فوز حزب العدالة والتنمية باغلبية مقاعد البرلمان التركي واستقرار صورته كأهمّ قوة سياسية تركية أعطى لتركيا المتوثبة بحماس لاجتياز أبواب أوروبا مزيدا من علامات الاهتمام والمتابعة وكمٍا من الأسئلة والاستفهامات التي تتجاوز التساؤل حول «العدالة والتنمية» كحالة تركية لتمس جوهر النقاش التقليدي حول قدرة الحركات ذات الخلفية الدينية على الاندماج في النسق المدني للعملية السياسية.. تجربة حزب طيب رجب اردوغان وريث تجربة الرفاه «الأربكانية» حمّالة تأويلات وعلامات متناقضة مفتوحة على امكانات كبيرة للاستنتاج الخاطئ والخلاصات الملتوية. بعض القراءات تريدها تأكيدا على الخلاصة الايديولوجية التقليدية المحتفية بصعود الاسلام السياسي المنتصر في أكثر من موقعة انتخابية، تلك القراءة المبشرة بعهد جديد في العالم العربي والإسلامي تحيل فيه الديموقراطية الحرة وصندوق الاقتراع التعدّدي الشفاف مباشرة إلى انتصار الاسلاميين. ينظر بعض المتابعين إلى انتصارات اردوغان أنها حلقة لافتة ضمن سلسلة انتصارات مشروع «الاسلام هو الحل» التي ما فتئت تجلب لها الاهتمام وحماس بعض دوائر التفكير والقرار في الولاياتالمتحدةالأمريكية المراهنة على اسلام سياسي معتدل يصد تصاعد النسخة الجهادية المتطرفة ويحاصر امتداداتها في أكثر من ساحة حارقة «غزاها» الجهاديون ان لم يكن بمقاتليهم فبأفكارهم ومنهج رؤيتهم للعالم. لكن الحماس لتجربة حزب العدالة والتنمية التركي لا ينبغي ان يخفي على الفرحين بالخلاصات دون الاهتمام بالمقدمات بأن المثال التركي تحديدا أبعد من ان يصلح توظيفه في تأكيد فرضية الايجابية السياسية لمشروع الإسلام السياسي وقياس قابليته في الاندماج المدني وخدمة مشروع الاصلاح الديموقراطي بالقياسات التحديثية العميقة. ماذا بقي لحزب العدالة والتنمية من هوية الأحزاب والحركات الاسلامية؟! لا أعتقد ان الحزب التركي المحافظ على علامات رمزية بسيطة موحية بانتماء ايدولوجي اسلامي هو أقرب لميراث النشأة ونواة التأسيس الأولى المنشطرة والمتذررة لاحقا لتحتفظ فيما بعد بحجاب زوجتي رئيس الحزب ونائبه العلامة الأهم لما يوحي بالانتماء الايديولوجي اكثر من اي برنامج سياسي او منهج حكومي، لا اعتقد ان هذا الحزب بالإمكان تصنيفه ضمن الخانة التقليدية لأحزاب وحركات الإسلام السياسي المتعارف عليها في عالمنا العربي والاسلامي. حزب العدالة والتنمية التركي يتبنى صراحة علمانية النظام السياسي في تركيا ولا يفوّت فرصة دون التذكير بتمسكه بالعلمانية ووفائه للمؤسس «أتاتورك». حكومة العدالة والتنمية هي الساهرة على تطبيق القوانين العلمانية في تركيا بما فيها قانون منع الحجاب في المدارس العمومية والمساواة في الإرث بين المرأة والرجل، حكومة العدالة والتنمية هي الساهرة على احترام معاهدات الصداقة والتعاون التي أمضتها حكومة «أربكان» المؤسّس الاسلامي مع اسرائيل، حكومة العدالة والتنمية هي التي تقود اليوم جهود الأمة التركية لتحقيق الحلم الوطني للاندماج في الاتحاد الاوروبي بخلفية تصريح واضح هو الحلم بالانصهار في منظومة الغرب ثقافة واقتصادا وسياسة، لم يطالب حزب العدالة والتنمية يوما بتطبيق الشريعة ولا باقامة نظام الخلافة بقدر ما كانت ادبياته حريصة على رفض اقحام الدين في اللعبة السياسية مع التمايز عن الطرح العلماني المتطرف برفض سحب الدين من الحياة. اعتقد ان انتصارات حزب العدالة والتنمية هي انتصارات حزب علماني وسطي ومعتدل يتبنى خطاب الهوية بمعناه الثقافي والاجتماعي دون ان يحولها الى شعار سياسي منغلق على ايديولوجيا عقائدية اصولية، هوية يستثمرها للاقتراب من الروح الاسلامية للشعب التركي يوظفها في المعركة ضد الفساد والفقر ومن اجل الاصلاح والحكم الرشيد. اردوغان بربطة عنقه الحداثية الشبيهة بحداثة زي رفيقه غول ابعد كثيرا من ان يتم تصنيفه ضمن نادي اللحي الطويلة والجلابيب الفضفاضة لأئمة الحركات الأصولية ومشائخها اما اذا اراد البعض السكن في عوالم صورة ملابس الزوجة الكريمة وايحاءاتها العقائدية ليستدرج خلاصات الانتصار السياسي لفائدة رصيده فتلك حريته الخاصة، فجميعنا احرار في الاعتقاد فيما نشاء، بما في ذلك الاعتقاد في الأوهام!!