يظل سؤال الشعر سليل تلك الحيرة الكبرى التي رافقت الانسان في هذه الدروب الموحشة من المسيرة الكونية التي تدفقت فيها مياه الكلمات والصور والخيال.. سؤالا محفوفا بالذهول وباللمعان ذلك ان الكتابة عموما مثلت شكلا من اشكال الاجوبة تجاه هذا القول المتكون الذي يحتفي بزهوه وسعة حقوله حيث العناد والصبر وبراءة الاطفال الاولى ولذلك تعددت ينابيع القول الشعري تعدد الوانه واشكاله وهواجسه وقضاياه بل ان الشعر ظل من ازمنته الاولى عصيا على التأطير الساذج والمفاهيم البسيطة والادوات التي كثيرا ما كانت تروم ادخاله الى بيت الطاعة نقدا وبحثا وحصرا من حيث التعريف والمفهوم.. هو الطائر المحلق في السماوات بامتياز.. الشعر بهذه السياقات ظل فنا لا يقول بغير ذاته المبتكرة والمتجاوزة والعابرة للحدود والالوان.. انه اللون المنفلت من الموت حيث يريد البعض قتله بعناوين ممجوجة ومنتهية فهو الصوت الخالص خارج قطيع الغناء والطلل والنوستالجيا الخبيثة التي تحلم بخنقه او ترويضه على الاقل في دوائر النظم واوهام القوالب الخاوية. لقد كان مجد الشعر طيلة ازمنة بهائه المتجدد وبهجته بين الاكوان حيث عناق الانسان في تراب حر فوقه سماء.. ان حيوية الشعر الانساني ومنه الشعر العربي لمعت من فكرة هذا الخروج والتدفق الوجداني نحتا للقيمة المضافة في ارض اللغة وفق وعي حارق باللحظة وما ينجم عنها من نظر عميق وحلم ثاقب. الشعر هو المحبة الفارقة تجاه التفاصيل والعناصر وعطور الامكنة وهو ما خلفته الانامل وما يسرقه الطفل في غفوته من الاحلام وهو ايضا ذاك النواح الخافت تجاه الحال بعذوبة اللغة التي تقول ولا تقول وهذا عكس ما يراه بعض الادعياء من الحمقى والمغفلين والجهلة بخصوص الشعر حين يصفونه بالكلام الخاضع لاهوائهم المنتظمة. هؤلاء يرون اليوم ان القصيدة لا تخرج عن ممالك غنائيتها وهم وفق نظرتهم الاصولية هذه تجاه الشعر، يعدمون كل صوت متجدد بل هم يخفون عجزهم عن فهم جوهر الشعر الانساني في هذا الاصرار على نعت المجددين المجربين المغامرين بالمارقين ولا يكفون عن التحصن بنظرية المؤامرة حيث يهجمون على كل الاصوات المضيفة في حقول الشعر بسيل من الصراخ من ذلك مثلا قولهم بان الشعر الجديد وقصيدة النثر تحديدا ضرب من المؤامرة على الشعر والثقافة.. الى غير ذلك من الاقاويل والافكار التافهة التي عفا عنها الشعر والزمن. في هذا الاطار يبرز الشعر فعلا جماليا انسانيا يرنو لعبارة باذخة خارج الانساق بما يتناغم مع الكينونة في هذا اللون من التداعيات والمتغيرات التي تعصف بالذات الانسانية الحالمة بل تسعى الى جعل الكون قرية مهجورة.. بهذه المعاني تطلع القصائد مثل ازهار الاقاصي لا تحفل بغير وفائها للحب هذا الذي يتطلب البحث والابتكار والتجدد والتجاوز.. الشعر اذن هو المحبة الكبرى.. هو هذه الحدائق والبساتين متعددة الالوان والاشجار والثمرات.. كان حريا بهم ان يخرجوا عن هذه الجلابيب المستعملة ليكتبوا في المستحدث الجديد وهنا تعرف الذات امكاناتها الحقيقية.. انه الامتحان العسير.. لم نعرف طائرا مترنما باصوات غيره.. انها مسؤولية الشعر.. هذه التي خبرها اطفال القصائد.. ابو تمام.. ابن الفارض.. جلال الدين الرومي.. سان جون بارس.. ماتسو باشو.. جان د دمو.. سركون بولص.. لوران غسبار.. خالد النجار.. محمد علي شمس الدين.. امجد ناصر.. ادونيس.. ايمان مرسال.. باسط بن حسن.. وآخرون. نحب القصائد مثل حبنا للسماء الصافية.. لصخب الاطفال.. لعبث الحروف والكلمات.. هكذا وبهذه الافكار.. يأتي صوت الشاعر صادحا بالقصائد المهربة عن القطيع الاثم في حق الشعر بما هو فن النبلاء وموسيقى المأخوذين بالدهشة.