تونس الصباح ربما جاز القول بان تجربة الموسيقار محمد القرفي الموسيقية تمثل ترجمة عملية ل«المأزق الوجودي» الذي قد يجد الفنان نفسه فيه احيانا خاصة عندما يكون مصرا على «التغريد خارج السرب» بمعنى عندما يصرّ على ان يكون مجددا وباحثا ومبتكرا في اعماله الموسيقية ومقترحاته الفنية.. نكتب هذا لا فقط اعتبارا للاقبال الجماهيري الضعيف الذي شهده عرض «نفحات صوفية» الذي قدمه الموسيقار محمد القرفي ومجموعته على ركح مسرح قرطاج الاثري بتاريخ 29 جويلية المنقضي وانما اعتبارا ايضا للانحسار التدريجي الذي ما فتئت تشهده المقترحات الفنية والموسيقية لهذا الفنان، وضيق مساحة التجاوب معها والقبول بها لا فقط في صفوف الجمهور العريض بل وحتى في صفوف بعض النخب الفتية ذلك ان العديد من هؤلاء ممن كان يتحمس سابقا بل ويسعى من اجل ان يكون حاضرا كمغن او منشد ضمن اعمال محمد القرفي اصبح اليوم «يتهرب» من ذلك!!! وقد يكون تخلف سليم دمق في آخر لحظة عن المشاركة في عرض «نفحات صوفية» دليلا على ذلك.. فرقة مدينة تونس للموسيقى والواقع ان من يقول «تجربة محمد القرفي الموسيقية» فانه يقول تجربته في ادارة وقيادة فرقة مدينة تونس للموسيقى في ثمانينات القرن المنقضي.. هذه الفترة التي شهدت بروز اسم محمد القرفي بصفته موسيقارا و«مايسترو» بارزا وايضا رمزا ل«تيار» و«توجه» فني يريد ان يقطع مع التسطيح والرداءة و«الجهلوت والرعوانية» في مجال التأليف الموسيقي.. الموسيقار محمد القرفي استطاع وبسرعة في تلك الفترة ان يقنع العديد من الاطراف بجدية مشروعه الفني فكان ان اجتمع حوله لفيف كبير من الفنانين والنقاد والاعلاميين.. واصبحت فرقة مدينة تونس للموسيقى «منبرا» يروج لخطاب فني موسيقي نوعي شكلا ومضمونا.. فكانت مثلا مجموعة الاوبيرات التي قدمها الموسيقار محمد القرفي ضمن الفرقة. كما كانت مجموعة العروض والحفلات ذات المضمون الغنائي الراقي كلمة ولحنا التي يتداول على ادائها فنانون كان محمد القرفي وفرقة مدينة تونس للموسيقى اول من صنع نجاحهم وقدمهم في شكل راق للساحة الفنية.. موسيقى «كنائسية»؟ اللافت انه وعلى الرغم من المساندة القوية التي لقيها الموسيقار محمد القرفي و«مشروعه» الموسيقي الوليد ضمن فرقة مدينة تونس للموسيقى من طرف بعض النقاد والاعلاميين وحتى القائمين على تنظيم الحفلات الغنائية في اطار المهرجانات الموسمية وغيرها من ذلك مثلا ان وسائل الاعلام الوطنية بمختلف انواعها لم تكن تتردد في التعريف والاحاطة بتجربة محمد القرفي الموسيقية.. فالتلفزة الوطنية كانت تقدم في مناسبات مختلفة مختارات من الانتاجات الموسيقية والغنائية للموسيقار ومجموعته (الآن لم تعد تفعل ذلك!).. نقول على الرغم من هذه الاحاطة الاعلامية نسبيا فان التجاوب الجماهيري مع المقترحات الموسيقية لمحمد القرفي يقي في حدوده الدنيا وصنف خطابه الموسيقي الأوركسترالي على انه نخبوي بل و«كنائسي» من قبل الجمهور العريض!!! المراهنة على الجودة على ان الموسيقار محمد القرفي الذي كانت تصله بالتأكيد هذه الاصداء بل ويعاني بنفسه احيانا ضعف التجاوب الجماهيري مع مقترحاته الموسيقية النوعية ظل حتى بعد ان غادر فرقة مدينة تونس للموسيقى مراهنا على الجودة في اختياراته الموسيقية ومصرا على مدى العشريتين الاخيرتين على الارتقاء بالذائقة الفنية لعموم الناس و«مواجهة» الرداءة والجهل بالموسيقى وبجوهر رسالتها.. فكانت تجربته اللاحقة ضمن مجموعة «زخارف» التي اسسها وقدم خلالها مقترحات غنائية وموسيقية نوعية وراقية كلمة ولحنا باصوات اغلب نجوم الساحة الغنائية الذين كانوا «يتوددون» لمحمد القرفي وذلك قبل ان يصبح الواحد منهم لايستحي من ان يخل بالتزاماته تجاه هذا الموسيقار والفنان المثقف. ربما تكون المقترحات الموسيقية والفنية التي يصر محمد القرفي على التبشير بها ضمن «مشروعه» الفني غير مراعية في بعض جوانبها لحقيقة النفسية الثقافية للانسان التونسي.. ولكن هذا لا ينقص باي حال من الاحوال من قيمة هذا المشروع ثقافيا وموسيقيا ولا من مكانة الموسيقار محمد القرفي ومن خلال قدره كموسيقي وفنان مثقف.. اما اذا ما تواصلت «القطيعة» بين الجمهور العريض ومقترحات محمد القرفي الموسيقية والفنية فاننا سنكتفي بالقول: «صحيح.. لا نبي في قومه!»