المعاناة عامة داخل الحافلات والمترو والقطار تونس الصباح هذا يسكب جرعة ماء من قارورة ماء معدني تزود بها، وأمثاله بالمئات.. الاخرى وضعت حقيبتها اليدوية ومجلة على رأسها لتقي نفسها حرارة الشمس اللاذعة.. ثالث أخذ منديلا وراح يمسح العرق المتصبب منه.. بعضهم احتمى بظل شجرة.. وآخرون تراصوا تحت واقي المحطة.. مشهد أفرز وضعا لمستعملي وسائل النقل العمومي لا يحسدون عليه.. بعضهم ينتظر قدوم المترو.. وآخرون في انتظار حافلات الترابط.. الكل واجم صابر وصاغر ينتظر فرج إطلالة المترو أو قدوم الحافلة التي ستنقله الى وجهته. إنها معاناة الصيف اليومية للالاف من المواطنين الذين لا حل لهم في تنقلاتهم سوى النقل العمومي.. لكن متى تتغير أحوال هذا النقل، وترتقي خدماته الى مستوى يستجيب لضغوطات الصيف والصعوبات التي يعانيها المواطن داخله؟ في محطة الترابط بأريانة المترو يدفع بالمئات من الركاب في كل رحلة من رحلاته المتواترة القادمة من العاصمة أو المؤدية إليها.. محطة الترابط 10 ديسمبر تعج بالركاب الذين قبعوا تحت حرارة الشمس في انتظار الحافلات لنقلهم باتجاه رواد، حي الغزالة، النحلي، برج الطويل، سكرة شطرانة، وغيرها من الوجهات العديدة. وجوه الجميع وأجسامهم تتصبب عرقا.. الكل يلتقط أنفاسه تحت وطء حرارة صيف لا توصف.. بعضهم ركن لظل شجيرة أو واق من أوقية المحطة، والبعض الاخر تظلل بجريدة أو قبعة.. هذا يبحث عن هواء رطب ويده لا تتوقف عن تحريك مجلة أو جريدة.. الاخر لم يجد بدا مما هو فيه سوى سكب الماء عن رأسه، وإزالة العرق المتصبب منه مدرارا بمنديل.. ذلك هو المشهد الذي تابعناه في هذه المحطة الغاصة بالناس الذين ينشدون التنقل الى عشرات الوجهات المختلفة. داخل المحطة توقفت بعض الحافلات، وتراص الركاب داخلها وهم يتصببون عرقا، ويطلون بوجوههم من شبابيكها بحثا عن لفحة هواء ولو كانت حارة. وبين الحين والاخر يطل مراقب الحافلات، فتتعالى اًصوات الحاضرين استنجادا به لانطلاق الحافلة، أو بالسؤال عن حافلة مضى عليها ساعة زمن دون أن تحل بالمحطة. وتتعالى الاصوات أحيانا بالاحتجاج.. لكن لا حيلة للجميع سوى الصبر وتحمل وطء الحرارة في انتظار أن يمن الله عليهم بقدوم الحافلة أو وصول المترو. وبين الحين والاخر يتسرب بعض سواق الحافلة من مقر أدارة المحطة، فيعود بظهورهم أمل من ركبوا الحافلات في انطلاقها، لكن هؤلاء تراهم غير مكترثين بالوضع، يسيرون بخطى بطيئة، يتوقفون للحديث، تعلو أصواتهم مع المراقبين بالرفض أحيانا.. ولا شك أن آخر اهتمامهم يكون بتلك الجموع التي تنتظرهم سواء داخل الحافلات التي تحركت محركاتها وزادتها حرارة أو في المحطة بانتظار الحافلات الفارغة والراسية في المكان المقابل. وفي محطة المترو المحاذية تجمع العشرات من المواطنين في انتظار وصوله، بعضهم تظلل تحت واقيات المحطة، وآخرون وقفوا تحت حرارة الشمس.. وكان مشهدهم لا يقل عذابا عن الاخرين الذين ينتظرون انطلاق الحافلات.. ويصل المترو بعد انتظار قد يطول أو لا يطول.. ويكون في العموم مرصوصا بالركاب حد الاختناق، لكن لا حيلة لمنتظريه في المحطة سوى الهرولة باتجاه الابواب والسعي الى الصعود داخل المترو كلفهم ذلك ما كلفهم. وعنوة حاولنا الصعود الى المترو لقطع محطة أو محطتين، وذلك لمعاينة الوضع داخله، والحالة التي عليها الركاب.. وخلال هذه السفرة القصيرة وقفنا على عجب عجاب من الازدحام والاختناق.. فلا تكييف ولا تهوئة.. والجميع غارق في بحر من العرق المتصبب من الاجساد. سألنا بعضهم عن هذه المعاناة، فقال محمد الصغير: "ليس لي من خيار، سوى الصبر على هذا الوضع.. ومعاناتي لا تنتهي هنا فحسب، بل ستتجدد مع صعود الحافلة باتجاه الزهروني.. إنه عذاب يحصل كل يوم، ولا أحد فكر في تخفيف هذا العبء الذي يعانيه المواطن داخل النقل العمومي". أما آمال جلولي فقد قالت: "لقد انتظرت المترو زهاء نصف ساعة، وكاد يغمى علي من شدة الحرارة، لولا جرعة الماء التي أشربها بين الحين والاخر.. هذا الانتظار وحرارة الطقس والازدحام والعرق والاختناق نعانيه كل يوم، ولا ندري متى يفرج كربنا وتتحسن ظروف النقل العمومي". وبينما كان ينهمك بإزالة ما تصبب منه من عرق غزير، قال لنا ابراهيم عمارة لم يعد تهمنا الحرارة، ولا الازدحام، بل همنا الوحيد هو الوصول الى منازلنا في أسرع وقت ممكن". وفي محطة حي الخضراء نزلنا، وانتهت رحلتنا القصيرة، وهناك وجدنا جموعا من الناس ينتظرون المترو في الاتجاهين ولعل الذي هالنا أن بعضهم ارتضى البقاء في المحطة على الصعود في المترو، ريثما تمر فترة الذروة، ويقل الركاب. ولعل هؤلاء عملوا بالمثل القائل "هرب من القطرة جاء تحت الميزاب". هذه عينة من بعض المحطات التي زرناها من خلال هذا الريبورتاج السريع والخاطف.. وهذا حال من تجمعوا بها من المواطنين بانتظار وسائل النقل العمومي، حافلات كانت أو مترو.. لكننا نعتقد جازمين أن بقية محطات الترابط، والمواطنين داخلها يعيشون نفس هذا الوضع، ويتحملون نفس المعاناة، فلا فرق بين محطات برشلونة أو باب عليوة، أو نهج باريس، أو باب الخضراء أو غيرها من المحطات في مثل هذه الفترة من فصل الصيف. فكلها تعرف نفس الاكتظاط وكل ركاب الحافلات العمومية والمترو وحتى قطارات الضاحية يعيشون نفس المعاناة، وكل وسائل النقل متساوية لا تهوئة داخلها ولا مكيفات، وتعيش نفس حالة الاكتظاظ بالركاب. فمتى تتجه العناية الى النقل العمومي، ويقع تطويره باتجاه رفاه مستعمليه من آلاف المواطنين، ولو لزم الامر في فترة فصل الصيف؟