تونس الصباح: بعد لافاليت بمالطا، وهي ميناء الانطلاق بالنسبة إلى سفينة «لاميز» التي تحمل على متنها مجموعة من الكتّاب والشعراء والفنّانين والبرلمانيين والسياسيين في رحلة أطلق عليها اسم «أوليس 2009». وصلت السفينة إلى تونس في زيارة تمتدّ ثلاثة أيّام 11 و12 و 13أكتوبر الجاري من أجل إقامة مجموعة من اللقاءات والندوات يؤثثها هؤلاء الكتاب الذين ينتمون إلى المتوسّط بالإقامة أو بالثقافة. أوّل هذه اللقاءات احتضنه كولاج الفلسفة الدوّلي بنهج المرّ بتونس العتيقة مساء الأول من أمس، وحضره جمهور كبير لم تستطع القاعة المخصّصة للتّظاهرة أن تسعه، وهو جمهور مكوّن في أغلبيته من «الفرنكوفونيين». وقد استهلّت مديرة المكان الروائية واستاذة الفلسفة هالة الباجي، سلسلة التدخّلات في كلمة، يمكن أن نضع لها عنوان «هم ونحن»، ركّزت فيها على تعريف المتوسّط، متسائلة عن ماهيته، هل هو مكان أو زمان أو ثقافة أو تاريخ أو جغرافيا أو فلسفة لتخرج بتعريف خاصّ مفاده أنّ المتوسّط مسار. وقد ضمّنت مداخلتها جملة من المواقف الفكرية التي يمكن أن نختصرها في كيفية تمثّلنا للمتوسّطية وضرورة النّظر إليها نظرة إيجابية وتفعيلها بما يخدم أبناء المتوسّط في ضفافه. «كامو» واولوية الثقافي «دانيال روندو» سفير فرنسا بمالطا ومنظّم الرّحلة تحدّث تمهيدا لمداخلة «جان دانيال» حول «ألبير كامو» وعن مفهوم الهويّة وعن المتوسّط باعتباره فكرة مطلقة يمكن تأويلها بشكل ثقافي وتثمينها انطلاقا من ذلك حتّى تكون عامل التقاء لا عامل تفرقة بين المجموعات البشرية التي تعيش حوله وبين مختلف الحضارات التي تعاقبت عليه. وفي سياق حديثه عن مفهوم المتوسّط ذكر «ألبير كامو» ليؤكّد مقولته التي تنادي بوضع الثقافي داخل السياسيّ أي عدم الفصل بين الميدانين بل هما يتكاملان ويخدم الواحد منهما الآخر وختم مداخلته بمناشدة ألاّ يكون المتوسّط مقبرة في نبذ العنف والحروب والخلافات العرقية وغيرها. أمّا «جان دانيال»، الكاتب والصّحفي المعروف، فقد ارتجل مداخلته حول «ألبير كامو» الذي كان صديقا له إضافة إلى كونهما قد عاشا ذات الظروف في طفولتيهما الجزائرية. بعد أن تحدّث عن كتابه الأخير الذي صدر حديثا تحت عنوان «أهلي» والذي يقول في شأنه بأنّه عبارة عن ردّ جميل لأشخاص عرفهم في حياته من الكتّاب والمفكّرين والفنّانين وغيرهم ومن بينهم كامو الذي يضعه تحت راية الفخر واللّون، الفخر بالانتماء لقضيّة عادلة قضية الشعب الجزائري ولون الذّات المناضلة الباحثة عن الحقيقة، تلك الحقيقة التي يشير إليها «آلان» الفيلسوف الذي كان يكتب على السبّورة في بداية دروسه «يجب الذّهاب إلى الحقيقة»... ويعتبر «جان دانيال» «كامو» مفكّرا وكاتبا أكثر منه فيلسوفا، مفكّرا على الطّريقة الفرنسيّة، مستنيرا بأسلافه «كأندري جيد» «وباسكال» و«سيمون فاي» التي سيزور «كامو» قبرها عندما يعلن عن فوزه بجائزة نوبل للآداب كاعتراف لها بجميل قديم. وهنا يقول «دانيال» إنّه فرح بفوز «ألبير كامو» بهذه الجائزة فرحا كبيرا كما لو أنّ الفائز واحد من عائلته وأنّه أرسل له يهنّئه بالمناسبة ثمّ ذهب إليه والتقيا في مطعم بباريس وهناك قال له كامو جملة أثّرت فيه كثيرا هي «عد إلى ديارك» معتبرا إيّاها دعوة إلى الانطلاق من الماضي لرؤية الحاضر، وكأنّها تذكير بموقفيهما المتضادّين من القضيّة الجزائريّة. ولم يغب عن مداخلة جان دانيال التساؤل حول المتوسّط وحقيقة وجوده الفعلي معتبرا أنّه يوجد في الأدب أكثر منه في الواقع. البحّار المالطي أمّا «فرنسوا هارتوغ» فذهب في مداخلته التي اتّسمت بسيطرة الفلسفي في أغلب فقراتها على سائر الأبعاد الأخرى إلى المنطلقات الميتافيزيقيّة للتفكير الانساني والتنظير الأوّل داخل النّصوص المقدّسة أو المؤسّسة معتبرا في شيء من الانزياح التأويل الخاطئ مصدرا من مصادر الصدامات الحضارية الماضيّة أو الحاضرة في إشارة خفيّة إلى الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. «تاكيس ثييودروبولوس»، وهوكاتب يونانيّ، نظر إلى المتوسّط باعتباره مهد رحلات خلّدها المؤرّخون والفلاسفة والكتّاب معرّجا على أسطورة «أوليس» ذاكرا أنّ هذه الشخصيّة الخيالية التي نسجها الفكر الإنساني قامت برحلتها دون رغبة منها ولكنّها أحبّت ما قامت به من أفعال وعشقت البحر وكانت تحدّث حورياته بكثير من الحماسة والعشق. ثمّ تعرّض للصراعات الناشئة في هذا الحوض البحري لاسيما الصّراع التركي اليوناني الذي يقول في شأنه بأنّه لم يرق دماء في حين أنّ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي صراع دمويّ يذهب أبرياء ضحيته كلّ يوم. ولعلّه ينادي بالوقوف في وجه هذا العدوان الدّائم و ينشد إرساء السلام والإخاء. من المتدخّلات في هذا اللّقاء الأوّل ل «أوليس 2009» ريميكا كريمونا وهي مخرجة سينمائية مالطية شابة وتحدّثت بالأنقليزية عن شريطها الجديد الذي يروي حكاية بحّار مالطي وابنه وكيف انتهت بهما الرّحلة إلى شواطىء ليبيا بشكل مأساويّ، حيث ذهب في ظنّ الأهالي هناك أنّهما من المسافرين غير الشرعيين فلم يقدّموا لهما العون اللاّزم وهي تثير بذلك مشكلة «الحرقة» هذا المصطلح الذي يشير في الحقيقة إلى النّار والحال أنّه يقع في الماء الذي يطفئ الحرائق في الواقع. الف ليلة وليلة في آخر اللقاء طلبت «هالة الباجي» من الشاعر «صلاح ستيتية» أن يقدّم كلمة. فكانت مداخلته من باب الحكايات الرّمزية فقد اختارحكايتين، واحدة من ألف ليلة وليلة وهي تلك الحكاية التي يسافر فيها أحد المصريين إلى العراق بعد حلم رآه بأنّه سيجد كنزا في العراق وهناك يضيق به الحال إلى درجة تدفعه إلى سرقة رغيف خبز وحين يقف أمام القاضي ويروي له حكايته يقول له القاضي بأنّه رأى بدوره حلما يرى فيه نفسه يسافر إلى مصر ليجد هناك كنزا مدفونا في مكان معيّن يصفه بدقّة. فانتبه المصريّ إلى أنّ المكان الذي وصفه القاضي ليس إلاّ بيته في مصر وحين يعود إليه يحفر تحت نخلة بيته فيجد الكنز. والمعنى في هذه الحكاية كما في الحكاية الثانية هو أن نحبّ ديارنا الحبّ الذي يفتح أعيننا على كنوزه التي لا يمكن أن نراها إن كانت الكراهية تملأ أعيننا وقلوبنا، وكذلك شأن بلدان البحر المتوسّط. يمكن اعتبار هذا اللقاء الأوّل، فاتحة مشجّعة لمجموع اللقاءات والندوات التي سيؤمّنها رحّالة «أوليس 2009» بكتابها ومثقّفيها وسياسييها وفنّانيها الذين يمتلكون كلّ المواصفات ليكونوا سفراء سلام ثقافي بين دول البحر المتوسّط وليساهموا في التقارب الحضاري والحوار الموضوعي حول مختلف القضايا ذات الشأن المشترك تاريخية كانت أم في حاضرنا اليوم وما أكثرها.