يوميات المقاومة .. قتلت 7 جنود للاحتلال بعملية نوعية في جباليا .. المقاومة تكبّد الاحتلال خسائر جديدة    هام/ مجلس وزاري مضيّق حول مشروع قانون يتعلق بعطل الأمومة والأبوة    البرمجة الفنية للدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي محور جلسة عمل    بن غفير يطالب باعادة الاستيطان في غزّة وطرد الفلسطينيين    ذبح المواشي خارج المسالخ البلدية ممنوع منعًا باتًا بهذه الولاية    شوقي الطبيب يعلق اعتصامه    اختفى منذ 1996: العثور على كهل داخل حفرة في منزل جاره!!    وزير الفلاحة يفتتح واجهة ترويجية لزيت الزيتون    عاجل : مطار القاهرة يمنع هذه الفنانة من السفر الى دبي    للسنة الثانية على التوالي..إدراج جامعة قابس ضمن تصنيف "تايمز" للجامعات الشابة في العالم    دراسة : المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    هل الوزن الزائد لدى الأطفال مرتبط بالهاتف و التلفزيون ؟    كميات الأمطار المسجلة بعدة ولايات خلال ال24 ساعة الماضية    سليانة: القبض على عنصر تكفيري    عاجل/ فرنسا: قتلى وجرحى في كمين مسلّح لتحرير سجين    تونس تصنع أكثر من 3 آلاف دواء جنيس و46 دواء من البدائل الحيوية    العجز التجاري يتقلص بنسبة 23,5 بالمائة    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    بن عروس: جلسة عمل بالولاية لمعالجة التداعيات الناتجة عن توقف أشغال إحداث المركب الثقافي برادس    نبيل عمار يشارك في الاجتماع التحضيري للقمة العربية بالبحرين    تعرّف على أكبر حاجّة تونسية لهذا الموسم    عاجل/ السيطرة على حريق بمصنع طماطم في هذه الجهة    أعوان أمن ملثمين و سيارة غير أمنية بدار المحامي : الداخلية توضح    ستشمل هذه المنطقة: تركيز نقاط بيع للمواد الاستهلاكية المدعمة    الخميس القادم.. اضراب عام للمحامين ووقفة احتجاجية امام قصر العدالة    سوسة: تفكيك شبكة مختصّة في ترويج المخدّرات والاحتفاظ ب 03 أشخاص    كل التفاصيل عن تذاكر الترجي و الاهلي المصري في مباراة السبت القادم    بعد تغيير موعد دربي العاصمة.. الكشف عن التعيينات الكاملة للجولة الثالثة إياب من مرحلة التتويج    منحة استثنائية ب ''ثلاثة ملاين'' للنواب مجلس الشعب ...ما القصة ؟    وادا تدعو إلى ''الإفراج الفوري'' عن مدير الوكالة التونسية لمكافحة المنشطات    كأس تونس: تحديد عدد تذاكر مواجهة نادي محيط قرقنة ومستقبل المرسى    فتح تحقيق ضد خلية تنشط في تهريب المخدرات على الحدود الغربية مالقصة ؟    مطار قرطاج: الإطاحة بوفاق إجرامي ينشط في تهريب المهاجرين الأفارقة    الرابطة الأولى: الكشف عن الموعد الجديد لدربي العاصمة    أول امرأة تقاضي ''أسترازينيكا''...لقاحها جعلني معاقة    عقوبة التُهم التي تُواجهها سنية الدهماني    باجة: خلال مشادة كلامية يطعنه بسكين ويرديه قتيلا    تونس: 570 مليون دينار قيمة الطعام الذي يتم اهداره سنويّا    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة ..«عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    مدنين: انقطاع في توزيع الماء الصالح للشرب بهذه المناطق    منها زيت الزيتون...وزير الفلاحة يؤكد الاهتمام بالغراسات الاستراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي ودعم التصدير    بقيمة 25 مليون أورو اسبانيا تجدد خط التمويل لفائدة المؤسسات التونسية    مبابي يحرز جائزة أفضل لاعب في البطولة الفرنسية    بادرة فريدة من نوعها في الإعدادية النموذجية علي طراد ... 15 تلميذا يكتبون رواية جماعية تصدرها دار خريّف    برشلونة يهزم ريال سوسيداد ويصعد للمركز الثاني في البطولة الإسبانية    الاحتفاظ بنفرين من أجل مساعدة في «الحرقة»    هام/هذه نسبة امتلاء السدود والوضعية المائية أفضل من العام الفارط..    مع الشروق ..صفعة جديدة لنتنياهو    عشرات القتلى والجرحى جراء سقوط لوحة إعلانية ضخمة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    نابل..تردي الوضعية البيئية بالبرج الأثري بقليبية ودعوات إلى تدخل السلط لتنظيفه وحمايته من الاعتداءات المتكرّرة    جراحة التجميل في تونس تستقطب سنويا أكثر من 30 ألف زائر أجنبي    نور شيبة يهاجم برنامج عبد الرزاق الشابي: ''برنامج فاشل لن أحضر كضيف''    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غزوة بدر الكبرى
نشر في الصباح يوم 06 - 09 - 2009

أعدّ سماحة الشيخ عثمان بطّيخ مفتي الجمهورية التونسية مقالا مستفيضا حول «غزوة بدر الكبرى» تتولّى «الصباح» نشره بمناسبة هذه الذكرى الدينية الخالدة.
لقد فضلنا الله تعالى بهذا الدين دين الإسلام وجعلنا أمة الإجابة لنبيه الكريم الذي اختاره ليخرج الناس من ظلمات الجهل الى نور اليقين والعلم والعقل والإيمان .
فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة ثلاثة عشرة سنة يدعو الناس لدين الله فلم يؤمن له إلا القليل، ولم يجد مع ذلك إلا الأذى والسخرية من قريش، وهو صابر ممتثل لأمر ربه قال تعالى: «فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل» (الأحقاف 35)، إلى أن أصبح المقام في مكة لا يحتمل، فهاجر بإذن ربه هو وأصحابه إلى مدينة يثرب أين وجد النصرة من أهلها والأمن والاستقرار، إلا أنّ قريشا لم ترض بهذه الهجرة، فعملت جاهدة على ملاحقة المسلمين ومطاردتهم أين ما كانوا، وسعت الى تأليب حلفائها من عرب ويهود وممن أسلم ظاهريا بالمدينة وبقي على ولائه لدينه وهم المنافقون يتزعمهم عبد الله بن أبي بن سلول .
في هذا الجو المملوء تحديا، كان لا بد للمسلمين من الدفاع عن أنفسهم والتصدي لقريش حتى لا يحيط بهم الأعداء. وتدخلت إرادة الله تعالى التي اقتضت أن ينتشر الإسلام وأن ينتصر رسوله، فكان الإذن بالقتال لنصرة المستضعفين ممن بقي من المسلمين في مكة ولم يقدر على الهجرة، ولصد العدوان عن المدينة، فنزل قوله تعالى: «أذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير» (الحج 39)، وقال جل ذكره «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل» (البقرة 190 -191 )، وقال تعالى: «ومالكم ألا تقاتلوا في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا» (النساء 74 -75 ).
فكانت غزوة بدر الكبرى التي حصل فيها أول صدام حقيقي بين المسلمين والمشركين انتهى بنصر مبين للمسلمين فرحوا به وارتفعت به رايتهم. وسميت بالكبرى لأنه سبقتها غزوة بدر الأولى، وتعرف بغزوة سفوان وهو واد من ناحية بدر، وسببها أن كرز بن جابر الفهري أغار على سرح المدينة (إبلها ومواشيها) فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ وادي سفوان دون أن يدركه.
وملحمة بدر الكبرى وقعت في شهر رمضان المعظم من السنة الثانية للهجرة، فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قافلة لقريش يقودها أبو سفيان قادمة من الشام بتجارة كبيرة في طريقها الى مكة يحرسها قرابة الأربعين رجلا، وكانت القوافل التجارية تمر بالقرب من المدينة ذهابا وإيابا بين مكة والشام، وهذا الممر له أهميته الاقتصادية فمن سيطر عليه تقوى مركزه وحاصر خصمه اقتصاديا وأضعف شوكته وسهل التغلب عليه. ففكّر النبي صلى الله عليه وسلم في شن حرب اقتصادية تحاصر قريشا وتمنعهم من التجارة، فخرج في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا قاصدا بدرا (موقع بين المدينة ومكة).
إفلات القافلة
ولكن أبا سفيان بن حرب توجس خيفة من المسلمين بعد هجرتهم وتوقع منهم نموا وقوة تساعدهم على حصار مكة، فبقي يترصد أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم. حتى بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، فأرسل الى مكة يستنفرها لنجدته ولتخليص أموالهم من أيدي المسلمين، واتخذ سبيلا آخر غير الذي يمر على بدر رجاء أن يفلت ممن يترصد له.
وجهزت قريش جيشا قوامه ألف رجل بسلاحهم وزادهم، فيهم أبو جهل عمرو بن هشام أشد أعداء الإسلام وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، خرجوا لنجدة أبي سفيان، إلا أنه بعث من يخبرهم بأنه تمكن من الابتعاد بالقافلة عن طريق بدر ويطلب منهم الرجوع، لكن أبا جهل أصر على الحرب وامتنع من الرجوع إلا بعد ملاقاة المسلمين ببدر قائلا: "والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليها ثلاثا فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل قبلهم وسيطر على البئر، وهو عنصر من عناصر التفوق وعامل من عوامل نصر المسلمين وضعف قريش وهزيمتها.
استشارة الصحابة
ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج قريش استشار من معه من المسلمين من المهاجرين والأنصار فقال له سعد بن معاذ من الأنصار: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، فقال سعد: فقد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ". وقال له المقداد بن عمرة من المهاجرين: "يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون» ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا الى برك الغماد (وهو أقصى اليمن) لجالدنا معك (أي قاتلنا معك بشدة) من دونه حتى تبلغه". فاستبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لهم بخير وتيقن بأن النصر معه مادامت كلمة المسلمين واحدة على نصرة الإسلام والجهاد في سبيله، ثم قال لهم: "سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر الى مصارع القوم".
وكان فريق من المسلمين يميل الى عدم الدخول في مواجهة عسكرية مع قريش ويودون الاستيلاء على القافلة فقط لأنهم لم يخرجوا للحرب ولم يستعدوا لها، وقد سجل القرآن الكريم موقفهم هذا في قوله جل ذكره «وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون» (الأنفال 7).
المسلمون في بدر
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ببدر بعيدا عن الماء في أرض سبخة، فأصبح المسلمون ولا ماء لهم وقد تمكن منهم الإرهاق، وفيهم من هو حديث عهد بالإسلام وكاد أن يضعف عن القتال، فأخذت الجيش سِنة من النوم وأمطرت عليهم السماء بماء منهمر فشربوا واغتسلوا وتلبدت الأرض مما أدخل عليهم النشاط والسكينة، قال تعالى «إذ يغشّيكم النعاس أمنة منه وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبّت به الأقدام» (الأنفال 11).
ولما كان معسكر النبي بعيدا عن الماء خشي بعضهم أن يسبقهم العدو إليه فسأل الحباب بن المنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذا رأي ثاقب قائلا: "يا رسول الله أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أو هو الرأي والحرب والمكيدة؟"، فقال صلى الله عليه وسلم : "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". فقال الحباب : " يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشرت بالرأي".
ثم قام النبي نحو الماء ونفّذ الخطة التي أشار بها الحباب، وهي صفحة رائعة من صفحات العظمة المحمدية تمثل سمو الأخلاق والتواضع والاستجابة للرأي الصائب وامتثالا للمبدإ الإسلامي العظيم الذي جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى: «وشاورهم في الأمر» (آل عمران 159).
هذا الموقف الرائع جعل المسلمين يزدادون حبا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويتفانون في الدفاع عنه وتقديم النصيحة له والإخلاص له في كل عمل يقومون به تحت إمرته.
وكانوا يجتهدون في الدفاع عنه والعمل على سلامته إذ قال له سعيد بن معاذ: "يا نبي الله ألا نبني لك عريشا (بيتا يستظل به) تكون فيه، ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحيينا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا ". فأثنى عليه صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. ثم بني للنبي صلى الله عليه وسلم عريشا فوق تل ليشرف منه على المعركة.
الاستعداد للمعركة
استعد المسلمون للمعركة كما ينبغي أن يكون الاستعداد، وقد أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه على تنظيم الصفوف، وأعطى أوامره بأن لا يبادروا بالهجوم حتى يأذن لهم في ذلك، كما شرح لهم طريقة القتال وأطوار المعركة بدقة، ثم رجع الى عريشه ليشرف منه على القتال .
وأقبلت قريش نحو الوادي في الصباح، صباح يوم الجمعة 17 من رمضان، فلما رآها صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم هذه قريش قد اقبلت بخيلائها وفخرها تعاديك وتكذّب رسولك، فنصرك الذي وعدتني به اللهم أهلكهم الغداة".
ولاحظ النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين القوتين وأنهما غير متكافئتين فخشي على أصحابه ورقّ لهم، فاستقبل القبلة وقال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد على الأرض أبدا"، فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأخذ أبو بكر بيده وقال: "حسبك يا رسول الله ألححت على ربك".
لقد ألح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وهو موقن بأن الله لا يضيّعه أبدا، إنما فعل ذلك امتثالا لأمر ربه لأن الله يحب من يلجأ إليه ويلح في الدعاء عند الملمات، وهو يرى أن لو هلكت هذه الجماعة وانتصرت قريش فسيقضى على هذه الأمة الفتية التي لم تستقر بعدُ أحوالها ولم يشتد عودها وهي تواجه مصيرها في أول لقاء حقيقي يجمع بينها وبين عدوها المتمكن من أسباب القوة من سلاح وتموين وحلفاء. وكان أخشى ما يخشاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضعف المسلمون أمام عدوهم وينكشفوا فيفشلوا وينهزموا.
لكن الله تعالى أنزل قرآنا بشّر به الرسول والمسلمين بالنصر وبالمدد من الملائكة تقاتل معهم حتى النصر، قال تعالى «إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبّت به الأقدام إذ يوحي ربك الى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب» (الأنفال 7 وما بعدها).
وبدأت المعركة بمبادرة من قريش وبتحريض من أبي جهل بعد أن فشلت محاولة تجنب الصراع قام بها نفر من عقلاء قريش. بدأت بمبارزة ثلاثة من صناديدها وهم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد، لثلاثة من المسلمين وهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، انتهت بانتصار هؤلاء الثلاثة المسلمين القريشيين.
ثم تزاحف الناس وحميت المعركة والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويناشده النصر، ويحرض المؤمنين على القتال وهو يقول وهو الصادق الأمين: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة".
وكان تأثير ذلك في نفوس المؤمنين قويا فدخلوا المعركة وقد امتلأوا إيمانا وعزموا على أن لا يتقهقروا مهما كانت نتيجة المعركة، فإما النصر أو الشهادة، واندفعوا يقاتلون عدوهم غير مبالين بعدده وبطشه. من ذلك أن أحد الصحابة وهو عمير بن الحمام كان في يده تمرات يأكلهن فقذف بها أرضا لما سمع مقالة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء"، وأخذ سيفه فقاتل حتى نال الشهادة.
ولما حمي الوطيس نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانه واشترك في المعركة يحرض الناس على القتال والثبات وهو يتلو قول الله تعالى «سيهزم الجمع ويولّون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر» (القمر 45- 46). قال علي كرم الله وجهه: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله وهو أقربنا من العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا".
أما قريش فإنها لما اشتدت المعركة ضعف أمرها ودبّ في صفوفها الرعب خاصة بعد مقتل عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وابنه الوليد، وأصابتها الفوضى.
وقد سجل القرآن حالهم وما آل إليه أمرهم أثناء المعركة، يقول الله تعالى «وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب» (الانفال 48). فقد أشارت هذه الآية الى أمر عجيب كان من أسباب خذلان قريش إذ صرف الله كيدهم عن المسلمين حين وسوس الشيطان لسراقة بن مالك ليخرج مع قومه من بني كنانة لنصرة المشركين له فألقى الله في روعه من الخوف ما أوجب إحجامه ومن معه من قومه عن مد يد المساعدة لقريش بعد أن وعدهم بالوقوف معهم وشجعهم على القتال وقال لهم: "لا غالب لكم اليوم وإني ناصركم مع قومي". لكنه لما تقارب الجمعان تراجع سراقة بمن معه وانطلق قائلا لهم: إني أرى ما لا ترون .
يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: "وكان خاطر رجوع سراقة خاطرا ملكيا ساقه الله إليه، لأن سراقة لم يزل يتردد في أن يسلم منذ يوم لقائه رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة حين شاهد معجزة سوخ قوائم فرسه في الأرض وأخذه الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم يوم الفتح في السنة الثامنة من الهجرة".
في الأثناء كانت هناك طائفة أخرى من الناس أسلموا ظاهرا ولكنهم يبيّتون العداوة والبغضاء للمسلمين ويتربصون بهم لينفصلوا عنهم، ولما خرج المسلمون لبدر في قلة مستضعفة ورأى المنافقون قوة المشركين جاهروا بعداوتهم للرسول ومن معه وانحازوا لقريش معتقدين أن الهزيمة لا محالة واقعة بالمسلمين وأن النصر حليف الجانب القوي واستقبحوا فعل المسلمين والإلقاء بأنفسهم للتهلكة حسب زعمهم ووصفوهم بالغرور وقلة التدبير وأن اعتقادهم في هذا الدين هو الذي أوقعهم في هذا الغرور. وقد فضح الله أمر المنافقين والذين لم يتمكن الإيمان منهم وأنزل فيهم قرآنا يتلى قال تعالى: «وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم» (الأنفال 49). وقد سفّه الله رأيهم وأعلم الناس جميعا أن عنايته تعالى محيطة بالمسلمين وأن من يسلم أمره لربه ويفوض إليه شؤونه فإنه ناصره لأنه عزيز لا يُغلب حكيم يُكوّن أسباب النصر من حيث يجهلها البشر، لذلك ختم الآية بقوله «ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم» (الأنفال 49).
انتهاء المعركة
دار القتال بين الطرفين ساعة من النهار ثم انتهت المعركة بهزيمة حادة للمشركين رغم قوتهم الظاهرية، ونصر ساحق أحرزه المسلمون.
وأسفرت المعركة عن استشهاد أربعة عشر رجلا من المسلمين، وهلاك سبعين من قريش، وأسر منهم سبعون أيضا، وغنم المسلمون غنائم عظيمة .
وكان ممن قتل في هذه الموقعة رأس الفتنة لهذه الحرب أبو جهل عمرو بن هشام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى المشركين أن يطرحوا في القليب وهو البئر ولما أُلقوا وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه أصحابه يقول: "يا أهل القليب يا عتبة بن ربيعة يا أبا جهل (فعدد من كان منهم) هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوما قد جُيّفوا؟ قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني".
أما الأسرى فافتدتهم قريش بالمال، ومن لم يكن معه مال للفداء وهو يحسن القراءة والكتابة أعطوه عشرة من صبيان المدينة ليعلمهم وكان ذلك فداءه. ومن هنا يعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم أول من كافح الأميّة وسعى الى نشر العلم والمعرفة.
هذا وقد امتن الله على المسلمين بهذا النصر المبين الذي كان فاتحة عهد جديد، يقول الله تعالى «ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون» (آل عمران 123). والمراد بالذل هنا الضعف والوهن وهو ضد العز.
وصايا الله تعالى للمسلمين أو شروط النصر
بيّن الله سبحانه للمسلمين شروط النصر وأوصاهم باتباعها في كل معركة فإن ذلك كفيل بترجيح كفتهم وانهزام عدوهم مهما كانت درجة التفاوت بينهم. هذه الوصايا جاءت في قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين» (الأنفال 45 - 46). وقد احتوت هاتان الآيتان على خمس وصايا:
أولها: الثبات أمام العدو والمراد به عدم الفرار والدوام على القتال وهو المقصود بالصبر، وفي الحديث الصحيح: "لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا ".
ثانيها: ذكر الله وذلك باللسان المتضمن ذكره بالقلب وزيادة، حتى يعلم المسلمون وينتبهوا الى أن النصر من عند الله تعالى، وفيه تقوية للإيمان وطرد لوساوس الشيطان المؤدية للضعف والفرار.
ثالثها: طاعة الله ورسوله وهي تشمل اتباع سائر أحكام القتال المشروعة من الله في كيفية قسمة الغنائم ونحوها، ومنها اتباع الخطط التي يضعها الرسول من آراء الحرب وعدم مخالفته. وتشمل طاعة أمراء الجند الذين يبعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعة من يأتي بعدهم من قواد جيوش المسلمين، أي بصفة عامة الأمر بالانضباط والتقيد بأخلاق الإسلام التي تأمر بعدم الاعتداء على الشيوخ والنساء والأطفال والعجز وعدم التعرض لمكاسبهم وعدم الحرق والقطع للغراسات وشبه ذلك مما يتنافى وتعاليم الإسلام.
رابعها: النهي عن التنازع لأن ذلك مدعاة للفرقة والفشل والانقسام، وهذا النهي يستلزم التفاهم والتشاور ومراجعة بعضهم البعض حتى يصدروا عن رأي واحد ويكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وقد علمهم الله كيفية فض نزاعاتهم بقوله جل شأنه «ولو ردوه الى الرسول والى أولي الأمر منهم» (النساء 83)، وقوله تعالى «فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول» (النساء59) . وقد بيّن الله نتيجة التنازع والتشتت والخلاف وآثار ذلك السيئة بقوله «فتفشلوا وتذهب ريحكم» أي فتزول قوتكم ونفوذ أمركم وهو ضعف ووهن للأمة يمكّن منها أعداءها.
خامسها: الصبر وهو تحمل المكروه وما هو شديد على النفس والصبر يعم نفعه المرء في خاصة نفسه وفي علاقته مع أصحابه ويسهّل عليه العمل بما تقدم من الشروط. وأما نتيجته النهائية فهي إعانة الله للصابرين الممتثلين لتعاليمه.
وهذه الوصايا نجدها قد حققها المسلمون في موقعة بدر بدقة متناهية فكانت النتيجة كسبا عظيما لهم وانتصارا باهرا رفع شأنهم بين القبائل العربية وصاروا قوة يخشاها الناس ويرهبون جانبها.
دروس وعبر
معركة بدر تعتبر تحولا عظيما في حياة المسلمين أخرجهم من عهد الخوف والضعف والحاجة الى عهد الأمن والعزة والقوة والغنى.
كما أصبح المسلمون يسيطرون على طريق التجارة فكانت قوافل مكة تخضع لمراقبتهم مما أضعف خصومهم شيئا فشيئا، وصار المسلمون بعد هذه المعركة قوة اقتصادية لها تمويلاتها الذاتية لتسديد نفقاتهم العسكرية والمدنية .
ودخل العرب في دين الله أفواجا بعد أن تسامعت القبائل البعيدة بهذا النصر. أما قريش فقد سقطت هيبتها وبدأت تفقد مكانتها بعد أن كانت تمثل أقوى القبائل وأشرفها.
وإن أهم نتيجة حققتها غزوة بدر الكبرى وأعظمها هي انتصار عقيدة التوحيد والإيمان بالله الواحد، على عقيدة الشرك والوثنية وعبادة الأصنام التي كانت سائدة في ذلك التاريخ حيث تعددت الآلهة المختلفة والتي تمثلها أصنام خرساء لا تنفع ولا تضر صنعها عبّادها بأيديهم زعما منهم أنها تقربهم الى الله زلفى أو أنها ترمز الى ذاته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. بل هي تضر قطعا لأنها تبعد الإنسان عن عبادة خالقه الحقيقي وتسقطه في متاهات الجهل والظلام والضلال.
وبعد هذه الغزوة المباركة تتالت الحرب سجالا بين الوثنية والتوحيد الى أن تحقق النصر نهائيا للإسلام وذلك بفتح مكة، وكان ذلك إيذانا ببداية الانتشار الحقيقي لدين الله، وتحقق ما وعد الله به عباده الصادقين. ودخل الناس في دين الله أفواجا وقد كمل الدين، وبذلك سقطت عبادة الأصنام التي انتشرت لا في الجزيرة العربية وحدها بل في كامل أرجاء العالم القديم. وصدق الله العظيم القائل «إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد» (غافر51).
ونحن في تونس نحتفل بذكرى بدر العطرة المتزامنة هذا العام مع الاحتفال بترشيح سيادة الرئيس زين العابدين بن علي لرئاسة جديدة، في جو بهيج انشرحت فيه القلوب واطمأنت النفوس في هذا الشهر المبارك شهر التقوى والعمل الصالح والذكريات المجيدة.
واستنارت بيوت الله بتلاوة القرآن الكريم سيما بعد اللفتة المباركة من لدن سيادة الرئيس زين العابدين بن علي الذي أمر بأن يتلى كتاب الله صباحا مساء في جامع الزيتونة المعمور وفي جامع عقبة بن نافع بالقيروان، وذلك بلا انقطاع، وهذه من مآثره الخالدة، إضافة الى ما يقوم به سيادته من عمل صالح ونبيل يقوّي رابطة الأخوة بين التونسيين ويعمل على نشر المحبة والتكافل والتضامن وإشاعة الرحمة والخير بينهم مشرفا بنفسه على تفقد أحوال شعبه ليطمئن على من كان في أشد الحاجة الى الرعاية والعون.
فبإحياء هذه الذكريات المجيدة الإسلامية والوطنية، وبنشر العلم والمعرفة تتفتح القلوب والعقول إلى كل ما يقوّي هذه الأمة ويبعث فيها الشعور بالمجد والكرامة ويحفزها على البذل والعطاء فتبقى تونس منيعة حصينة قوية. فجزاه الله بأحسن مما قدم وبذل من جهد وعمل صالح.
فاللهم يا عظيم الرجاء نسألك في هذه الليلة المباركة بحرمة نبيك الكريم أن تسدد خطانا جميعا، وأن توفقنا لما تحبه وترضاه، وأن تتقبل منا الدعاء والصيام والقيام. ونسألك أن تحمي بلدنا وسائر بلاد المسلمين، وأن تجعل بلدنا في حمايتك ولطفك الخفي، وأن تديم علينا سوابغ النعم الظاهرة والباطنة مع السلامة والعافية والاستقرار والازدهار، بقيادة بطل التغيير الميمون سيادة الرئيس زين العابدين بن علي حفظه الله، بحرمة القرآن.
آمين يا رب العالمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.