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    صادم: كلغ لحم "العلوش" يصل الى 58 دينارا..!!    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الخامسة    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل يمكن اعتبار المنجز الشعري للشابي قادرا على تمثّل الراهن..؟
مائوية شاعر الحرّية والخلود
نشر في الصباح يوم 24 - 02 - 2009

هو نخلة باسقة في حديقة الشعر العربي.. نخلة شامخة... صامدة في وجه الأعاصير.. نخلة أحبت الحياة فأينعت وأزهرت رُطَبا... لذيذا... ممتعا على مدى حقب زمنية طويلة.
هو أبو القاسم الشابي.. الذي لم يكن ومضة في مسيرة الشعر العربي... بل كان مؤثرا.. فاعلا.. مؤسّسا.. مجدّدا.. الشابي كان من كبار المجددين الذين رأوا في الشعر العربي تراثا يجب احترامه وليس منهجا يجب اتخاذه.
**
الشابي... تعبيرة شعرية خالدة.. ولغة سرمدية غنّى بها وترنّم بأسى النفس وغربتها.. بنشوتها ورومنسيتها.. بشفافيتها... وجبروتها.. تملّى بجمال الوجود.. وبحبّ وعشق المرأة والهيام الكبير بها.. وبالشعب إذا هبّ في وجه عسف وظلم واستبداد الطغاة.
**
واليوم...
وبعد قرن على ميلاد شاعر الحبّ والخلود... هل لازالت قصائده تتملّى الحاضر.. هل يجد الباحث والدارس والقارئ فيها شيئا من واقعه اليوم...
**
اليوم ...؟
وقد مرت مائة سنة على رحيل شاعر إرادة الحياة... هل لازالت كلماته تكتب الحاضر وتستشرف المستقبل.. تكتب الحاضر.. فنيّا.. وتكتب الحاضر مضمونا... وتكتب الحاضر تعابير ومفردات وصور...؟
**
اليوم ...
وبعد مرور 100 سنة على ميلاد شاعر الحرية ونصير الرومنسيّة:
هل يمكن اعتبار منجزه الشعري قادرا على تمثل الراهن..؟
سؤال حارق... وضعناه أمام نخبة من المهتمين بالشأن الشعري في تونس .. لنستجلي حقيقة هذا المنجز وسرّ خلوده... في زمن تعدّدت فيه الرؤى والاتجاهات وتنوعت المدارس في التأسيس وكتابة القصيد الشعري...

المنصف الوهايبي
الشابي تاريخيا شاعر ينتمي إلى الأدب «الحسيني»
لقد ولّى زمن الشابي منذ زمن طويل، وشعره على أهميّته في تاريخ الشعر العربي الحديث، لا يستجيب للشعريّة المعاصرة لا من قريب ولا من بعيد، لأسباب كنت شخصيّا فصّلت فيها القول منذ سنوات. وهذا بعضها:
لقد ظفر الشّابي من عناية الدّارسين بما لمْ يظفر به غيره من شعراء تونس. وبرغم تبدّل الزّمن ومرور مائة عام على ولادته (1909-1934) لم ينقطع ذكرُه ولا شرد من ذاكرة النّاس, بل إنّ بعض شعره استتبّ مستودعا من مستودعات الحكمة الشّعبيّة, لمْ يذهب بريقها ولا غاض. وليس مردّ هذه الشّهرة إلى وفاته المبكّرة ولا إلى قوّة أدائه الشّعريّ، فقد مات شعراء في سنّه أو دونها، ولم يحوزوا ما حازه. وقراءة شعره قراءة رصينة, تتجرّد من الأهواء العارضة والسّمعيّات المقرّرة, تبيّن أنّه يتفاوت قوّة وضعفا، وأنّ مؤثّرات الآخرين فيه، تختلف وضوحا وخفاء. وإنّما تظافرت في هذه الشّهرة أسباب وملابسات معقّدة، ليست مقاربتنا مجالا للخوض فيها, ونجملها في غياب "السّلطة الشّعريّة" في نظامنا الثّقافي الرّمزي, وربّما في ثقافة المغرب العربي قديمها وحديثها. فقد عرفت هذه البلاد منظّرين كبارا في شتّى مجالات الفقه والفلسفة والتّاريخ والنّقد الأدبي ( سحنون، ابن خلدون، ابن رشد، ابن رشيق، حازم القرطاجنّي...)، دون أن تعرف مبدعين كبارا. وكان للاشتغال بالنّظريّات موقع الصّدارة في الثّقافة "المغاربيّة" وفي مختلف أنظمتها الرّمزيّة. أمّا الإبداع الشّعريّ وهو مجلى أسرار اللّغة و"مخيالها" وبنيتها الأنطولوجيّة, فلم تكن "للمغاربيين" فيه موهبة كبيرة أو تجربة تذكر، إلاّ في النّدرة والفرط من القصائد مثل "أضحى التّنائي..." لابن زيدون الأندلسي - وثقافة الأندلس من ثقافة المغرب- و"يا ليل الصّبّ..." للحصري القيرواني، و"إذا الشّعب يوما أراد الحياة" للشّابي... وبعض الموشّحات الأندلسيّة التي سارت على الألسنة. وهذه الشّوارد هي أظهر ما بقي في الذّاكرة من ديوان الشّعر "المغاربي". أمّا النّصوص الأخرى، وهي كثيرة، فتظلّ جزءا من تاريخ الأدب, يكاد لا يُؤبه به في تاريخ الإبداع. بل لعلّها تعزّز من وجاهة هذا الطّرح، وتؤكّد غياب "السّلطة الشّعريّة" وارتباط اللّغة العربيّة في بلاد المغرب، بالمؤسّسة الفقهيّة المالكيّة, الأمر الذي جعلها لا تسخو بموفور قوّتها في الشّعر "المغاربي"، حتّى في الموشّحات وهي فنّ أندلسيّ (مغاربيّ) خالص، فقد استثمره شعراء "التروبادور" في ما يسمّى "البالاد" و"الأغاني الوجدانيّة"، وفتحوا، من خلاله, مجالا للشّعر الأوروبي لم يكن قد ارتاده من قبْلُ. على حين لم يقيّض له في الأندلس أو في بلاد المغرب، شعراء كبار يستثمرون نظامه الإيقاعي المتحرّر من القيود التّقليديّة، أو يجلّون بواسطته شعريّة "القصيدة المغاربيّة" على أتمّ وجوهها، إلاّ في فلتات نادرة. وفي ما عداها، فإنّ الموشّحات حشد من المحسّنات البديعيّة والمعاني المطروقة في القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة، حتّى وإن استخدم بعض شعرائها الخرجة الإسبانيّة أو لاتينيّة العصور الوسطى, فإنّ ذلك لم يفض إلى ظهور تقاليد جديدة في إنشاء الشّعر "المغاربيّ".
لعلّ في هذه الأسباب التي أجملناها، إذ هي من الأمور التي ينبغي أن يُفردَ لها مبحث خاصّ، ما يفسّر إلى حدّ كبير شهرة الشّابي وذيوع اسمه. فقد وفد الشّابي على الشّعر العربي، في ظلّ ثقافة أصوليّة وقيم شفويّة عريقة، هيمنت على هذا الفنّ طيلة قرون, وليس "للمغاربيين" فيها شأن يذكر، حتّى عندما كان الصّراع، في الثّلث الأوّل من هذا القرن، محتدما بين خطابين: خطاب تأصيليّ (أحمد شوقي وحافظ ابراهيم ومعروف الرّصافي...) وخطاب مدرسة المهجر وجماعة الدّيوان (جبران ونعيمة والعقّاد والمازني...)، فقد كان الخطاب الأوّل، هو الآسر, وهوخطاب محافظ لم يتحرّر من غواية البلاغة وسطوتها, ف"الشّعريّ" فيه, ينبني على جماليّة الإسماع والإطراب, ووظيفته تكاد لا تتعدّى الإبلاغ والإيصال والإبانة والفهم. ونقف على صداه في كثير من قصائد الشّاذلي خزندار وكرباكة وسعيد أبي بكر... حيث القصيدة لا تحفر مجراها, وتؤسّس بلاغتها, على قدر ما يكون هذا المجرى, وهذه البلاغة مهيّأين سلفا. وإذا كان هؤلاء، تمثيلا لا حصرا, منجذبين إلى الخطاب الأوّل، دون أن يدانوا شاعرا مثل شوقي في غنائيّته, فإنّ الشّابي "كان منفردا بين معاصريه من الشّعراء التّونسيين"، وبين مجايليه مثل مصطفى خريّف، ولعلّ أقربهم رؤية، إليه، الشّاعر الجزائري رمضان حمّود (1906-1929). وللحركة الثّقافيّة التّونسيّة في العشرينات، أثر كبير في تكوينه, إلاّ أنّه, في شعره، لم يكن ليثب وثبات الشّابي في "إرادة الحياة" أو يتدفّق تدفّقه في "النبيّ المجهول".
كان الشّابي مأخوذا بالخطاب الثّاني,ولعلّه أن يكون في شعره, أقرب إلى الكتابة الشّعريّة المهجريّة، وإلى نوع من الإحياء الجبراني من حيث التّوسّل بالصّورة والرّمز. وفي تنظيره أقرب إلى المدرسة المصريّة في ثوراتها على الكلاسيكيّة وعلى البلاغة التي أفسدت كثيرا من شعر العرب، وكادت تحوّله إلى "مهرجان كنائيّ واستعاريّ". ونحن نلمس ذلك في أكثر من قصيدة من قصائده, وربّما نتبيّنه بجلاء في مسامرته الشّهيرة "الخيال الشّعريّ عند العرب" ومقدّمته لديوان الشّاعر المصري أحمد زكيّ أبي شادي: الينبوع" ورسائله إلى صديقه محمّد الحليوي, فنجده "يتمثّل" خصائص اللّحظة الرّومنطيقيّة ويشجّ صلته بها، وقد كانت عند العرب, في أوج سطوتها, خلال السّنوات السّابقة على الحرب العالميّة الثّانية, فيعلي من شأن الخيال الشّعري أو الفنّي "الذي يتكشّف عن نهر الإنسانيّة الجميل الذي أوّله لا نهاية الإنسان، وهي الرّوح، وآخره لا نهاية الحياة, وهي اللّه" ويفتح قصائده لنوع من الغنائيّة الفرديّة والحفاوة ب"أنا الشّاعر" والتّواصل مع الطّبيعة "لأنّ الفنّ في صميمه إنّما هو صورة من تلك الحياة التي يحيا بها الفنّان في هذا الكون الزّاخر الرّحيب أو في دنيا خياله وأحلامه, كيفما كانت تلك الصّورة في اللّون والشّكل والعرض...". فبين الحياة والفنّ، شوابك قرابة, وفي كليهما ضرب من الوحدة، وإن تعدّدت المظاهر وتنوعّت أدوات التّعبير، وهي الجذوة التي يسمّيها شوبنهاور "إرادة الحياة". ومن اللاّفت أنّها نفس التّسمية التي يسم بها الشّابي أشهر قصائده. ولكنّ هذه الرّؤية الرّومنطيقيّة التي استرعت أنظار المشارقة إلى شعر الشّابي، لا تسوق إلى القول بأنّه تحرّر من النّظرة التّقليديّة الآسرة, وهو الذي كان على اتّصال بمنابعها رواية وتلقّيا ومشافهة، سواء في بيئة الجنوب التّونسي أو في جامع الزّيتونة. فلقد كان في قلب الحركة الرّومنطيقيّة العربيّة وفي الصّميم منها، ولكنّه ظلّ يحتفظ بالبنية الإيقاعيّة التّقليديّة جملةً وتركيبًا، ويستأنس بالمعجم اللّغويّ المهجور تضمينا واقتباسا، ويتوخّى الأسلوب الحكمي حينا، وينزع إلى الخطابة والمباشرة حينا آخر، فيقف عند حدود الطّبيعة البادية ولا ينفذ إلى دخائلها، حتّى أنّ بعض قصائده مثل "حماة الدّين" تبدو على نسبٍ, بنية وصورة، بشعر شوقي أو حافظ والرّصافي. فلعلّ الأقرب إلى الحقّ أن نقول إنّه كان يطلّ برأسين في اتّجاهين، ولكليهما سطوته وفتنته: مدرسة الإحياء من جهة, ومدرسة المهجر من جهة أخرى. ولكن في كثير من الاحتياط والتّحفّظ. يقول الشّابي في مقدّمته الينبوع: "وأمّا المدرسة الحديثة فهي تدعو إلى كلّ ما تكفر به المدرسة القديمة بدون تحرّز ولا استثناء، تدعو إلى أن يجدّد الشّاعر ما شاء في أسلوبه وطريقته في التّفكير والعاطفة والخيال، وإلى أن يستلهم ما شاء من كلّ هذا التّراث المعنوي العظيم الذي يشمل كلّ ما ادّخرته الإنسانيّة من فنّ وفلسفة ورأي ودين، لا فرق في ذلك بين ما كان منه عربيّا أو أجنبيّا، وبالجملة فهي تدعو إلى حرّية الفنّ من كلّ قيد تمنعه الحركة والحياة, وهي في كلّ ذلك لا تكاد تتّفق مع المدرسة القديمة إلاّ في احترام قواعد اللّغة وأصولها". ولا يكتفي الشّابي بإبراز أوجه الاختلاف بين المدرستين، وإنّما يصرّح باختلافه عن "فريق من متطرّفي المدرسة الحديثة، لا يعدل بحرّية الفنّ شيئا, ولا يحفل في سبيل ذلك حتّى بقواعد اللّغة وأصولها", ثمّ يستدرك فيؤكّد "أنّ صدى هذه الطّائفة قد أخذ يخفت ويضمحلّ، ولا شكّ أنّه سيفنى مع الزّمان، فهو ليس إلاّ طفرة جامحة لكلّ الطّفرات التي تصحب كلّ انقلاب في حماسة الدّعاية الأولى".
نحن "المغاربيين" لم نعرف طوال تاريخنا شاعرا انعقد عليه الإجماع وسار ذكره على الألسنة، غير الشّابي، فكانت حفاوتنا به، إذ توهّمنا أنّنا ظفرنا معه ب"السّلطة الشّعريّة" في نظامنا الثّقافي الرّمزي، ومن ثمّ سهل علينا, وقد سلّمنا بها، أن نجد لها دليلا, حتّى من الشّعر الذي يسفّ فيه ويضعف. هي صدفة إذن، لا بدّ من كسرها دونما تهيّب ودونما تردّد, عسى أن نحتفظ لنصّ الشّابي ب"تجدّده" ونجعله يستأنف لحظة ميلاده، ونحرّره من سلطان المؤسّسة التي حوّلته إلى رمز من رموزها.
ثمّة في نصّ الشّابي رؤى محجوبة لا بدّ من فَضْحِهَا.. وقداسة لاحقة عليه, لا بدّ من فَضْخِهَا. ولقد تظافرت كلّها في حجب النّصّ, وأملت عليه، ما ليس منه، وما يجافي خاصّته. فنسينا أنّ ثقافة الشّابي بكلّ ما داخلها من عناصر وأمشاج، لمْ تكن لتبسط له أمدا فسيحا، بحيث يزيح القيم التّقليديّة المطلقة (سلطة الدّولة وسلطة الأب وسلطة الدّين وسلطة الأعراف الاجتماعيّة..)، وهي القيم التي سعت الرّومنطيقيّة الأوروبيّة إلى تقويضها، وبناء مطلق الفرد على أنقاضها.
×××
أسباب كثيرة كانت تحول دون انطلاق الشّابي في تلك الآفاق الرّحبة التي "يبشّر" بها كتابُه "الخيال الشّعري عند العرب". ويمكن أن نميّز منها سببين:
- أوّلهما: معرفة مبتسرة بالرّومنطيقيّة الأوروبيّة, تبدهُنا في جلّ كتابات المرحلة التي نحن بصددها، ومنذ لحظة اللّقاء الأوّل بهذه الحركة, في مصر والشام والمهجر الأمريكي. فلم يكن الشّابي, مثله مثل معلّميه ومجايليه من العرب، على دراية عميقة بالأصول الفلسفيّة والجماليّة التي نهضت عليها الرّومنطيقيّة مثل مناهضة سلطة الدّولة والعقل، وإعادة تقويم العلاقة بين الإنسان والطّبيعة, فقد استتبع تمكّن الحركة العلمانيّة في الغرب، خواء المؤسّسات الدّينيّة وارتباك نظام القيم بتجلّياته الأخلاقيّة والجماليّة و"المخياليّة". وهذا ما يفسّر إلى حدّ كبير، نشدان التّواصل مع الطّبيعة، في الأدب الرّومنطيقي الأوروبي، بعد أن كاد الأمر يختزل في ثنائيّة (الطّبيعة/الموضوع والإنسان/الذّات الفاعلة)، وحصر العلاقة في مجاهدة الطّبيعة وترويضها وتسخيرها. ولم يكن بميسور الشّابي أن يتمثّل في ظلّ هذه المعرفة التي كانت تتّسم بالاختزال النّظري، كما يقول الكاتب المغربي محمّد بنّيس، الرّومنطيقيّة في أبعادها الحضاريّة الشّموليّة، خاصّة أنّ الوسيط بينه وبين ينابيعها، إنّما هو النصّ المترجَم عن الفرنسيّة والأنقليزيّة، بكلّ ما كان يعتريه من شبهة ولبس وقلق عبارة، بسبب التّرجمة الانتقائيّة والمختزلة التي كادت تحصره في بكائيّات "لامارتين" وفي نبرة الاستكانة بدل التّمرّد والمناهضة. حتّى أنّ صورة الشّاعر التي ترتسم في ديوان "أغاني الحياة" هي صورة الرّومنطيقي الذي يدير ظهره للمجتمع، ويحمل عصاه أو قيثارته, ضاربا في الطّبيعة باحثا عن صفاء الحضور في روح الكون والأشياء أو ما يُسمّى بالعودة إلى الفردوس.
-أمّا ثاني السّببين الذي كان يحول دون انطلاق الشّابي في آفاق الخيال الرّحبة أو "روح الإنسانيّة الصّاعدة المحرّرة" بتعبير فريد غازي، فقد يكون مردّه إلى البيئة الدّينيّة التي نشأ بها الشّاعر ودرج. وهي بيئة فقهيّة مالكيّة محافظة ظلّت على مدى قرون تعيد انتاج أصولها، في حركة أفقيّة لا رأسيّة، ودون كبير تنوّع في مصادرها.
وليس المقصود، في هذا السّياق, البعد الدّيني، وهو واضح جليّ في شعر الشّابي, وفي سيرته كما يرويها هو نفسه، وإنّما "السّنّة اللّغويّة" التي لم تتجرّد في بلاد المغرب عن رقّ المدوّنة الفقهيّة, وطرائق مقاربتها اللّغويّة، لأسباب راجعة إلى ما يسمّيه الشّيخ الفاضل بن عاشور "التّناسب الوضعي" الذي يربط بين الفنون والعلوم المتنوّعة في وحدة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة.كان الشابي حتّى، وهو يوهمنا, في محاضرته "الخيال الشّعريّ عند العرب" بأنّه كان يسعى إلى الفصل بين نمطين من الكتابة الشّعريّة: النصّ الشّعريّ العربيّ القديم من جهة، وهو لا يميّز بين مختلف أطواره، وإنّما يراه نصّا واحدًا "ليس له من الخيال الشّعريّ حظّ ولا نصيب"، والنّصّ الشّعريّ الجديد (الرّومنطيقي) من جهة أخرى: يستبدل مطلقا بمطلق, صادرا عن مفهوم ثابت للطّبيعة الإنسانيّة أو ما يسمّيه "الرّوح العربيّة" التي انطبعت في نظره، بما انطبع به الأدب الجاهليّ "من نظرة قصيرة ساذجة لا تنفذ إلى جوهر الأشياء وصميم الحقائق". وربّما كنّا ننتظر منه، وهو المأخوذ بالخيال الرّومنطيقيّ، أن يعلي من شأن العوامل الذّاتيّة في كتابة الشّعر، فإذا به ينصرف إلى الكتابة التي "نستشفّ من ورائها خوالج الأمّة ومشاعر الشّعب..."، ويعيدنا إلى تصوّرات قديمة عن الشّعر والشّاعر، يجلوها في مجلى الحقيقة المطلقة.

نزار شقرون
الشابي ابن الحياة
لا يموت الشّاعر طبعا لأنّه مجبول على الالتحام بقوى الوجود الجوهريّة التي لا تكفّ عن الحضور في كلّ مكان وزمان، ولا يعدّ الموت البيولوجي غير ارتهان مشترك بين الكائنات لحقيقة مطلقة. وما الشّابي غير شاعر حوّلته الرّؤية العميقة رغم انحسار الامتداد الزّمني إلى إنسان خالد، ورغم انقضاء هذه العقود على رحيل الشّابي فإنّ سؤال راهنيّته يبقى مطروحا خاصّة في سياقات ثقافيّة تونسيّة وعربيّة جعلت منه سلطة أدبيّة، وقامة إبداعيّة تسبّب بعض النّتاج النّقدي في تأليهها دون وعي بسلبيّة هذا التّأليه بل بتضاربه مع رؤية الشّابي الفنّيّة. ولذلك لا يمكن النّظر إلى سؤال الرّاهنيّة من زاوية تصنيم شعريّة الشّاعر بقدر ما يجب الوقوف عند المكوّنات الأساسيّة التي تجعل من الشّابي راهنيّا وغير مرتهن بالتّمشّي التّصنيمي الذي تنطلق منه مقاربات نقديّة شكّلت في الحقبة الأخيرة بديلا رمزيّا ل"المناصب الشّرعيّة" التي قاومها الشّابي وانصرف عنها لكونها مرادف أمين لسلطة التّحجّر في الوجود. لقد وقف الشّابي ضدّ مألوف الرّؤية الشّعريّة بشكل متناظر مع سعيه إلى التّجديد. فاصطدم بالذّائقة العربيّة حين واجه بشكل متميّز وعجيب "الخيال الشّعري عند العرب". لقد توقّف الشّابي عند جوهر ماهيّة الشّعر، أي عند الرّؤية الشّعريّة التي تكون بمثابة المولّد الرّئيسي للفعل الإبداعي، وهو في هذا الوقوف ما يزال راهنيّا، فمجمل الكتابات والتّجارب العربيّة الرّائدة ما تزال تواجه "الرّؤية المحنّطة للخيال العربي" التي تحوّلت لدى المتلقّي العربي إلى نوع من الطّوطم، لا تجب مهاجمته ولا زحزحته عن كاهل الشّعريّة العربيّة. لقد اختار الشّابي أن يكون في رؤيته متّصلا بالرّؤية الغربيّة التي لها "رنّة عميقة داوية" في مقابل الرّؤية العربيّة ذات "الرنّة السّاذجة البسيطة"، وما هذه الرّنّة غير إيقاعيّة الشّعريّة الثّائرة التي تتوهّج في أعماق الحياة والوجود، وبقدر ما تلمّس الشّابي راهنيّة لامارتين وغوته في عصره بقدر ما نستشعر راهنيّة الشابّي اليوم دون أن نخفي موقفنا النّقدي من كلّ الكتابات التي زعمت قراءة الشّابي دون أن تقرأه فعلا. نحن اليوم، بالمعنى الرّاهني، نحتاج إلى إعادة قراءة الشّابي خارج موجّهات المقاربات السّابقة التي سيّجته في دائرة الرّومانسيّة العربيّة أو التّأثّر المزعوم بالشّعر المهجري أو الشّعر الوطني فحسب، فإذا نوينا الحديث عن الرّاهنيّة لن نجد مناصا من تحرير الشّابي من معتقل المنظار النّقدي، ولا نغالي حين ندعو إلى تجديد قراءة الشّابي دون أن نتعالى عن دراسات نقديّة استطاعت أن تلتحم بنسغ الرؤية الشّعريّة للشّاعر. ألا ننصت للشابي في قوله:"أنا شاعر، والشّاعر عبد نفسه، وعبد ما توحي إليه الحياة، لا ما يوحي إليه البشر..وفي المناصب الشّرعيّة بالأخصّ قيود، وطقوس، وسنن متعارفة، اصطلح عليها النّاس، وألفوها، فأصبحت مقدّسة عندهم لا يمكن أن تمسّ بسوء، وأنا أعلم أنّ نفسي تأباها وتنكرها ولا تخضع إليها." ثمّة في ما صدح به أساس تعريف منزلة الشّاعر ودوره في الوجود، باعتباره من عائلة العقوق، إنّه يحدّد شرطيّة الصّفة بالرّابطة العضويّة مع الحياة، ولكن مَنْ مِن النّقّاد عكف على تعميق البحث في مفهوم الحياة لدى الشّابي؟ لماذا ترك هذا اللّفظ في خانة بداهة التّلقّي؟ لماذا أُسر في دائرة الطّبيعة والوطن والمرأة؟ أليس هناك ما هو أعمق من هذا الثّالوث؟ ماهي " الحياة " التي عناها الشّابي، أليست هي تلك الرّنّة التي يبحث عنها فما وجدها في الشّعريّة العربيّة؟ لقد ارتبط الشّابي في زمنه ب"الحياة الحاضرة" ارتباطه بتلوّناتها، فنادى بأن يكون الشّعر ابن الحياة، وهو الذي صرّح بأنّ "لكلّ عصر حياته التي يحياها ولكلّ حياة أدبها الذي تنفخ فيه من روحها القشيب"، وهو يفرّق بين "شعر الحياة الخالد وبين شعر السّخافات والتّقاليد" وهو بذلك قد أمعن في تأسيس رؤية للشّعر تلامس جوانب رؤية الشّاعر المعاصر، بل علّه بلغ رغم يفاعته درجة التّمكّن من جوهر العمليّة الشّعريّة من حيث الوعي بمولّداتها والوقوف على أفقها الممكن والمستحيل في آن. ألم يكن هجومه على الخيال العربي من أبرز الأطر النّظريّة التي ولّدت تجربته الكتابيّة؟ ومع ذلك تحتاج مواقف الشّابي في هذا الصّدد إلى إعادة قراءة دون مغالاة بالطّبع ودون إسقاط لمفاهيم معاصرة على مباحثه بل إنّ أهمّ ما يمكن بحثه في حدود الرّاهنيّة هو الآليّات الفكريّة والشّعريّة التي جعلت من روحه روحا ثائرة، تتّجه إلى عمق الحياة باعتبارها معين التّجربة الشّعريّة ومداد كلماتها. ثمّة دعوة إلى التّناغم الشّعري مع الحياة بما في ذلك الإنصات الشّفيف إلى خفقانها. ألا نحتاج اليوم إلى شعر يتناغم فعلا مع الحياة أي إلى شعريّة تكون بنت الحياة لا بنت البلاغة؟

محمد البدوي
قصائد الشابي تحمينا من الفقر الشعري
لا شكّ أنّ أبا القاسم الشّابي استطاع بشعره أن يملأ الدنيا ويشغل النّاس، لأنّه بعد أكثر من سبعين عاما على وفاته مازال موضع اهتمام من طرف النّقاد وعموم القرّاء. ففي البرامج المدرسية والجامعية يحظى الشاعر باهتمام متزايد، وفي الساحة الأدبية يمكن الإقرار بأنّ "أغاني الحياة" هي من أكثر دواوين الشعر التونسي انتشارا وحضورا في المعارض. وهذا وحده كاف للدلالة على رغبة القرّاء في اقتناء هذه المجموعة . صحيح أنّ أبا القاسم الشّابي زعيم المدرسة الرومنطيقية، وصار أحد أبرز أعلامها لا في تونس فحسب بل في الشعر العربي، وهو أكثر شهرة من علي محمود طه. وقد يتحامل البعض على المدرسة جملة وتفصيلا سواء كان الشاعر هو الشابي أو غيره، بدعوى أنّ التاريخ تجاوزها وصارت المرحلة تحتاج اتّجاهات مختلفة ورؤى جديدة.
لكنّ الشابي ونحن نحتفل بمرور مائة سنة على ميلاده، يبقى دوما محلّ إعجاب جيل الشباب، لحاجة هذه الفئة من الجمهور لهذا التوجّه الرومنطيقي الذي يفرضه عنصر السنّ والإعجاب بالقصائد التي تمتاز بالوضوح الذي لا يتوفّر في كثير من النصوص الشعرية الجديدة، زيادة على توفّر موسيقى قريبة من النفس نابعة من الأوزان المختارة، والمعجم البعيد عن غريب اللفظ وما في القصائد من أساليب بليغة، فيها من البيان والبديع ما يجعل قصائد الشابي تمتاز بكثافة المعنى وتعدّد القراءات .
إنّ الشابي شاعر خالد لا شكّ في ذلك، وشعره مازال يحقق الانتشار. يسعى الشعراء النّاشئون إلى تقليده والنسج على منواله في المراحل الأولى من تجاربهم، تسحرهم قصائد أبي القاسم بخصائصها الفنّية ومضامينها النضالية التي يشعر قارئها وكأنّها كُتبت حديثا تعبيرا عمّا يحدث في الشرق الأوسط من تحدّيات، وما تمارسه القوى العظمى من استغلال لبلدان العالم الثالث سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
ورغم قيمة الشابي الشعرية وحداثة قصائده، وشهرته الواسعة، فلا يجب أن ينسينا أنّ في تونس شعراء وشاعرات من طراز جيّد يكتبون بأساليب متطوّرة، وهم قادرون على تأكيد الحضور والإقناع إذا ما نالوا حظّهم الكافي من الاهتمام النقدي وفرص الانتشار الإعلامي داخل تونس وخارجها، إضافة إلى حضور المدوّنة الشعرية بصفة كافية.
وإذا كان الاحتفال بمائوية الشابي حدثا ثقافيا جديرا بكلّ تقدير وتنويه، فيجب أن يكون فرصة متجدّدة لمصالحة جمهور واسع مع الشعر، لأنّ الكثير مما يتمّ نشره اليوم، فيه من الفقر الشعري ما يجعلنا نلجأ بصفة آلية إلى قصائد أبي القاسم الشابي لأنّها حافظت على الكثير من الوهج وبإمكانها أن تعصمنا ممّا تعيشه الساحة الشعرية من اختلاط الشعراء بالمتشاعرين، في تونس وفي كلّ البلاد العربية، خصوصا أنّهم وجدوا في وسائل الاتصال الحديثة مجالا مناسبا للشهرة لا يخضع لأية رقابة نقدية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.