مع الشروق .. قمّة بكين ... وبداية تشكّل نظام دولي جديد    انطلاقا من غرة جوان: 43 د السعر الأقصى للكلغ الواحد من لحم الضأن    رئيس الحكومة يستقبل المدير العام للمجمع السعودي "أكوا باور"    توقيع مذكرة تفاهم تونسية سعودية لتطوير مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس    شهداء وجرحى في قصف لقوات الاحتلال على مدينة غزة..    بطاقتا إيداع بالسجن ضد أجنبيين تورّطا في تنظيم عمليات دخول أفارقة لتونس بطرق غير نظامية    بداية من اليوم: خدمة جديدة للمنخرطين بال'كنام' والحاصلين على الهوية الرقمية    صفاقس: إيقاف 21 افريقيا وصاحب منزل أثر معركة بالاسلحة البيضاء    جنيف: وزير الصحة يؤكد أهمية تعزيز قدرات الدول الإفريقية في مجال تصنيع اللّقاحات    عاجل/ هذا ما قرّرته 'الفيفا' بشأن المكتب الجامعي الحالي    وزارة الصناعة: توقيع اتفاقية تعاون بين أعضاء شبكة المؤسسات الأوروبية "EEN Tunisie"    مفقودة منذ سنتين: الصيادلة يدعون لتوفير أدوية الإقلاع عن التدخين    كلاسيكو شوط بشوط وهدف قاتل    أول تعليق من نيللي كريم بعد الانفصال عن هشام عاشور    بالفيديو: بطل عالم تونسي ''يحرق'' من اليونان الى إيطاليا    مراسم استقبال رسمية على شرف رئيس الجمهورية وحرمه بمناسبة زيارة الدولة التي يؤديها إلى الصين (فيديو)    عاجل/ فرنسا: إحباط مخطّط لمهاجمة فعاليات كرة قدم خلال الأولمبياد    وزارة المرأة تحذّر مؤسسات الطفولة من استغلال الأطفال في 'الشعوذة الثقافية'    بن عروس: حجز أجهزة اتصالات الكترونيّة تستعمل في الغشّ في الامتحانات    بطاقة إيداع بالسجن ضدّ منذر الونيسي    مجلس نواب الشعب: جلسة استماع حول مقترح قانون الفنان والمهن الفنية    رئيس لجنة الفلاحة يؤكد إمكانية زراعة 100 ألف هكتار في الجنوب التونسي    المنتخب الوطني يشرع اليوم في التحضيرات إستعدادا لتصفيات كأس العالم 2026    النادي الصفاقسي في ضيافة الاتحاد الرياضي المنستيري    الرئيس الصيني يقيم استقبالا خاصا للرئيس قيس سعيّد    قبلي : تنظيم اجتماع تشاوري حول مستجدات القطاع الثقافي وآفاق المرحلة القادمة    وزير التعليم العالي: نحو التقليص من الشعب ذات الآفاق التشغيلية المحدودة    عاجل/ حريق ثاني في حقل قمح بجندوبة    مستشفى الحبيب ثامر: لجنة مكافحة التدخين تنجح في مساعدة 70% من الوافدين عليها على الإقلاع عن التدخين    منظمة الصحة العالمية تمنح وزير التعليم العالي التونسي ميدالية جائزة مكافحة التدخين لسنة 2024    صفاقس: وفاة امرأتين وإصابة 11 راكبا في اصطدام حافلة ليبية بشاحنة    تطاوين: البنك التونسي للتضامن يقرّ جملة من التمويلات الخصوصية لفائدة فلاحي الجهة    بمشاركة اكثر من 300 مؤسسة:تونس وتركيا تنظمان بإسطنبول أول منتدى للتعاون.    رولان غاروس: إسكندر المنصوري يتأهل الى الدور الثاني لمسابقة الزوجي    الشايبي يُشرف على افتتاح موسم الأنشطة الدّينية بمقام سيدي بالحسن الشّاذلي    الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية مجانا يوم الأحد 2 جوان    آخر مستجدات قضية عمر العبيدي..    الانتقال الطاقي: مشروع للضخ بقدرة 400 ميغاواط    انتخاب التونسي صالح الهمامي عضوا بلجنة المعايير الصحية لحيوانات اليابسة بالمنظمة العالمية للصحة الحيوانية    رولان غاروس: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة 34 عالميا    حادث مروع بين حافلة ليبية وشاحنة في صفاقس..وهذه حصيلة الضحايا..#خبر_عاجل    بعد الظهر: أمطار ستشمل هذه المناطق    جبنيانة: الإطاحة بعصابة تساعد الأجانب على الإقامة غير الشرعية    الرابطة المحترفة الأولى: مرحلة تفادي النزول – الجولة 13: مباراة مصيرية لنجم المتلوي ومستقبل سليمان    الأوروغوياني كافاني يعلن اعتزاله اللعب دوليا    عاجل/بعد سوسة: رجة أرضية ثانية بهذه المنطقة..    إلغاء بقية برنامج زيارة الصحفي وائل الدحدوح إلى تونس    تونس والجزائر توقعان اتفاقية للتهيئة السياحية في ظلّ مشاركة تونسية هامّة في صالون السياحة والأسفار بالجزائر    بنزرت: الرواية الحقيقية لوفاة طبيب على يدي ابنه    الإعلان عن تنظيم الدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية من 23 إلى 30 نوفمبر 2024    منبر الجمعة .. لا يدخل الجنة قاطع صلة الرحم !    مواطن التيسير في أداء مناسك الحج    من أبرز سمات المجتمع المسلم .. التكافل الاجتماعي في الأعياد والمناسبات    شقيقة كيم: "بالونات القمامة" هدايا صادقة للكوريين الجنوبيين    محكمة موسكو تصدر قرارا بشأن المتهمين بهجوم "كروكوس" الإرهابي    مدينة الثقافة.. بيت الرواية يحتفي ب "أحبها بلا ذاكرة"    الدورة السابعة للمهرجان الدولي لفن السيرك وفنون الشارع .. فنانون من 11 بلدا يجوبون 10 ولايات    عندك فكرة ...علاش سمي ''عيد الأضحى'' بهذا الاسم ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أية مرجعية فكرية؟
إشكالية السلطة والحرية (2-2)
نشر في الصباح يوم 09 - 06 - 2009


بقلم: الأستاذ محمد رضا الأجهوري
كلية الحقوق والعلوم السياسية - جامعة تونس المنار
إهداء: إلى الروح الزكية الطاهرة للراحل الجليل الأستاذ محمد الشرفي في الذكرى الأولى للرحيل،أجل روح زكية طاهرة لأن الّروح من أمر ربي، "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي،وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"
سبق التعرض في الحلقة الأولى من هذه الدراسة إلى اختلاف المنطلقات النظرية في معالجة اشكالية السلطة والحرية، وذلك من خلال طرح الاشكالية أولا، وما ينطوي عليه هذا الطرح من صعوبة في البحث عن توازن ضروري ومنشود بين طرفي الاشكالية اعتمادا على نصوص الدستور والقانون الجزائي، ثم ومن خلال التعرض الى الحل المقترح. ثانيا: الذي يبحث في مدى محاولة التوفيق والملاءمة بين المصالح المتناقضة لكل من الفرد والسلطة لينتهي الى تأكيد أن حل الاشكالية لا يتحقق بمجرد صيغة إجرائية شكلية وانما بالاعتماد أساسا على مرجعية فكرية محددة تسهم في بلورة طبيعة العلاقة بين السلطة والحرية، وهذه المرجعية الفكرية بمختلف منطلقاتها الايديولوجية هي المحور الرئيسي لهذه الحلقة الثانية والأخيرة من دراسة الأستاذ الأجهوري.
المحور الأول: تهافت المرجعية القمعية
10- لقد بات من الواضح الذي لم يعد يحتاج إلى بيان أو تبيين على حد تعبير الجاحظ في عنوان بليغ لأحد أهم كتبه، أن الأنظمة المرتكزة على أفكار فاشية ونازية وماركسية إنما هي أنظمة تبرر أسس وركائز مرجعيتها الفكرية والإيديولوجية الممارسات القمعية الديكتاتورية التي تحمي طغيان السلطة وتسحق حقوق وحريات الأفراد، ذلك أنه من غير الممكن أن ننتظر من ايديولوجيا تاسست على فكرة الديكتاتورية والتسلط أن تكون لها ممارسات انسانية تحررية تجاه حقوق وحريات الانسان، فالتجارب العملية التي عاشتها بعض الشعوب تحت القمع الديكتاتوري للنازية والفاشية والماركسية تؤكد استحالة التعايش بين السلطة الديكتاتورية القمعية والنزوع الفطري الطبيعي للانسان نحو الكرامة والحرية، تحقيقا لانسانيته ذات السمو والرفعة كاساس لافضليته على دونية غيره من الكائنات التي تعمر الأكوان والمسخرة للارتقاء بمستوى الوجود والكيان.
أولا : تهافت المرجعية الماركسية
11- كما تؤكد بعض التجارب هنا وهناك التي ابتليت بتطبيق بعض أفكار ديكتاتورية البروليتاريا كاساس فلسفي سياسي لنظرة الماركسية للسلطة والصراع الطبقي في المجتمع، وحتمية حسم هذا الصراع بإرساء نظام ديكتاتورية البروليتاريا في إطار مرحلة انتقالية تمهد لقيام المجتمع الشيوعي الذي تضمحل منه الدولة تماما وتزول معه السلطة بناء على اضمحلال وزوال المجتمع الطبقي الذي يبرر قيام السلطة التي تستأثر بها وتستحوذ عليها طبقة لسحق طبقة أخرى، وتؤول إلى طبقة البروليتاريا في نظام ديكتاتورية البروليتاريا، وتؤكد بعض هذه التجارب انسحاق الإنسان وتدمير كيانه من خلال الدّوس على كرامته والإمعان في حرمانه حتى من الحد الأدنى والضروري من الحقوق والحريات، كل ذلك بدلا من تحقيق الانعتاق وتأصيل الكيان وتحرير الذات.
12- يكفي في هذا الصدد مراجعة الأدبيات والإبداعات والدراسات التي ارتبطت بهذه المرحلة المأساوية حتى نقف عند حقيقة هول الكارثة، فالنزعة الشمولية الماثلة في الماركسية تجعل منها إيديولوجيا لها نظرة فلسفية خاصة بالكون والحياة والإنسان قائمة على المادية الفلسفية النافية للوجود الإلهي المصادرة للدين، كما تجعل لها نظرة خاصة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قائمة على فكرة المادية التاريخية وصراع الطبقات وتستخدم أطروحة ديكتاتورية البروليتاريا، وما تفرزه في دنيا الدعاية والديماغوجيا والغوغاء من شعارات وأوهام وأشلاء مضمخة جميعها في دنيا الواقع بدماء البسطاء من المظلومين والمقموعين والابرياء وبدماء النشطاء من الكادحين والمثقفين والعلماء..
13- ومن المشروع بحق في هذا السياق التساؤل عن فكرة الحرية الاجتماعية التي طالما تغزل بها غلاة الماركسية وأيضا عن فكرة الديمقراطية الشعبية التي مارس من خلالها طغاة الماركسية أبشع صنوف التسلط والقمع والديكتاتورية، والتساؤل هو ألم تكن، بحق وصدق، مثل هذه الأفكار المعمدة في دماء سالت كالأنهار مجرد شعارات وأوهام استخدمت في الزج بمئات الألوف من الضحايا والثّكالى في المحتشدات والمعتقلات والمقابر الجماعية، وتحويل الأوطان بالنسبة لمن كتبت لهم النجاة من القتل والسحل والتعذيب إلى سجون كبيرة تصادر فيها حريات الأفراد والشعوب وتهدر أبسط الحقوق وتنتهك أقدس الحرمات إلى أن فاض الكأس وانكسر الجدار وهوى صنم الاستخبار؟..
14- لذلك فإن مثل هذه النزعة الشمولية عقائديا وسياسيا لا يمكن أن تجد لها مكانا في بلاد العرب والمسلمين إلا على أنقاض العقيدة الإسلامية التي يتحتم على الشموليين من الغلاة والطغاة إشهار الحرب عليها والتمادي في هذه المحاربة بكل الوسائل إلى غاية اجتثاثها من قلوب وضمائر وعقول الناس وهذا سيكلف ملايين الضحايا وسيفجر براكين من الدموع والدماء وهو أمر غير مقبول مهما تكن التبريرات والمسوغات ولذلك لم تنجح الماركسية في بلاد العروبة والإسلام عندما مارست الحكم وكذلك عندما شاركت في ممارسته، كما أنها لم تنجح أيضا عندما خاضت معارك انتخابية في مواجهة الوطنيين والإصلاحيين الأحرار، مثلما لم تنجح حتى في الديار التي هيمنت طويلا عليها..
15- كما تؤكد بعض التجارب أيضا التي أمكن فيها لبعض رموز الفكرة الماركسية الالتزام والمشاركة بأسلوب ديكتاتورية البروليتاريا في إدارة شؤون الدولة عندما تسللوا إلى بعض المواقع في السلطة وإن لم تكن هذه الأخيرة ماركسية في قناعاتها وشعاراتها، حيث استغلوا هذا الاختراق لأجهزة هذه السلطة في مستويات متعددة عليا ووسطى وسفلى، قيادات وكوادر وأعوان من أجل ممارسة سياسة الاستئصال والملاحقة لخصومهم الإديولوجيين في حرب استباقية قبل أوانها وقبل أن تتوفر شروطها مستغلين الهامش السلطوي الذي أتيح لهم في التحكم ببعض أجهزة الدولة دون أن تعي الدولة ما ارتكب باسمها من قمع وملاحقة ودوس للحقوق والحرمات والحريات، إلى أن أدخلوا البلاد، وهذا مبتغاهم وديدنهم، في دوامة من تصدع الثقة وغلبة التسلط والقهر وانهيار الطمأنينة والأمان مما ولد أزمة حادة مستفحلة انعكست آثارها الكارثية على النظام الحاكم نفسه وعلى التطور الطبيعي للمجتمع نحو المزيد من الانفتاح والديمقراطية.
16- والأدهى من ذلك أن بقايا فلول ورموز الماركسية بعد انهيار النظام الماركسي عالميا على المستوى الفكري الإيديولوجي والسياسي، انهيار الاتحاد السوفياتي كقلعة إيديولوجية وسياسية للماركسية وما استتبع ذلك من انهيار الكارتونات المرتبطة به في أوروبا الشرقية وبعض بلدان العالم الثالث، حتى أن بعض الأنظمة الماركسية هنا وهناك مسحت تماما من الخريطة الجغراسياسية، والأدهى إذن أن هؤلاء الماركسيين المتطرفين المهزومين في معركة الحرية يحاولون التنصل من ماضيهم القمعي الدموي القاني بالارتماء في أحضان المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان واختراقها ومحاولات السيطرة عليها وإزاحة كل من لا يشاطرهم منهاج التفكير وأسلوب القمع، بالرغم من أن مثل هذه المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان والحريات العامة ليست من المنظور الماركسي إلا تجليات أو تعبيرات بورجوازية يجب محاربتها وإسقاطها، ومع ذلك أصبحت هذه المنظمات البورجوازية الملاذ الأوحد والأخير الذي تحتمي به وتتمعش منه فلول بعض الماركسيين الذين لا يزالون مصرين على إيمانهم والتزامهم بديكتاتورية البروليتاريا والذين رغم ذلك يتظاهرون دون استنكاف، ومن باب الغاية تبرر الوسيلة، وأيضا من باب الخداع والمغالطة والتضليل والتمويه ومحاولة الهروب إلى الأمام ربحا لمزيد من الوقت، يتظاهرون بتبنيهم الانتهازي الميكيافيلي، غير الطبيعي وغير الشرعي للايديولوجيا البورجوازية المدافعة عن الحقوق والحريات، فهل تنطلي المراوغة ونصدق زيف إدعاءاتهم في اعتناق طارئ لقناعات ظرفية تحتمها طبيعة المرحلة ؟!..
ثانيا: تهافت المرجعية الصهيو-أمريكية
17- وينبغي أن لا يفوتنا في هذا السياق أن نستحضر ونضيف إلى ديكتاتورية الأنظمة الثلاثة المذكورة النازية والفاشية والماركسية التي دخلت جميعها مزبلة التاريخ، ديكتاتورية أخرى لا تقل خطورة ووحشية ولا إنسانية ولا شرعية هي ديكتاتورية المحافظين الجدد في أمريكا الذين انفردوا بإدارة القطب العالمي الأقوى والأوحد المتحكم في مصائر أنظمة دول العالم من خلال إيديولوجية صليبية صهيونية استعمارية حاقدة وماكرة ومدمرة هي الوجه القبيح للامبريالية الطاغية التي في سبيل مصالحها، لا مكان لديها لاحترام الشرعية أو الكرامة الإنسانية أو حقوق وحريات الشعوب والأفراد.
18- والسؤال المطروح أمام كل ذوي العقول النيرة من أبناء الإنسانية، هو ماذا تريد الإدارة الأمريكية الخاضعة لسيطرة الإيديولوجية الصهيونية الصليبية أن تصنع بترسانة قوانينها، قبل ترسانة أسلحتها المدمرة؟ هل تريد أن تصنع الديمقراطية أم تريد أن تصنع العداء والكراهية؟ فهل يمكن أن تصنع الديمقراطية حقا من خلال الاعتقال لمجرد الاشتباه والقتل لمجرد الاشتباه والتعذيب لمجرد الاشتباه كذلك ؟ أم هل يمكن أن تصنع الديمقراطية بشتى أساليب ووسائل التنكيل المعنوي والجسدي المسلط على الأجانب وحتى على حملة الجنسية الأمريكية من الأمريكان، في المطارات والطرقات والتنقلات وفي جميع أماكن وميادين وساحات الاحتجاج والتظاهر والتجمعات بل حتى في جميع مظاهر الحياة العادية التي لم تسلم فيها الحقوق والحريات والحرمات والخصوصيات والمقدسات من الانتهاك والاستفزاز والتجاوزات، هل هذا هو النموذج الأمريكي للديمقراطية وحقوق الإنسان ؟؟
19- والأنكى من ذلك كله هو أن هذه الإدارة الأمريكية المتعصبة التي تقودها طغمة متطرفة من المحافظين الجدد عبر إيديولوجيا صليبية متصهينة لا تتورع في استخدام الحروب العدوانية وأدوات الهيمنة والاحتلال العسكري والاقتصادي والتحكم في القرار السياسي للأنظمة التابعة والمغلوبة على أمرها، فتوظف القانون الجزائي داخل هذه الأنظمة الفاقدة لكل شرعية وطنية أو شعبية من أجل تجريم المباح وتقييد المتاح والدوس على الحقوق والحرمات وممارسة التعذيب والانتهاكات والتجاوزات وتنظيم المحاكمات وقمع أي تطلع للتحرر والانعتاق، ومع ذلك لم تقدر هذه الإيديولوجيا الصليبية الصهيونية ولا الأنظمة المذيلة لها ولا الطابور الخامس من الخونة والعملاء المكبل بأغلال الدولارات المجروفة بالدبابات، على إذلال الشعوب الرافضة للقمع والقهر هذه الشعوب المقاومة لجميع أشكال ومظاهر الاحتلال والخيانة والعمالة والغدر والتدخل الأجنبي.
20- وليس من شك في أن الامبريالية الصليبية الصهيونية الجديدة وما يرتبط بها من أنظمة منصبة ولا وطنية ومن خونة لا يتوانون في التبشير بديمقراطيتها الدموية القمعية تلتقي مع النظم النازية والفاشية والماركسية في أبشع ممارسات القمع والقهر والتسلط والتدمير والقتل والتعدي والديكتاتورية كقاسم مشترك يصهرها جميعا في بوتقة إرهابية واحدة، يبرر ليس فقط اللجوء إلى استخدام القوة الغاشمة للهيمنة على الشعوب المسالمة ونهب ثرواتها وتدمير قدراتها، وإنما استخدام القانون الجزائي كأداة ضرورية وناجعة وفعالة في التعسف والانتهاك والتجاوز، من خلال تنظيم المحاكمات التي لا تتوفر فيها الضمانات والتي تتوج بإزهاق الأرواح البريئة بواسطة الإعدامات.
21- كما تلتقي هذه الأنظمة الديكتاتورية جميعها من نازية وفاشية وماركسية وصليبية صهيونية في قاسم آخر مشترك يهم المصير الواحد المحتوم وهو السقوط والانهيار، والزوال والاضمحلال، بتفاوت نسبي بينها في اللحظة الزمنية التي يتحقق فيها ذلك المصير، لكل أجل كتاب، وهذه اللحظة قد تطول أو قد تقصر ولكن النهاية واحدة وحتمية، ليست نهاية التاريخ كما بشر بذلك فوكوياما، وإنما نهاية الظلم والطغيان والديكتاتورية والاستبداد والاستعباد والهيمنة والتعسف والقهر والتسلط والقمع، فإذا لقيت كل من النازية والفاشية مصيرهما المحتوم في برهة زمنية قصيرة عاجلة، فإن المصير المماثل الذي لاقته الماركسية جاء بعد حين من الدهر، وهذا الحين ليس إلا لحظة عابرة في احتساب أعمار الأمم والحضارات، والمهم هو حصول وتحقق الانهيار الكبير، وليس بعيدا من ذلك الانهيار المرتقب للغطرسة الصليبية الصهيونية إذ يعيش العالم اليوم على وقع بداية هذه النهاية بوتيرة متسارعة، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا،... ولتعلمن نبأه بعد حين.. وإن غدا لناظره قريب.
المحور الثاني: حيوية المرجعية التحررية
22- لذلك فإن حل إشكالية العلاقة بين السلطة والحرية، بين المواطن والنظام، لا يمكن أن يستمد مرجعيته الفكرية من نظريات قائمة أساسا على فكرة الديكتاتورية والقمع والاستغلال، وإنما يجب البحث عن فكرة جديدة تحقق كرامة الإنسان وتحمي حقوقه وتصون حرماته وتكرس حرياته، تتأسس على مبادئ الكرامة والشرعية والحق والعدل والحرية "ولقد كرمنا بني آدم"، "لا إكراه في الدين"، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر..."، "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"...
أولا: ثوابت وضوابط
23- وهذه المبادئ العامة إنما هي في جوهرها جملة ثوابت وضوابط توجه حركة التقنيين وتؤطر مختلف النشاطات التي يمكن تعاطيها في الواقع، وهي بقدر ما يمكن التعامل معها على أنها نصوص وأحكام تحتم الضرورة أن يقع التعامل معها على أنها ثقافة تصنع عقلية ومواقف الأفراد والمجموعات والتنظيمات، كما تصنع أيضا عقلية وممارسات الأجهزة والهياكل والمؤسسات فعندما تستقر قيمة الكرامة والاعتزاز بالذات في نفوس وعقول الجميع مواطنين وسلطات فإن ذلك سيكون بلا أدنى شك ضمانة حقيقة تفرض على الجميع وتحمي الجميع من أي تجاوز أو انحراف أو تعسف أو انتهاك، فلا تعذيب ولا تنكيل ولا اعتداء على حرمة الإنسان الجسدية والمعنوية على حد سواء، "ولقد كرمنا بني آدم".
24- وكذلك الشأن بالنسبة لقيمة الحرية التي تمارس في نطاق القانون والأخلاقيات دون استهتار أو خروقات، إذ يكفي أن يعلم الجميع مواطنون وسلطات أن حرية التعبير مثلا المؤسسة على حرية القول والمجسمة لحرية القول، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنما هي حرية تكاد تكون مطلقة بلا قيود إلا قيود ضئيلة تنبعث من الذات كإفراز لمستوى الوعي بممارسة الحق في إطار الانضباط، وكذلك جاء التأكيد عند استعمال عبارة "القول" على الخوض في مطلق القول الذي لا شك أنه قول حسن مقبول تستسيغه الأنفس والعقول، بما يسمح بممارسة حرية الاختيار بين مختلف صنوف القول الحسن المتضمن لمواقف أو آراء أو توجهات أو اختيارات تلتقي جميعها في انتمائها المشترك إلى إطار حضاري إنساني يقدس حرية الكلمة ويقدس ما تحمله هذه الكلمة من مضمون بناء يساهم في التطور والارتقاء، وسيتيح ذلك حتما ممارسة التقدير والتقييم، وحسن الحوار والاختيار.
25- أما ما يمكن أن تتعرض له الحرية كقيمة حضارية إنسانية من شوائب إكراه أو سيطرة، أو تعسف أو تسلط، فإن ذلك إن حصل، سيعتبر بلا شك انتهاكا لهذه المبادئ المقدسة ونقضا لها وتفريطا في الثوابت وتجاوزا للضوابط، سواء تم هذا الإكراه أو هذه السيطرة أو هذا التعسف أو هذا التسلط من خلال النصوص أو الممارسات، إذ أن أيا من ذلك أمر غير مقبول ولا مستساغ بل سيكون المحرك الذي يدفع الأفراد والمجموعات لمواجهة شوائب الإكراه والسيطرة والتعسف والتسلط حتى لا يكون هناك إكراه ولا سيطرة، ولا تعسف ولا تسلط، ولا قمع ولا قهر، ولا تجاوزات ولا انتهاكات...
ثانيا: استنارة الفكر والمقاصد
26- وفي كل الأحوال يبقى الأساس العقائدي أو الفكري المتشكل من هذه المبادئ الثابتة والضوابط المرنة، أمرا ضروريا في التعاطي مع إشكاليات الحرية والسلطة ودور القانون الجزائي في المجتمع الحديث، ولذلك فإن قيم الحق والعدل والحرية المستمدة من مبادئ الإسلام العقلاني المستنير ومقاصده الإنسانية الإصلاحية هي الوحيدة القادرة على تحقيق الانسجام المفقود والمنشود مع المعتقد الديني العام السائد في بلادنا وسائر بلاد المسلمين وهو ما يساعد على تمثّل هذه القيم والانتصار لها والعمل على إنجاحها، ولذلك أيضا يكون مطلوبا من غلاة التطرف الماركسي في بلاد المسلمين أن يراجعوا مواقفهم ومواقعهم وأن يتخلوا عن فلسفتهم المادية الإلحادية المعادية للعقيدة الإسلامية الجامعة لجماهير الشعب والمكونة لانتمائهم الثقافي الحضاري المشترك وأن ينخرطوا في عملية البناء الوطني الجديد الذي يتوخى الإصلاح منهجا والحق والعدل والحرية أهدافا في إطار رؤية استراتيجية مستقبلية يستلزمها تطورنا وتطور العالم بأسره من حولنا..
27- إن الفكر العقلاني المستنير المتجدد الذي يتأسس على هذه الثوابت الإنسانية المدافعة بحق عن الكرامة والشرعية، المدافعة عن الحقوق والحريات والحرمات، المدافعة عن دولة الحق والعدل، هي الكفيلة بوضع الإطار الأنسب والأكثر ملاءمة لحل إشكالية التعارض بين الحرية والسلطة، بين المواطن والنظام، من أجل التحرر والانعتاق في أي مجتمع على الإطلاق.
28- إن هذه المبادئ تمثل الجوهر الثابت الذي يرسم الإطار الفكري السليم لعملية التقنين والتحديث، أما أشكال العقوبات فهي مجرد أعراض عابرة، ومجرد وسائل ظرفية، وإذا كانت الأعراض في خدمة الجوهر مثلما أن الوسائل في خدمة المقاصد والغايات، فإن هذه الأعراض والوسائل لا شك متغيرة ومتطورة ومتأقلمة مع أوضاع وظروف تطبيق المبادئ، وحينئذ يكون لكل مرحلة وسائل جديدة من أجل تحقيق المبادئ، وعملية التقنين تستهدف استحداث واستنباط وابتكار وسائل جديدة متطورة تزيح وتزيل هواجس التخوف من الالتزام بالمبادئ الجوهرية الخالدة.
29- لذلك فإن دولة القانون القائمة على أسس الشرعية والحق والعدل والحرية على النحو المشار إليه في ثنايا هذا التحليل تظل الإطار السليم في المجتمع الحديث، لاستخدام القانون الجزائي في معالجة وحل إشكالية التناقض القائم في علاقة المواطن بالسلطة، علاوة على استخدامه أيضا في ضبط السلوك الاجتماعي للفرد، وفي مواجهة ظاهرة الجريمة في المجتمع وهي ادوار وفي نفس الوقت أهداف ثلاثة تتأكد بها الأهمية الاجتماعية السياسية للقانون الجزائي.
30- إن قناعتي بانتصار هذه المبادئ الحضارية الإنسانية الخالدة لتحتل من جديد مكانها الطبيعي في واقعنا، قناعة عميقة راسخة، استمدها من سمو وخلود وعظمة ومرونة وسماحة ثقافتنا الوطنية التي لا يمكن أن تكون إلا ثقافة عربية إسلامية، معبأة لخدمة الوطن استقلالا وتقدما وحرية، ومعبأة أيضا لخدمة الإنسانية تعايشا وتسامحا وحميميّة، «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»..
31- وعلاوة على ذلك، فإن الفكر كالماء نوعان، لا يستويان، هذا ملح أجاج وهذا عذب فرات، فكر عدواني قمعي يحمل في طياته جرثومة تدهوره وترهله وانهياره، ليكون مصيره المحتوم الانكسار والاضمحلال والفناء، وفكر إنساني تحرري يحمل في جنباته جذوة تجدده وتطوره وتأقلمه وإشعاعه ليكون قدره المحتوم الاستمرار والدوام والبقاء، ذلك هو الفارق المميز بين مختلف المرجعيات الفكرية في تناول إشكالية العلاقة بين السلطة والحرية، مرجعية عدوانية قمعية زائلة ومرجعية إنسانية تحررية صامدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.