مرّ 13 شهرا على رحيل الشاعر الكبير الميداني بن صالح وتخليدا لذكراه انتظمت مؤخرا بالمكتبة العمومية بنفطة التي تحمل إسمه والتي تضمّ جلّ كتبه الخاصّة والتي أهداها لأبناء مسقط رأسه في حركة نبيلة وواعية، وبهذا تتدعّم المؤسّسات الثقافية بنفطة في مجال المكتبات لتصبح ثلاثة منها واحدة خاصة بالأطفال. الذكرى الأولى لوفاته كانت فرصة لمزيد الكشف والتنقيب في أغوار هذه الشخصية التي أثارت ولا تزال كثيرا من الجدل في الأوساط الثقافية بما تتوفر عليه من جوانب تستدعي في الواقع معالجة من المختصين والنقّاد ومتتبعي الحركة الثقافية في بلادنا لكون هذه الشخصية تتميّز بفرادة وخصوصيات معيّنة قلما تتوفر في الآخرين. هذه الخصوصيات تتجلى في شخصه هو كإنسان سواء في علاقاته بالآخرين أو في حياته اليومية أو العائلية وروابطه بمسقط رأسه. ثمّ تاريخه النضالي والسياسي والذي يتوفّر على زخم كبير ومحطات تعتبر مفاصل تاريخية تستحق الدرس والتمحيص باعتبار علاقاتها وتأثيرها فيما لحق من مجريات واحداث. وأخيرا رصيده من الانتاج الشعري والفكري ومساهماته الفاعلة في دفع العمل الثقافي في كامل ربوع تونس. لهذا تعتبر الندوة السنوية التي ستنظم حول هذه الشخصية المتفرّدة ذات أهمية كبيرة باعتبار النتائج التي ستخلص اليها سبرا لمجاهلها وأغوارها حتّى يستفيد منها شبابنا وأجيالنا القادمة.. ولهذا تمت دعوة بعض الأدباء ممن عرفوا الفقيد عن كثب ليدلوا بشهاداتهم حول الفقيد وتنظيم معرض وثائقي حوله يبرز مواقف وجوانب مهمة من حياة الفقيد. وكانت كلمة الافتتاح للأستاذ جمال الدين الشابي المندوب الجهوي للثقافة والمحافظة على التراث الذي وضع الجلسة في إطارها وتحدّث عن عراقة وقدم الأدب والشعر بهذه المدينة التي أنجبت فطاحل من الشعراء والأدباء، ثم استعرض المحطات الثقافية التي أسسها الفقيد كالأيام القصصية لبشير خريّف وربيع الإبداع التلمذي إلى جانب وجود مهرجان الشعر العربي الحديث بالجريد، وقد وعد بالعمل على أن تكون هذه الذكرى وطنية لمزيد الإشعاع، وأكّد بأنّ هذه الجلسة هي بادرة خير للمستقبل وأوصى بمزيد العمل على تحقيق الانسجام والتكامل بين الهياكل الثقافية والمثقفين، كما أكد على حرصه على مزيد دعم هذه المكتبة بمختلف الكتب والدوريات. الرّوائي ابراهيم الدرغوثي الذي يحضر بصفته مساعد الرئيس اتحاد الكتاب التونسيين أعرب عمّا ناله من شرف لحضور هذه الجلسة لاعتبارات مختلفة أهمها انتماؤه لهذه المنطقة ثم الصداقة والأخوة التي ربطته بالفقيد والتتلمذ نضاليا على يدي هذا العَلَم. وأكّد أن شخصية الفقيد بما توفّرت عليه من متناقضات جعلت المواقف والرّؤى تختلف حوله وهذا ليس عيبا باعتبار أن مواقف وعواطف وتصورات الناس تختلف من واحد لآخر، وهذا لن يزيد شخصيته الا عمقا واتساعا.. ولأنّه مثقف واع جُبِل على احترام كل المواقف فإنه يحب حتى من يختلف معه.. ومعياره الوحيد العمل والنشاط... وهذا يحسب له... الشاعر محمد الأمين الشريف رئيس فرع اتحاد الكتاب بتوزر وصديق الفقيد قدم شهادة حيّة عن علاقته بالفقيد التي انطلقت أثناء جلسة نقابية منذ أكثر من تسعة وعشرين سنة بمدينة قفصة وبقيت هذه العلاقة متينة ومتوهجة حتى مماته رغم ما مرّ بها من عواصف وأحداث اجتماعية وسياسية مختلفة واستعرض الشريف بعض المواقف الطريفة للفقيد كما أضاف بعض الإفادات التاريخية حول مسيرته. الأديب والقاص أحمد الفهيري الذي تربطه بالفقيد علاقة وطيدة قدم ورقة (شهادة) دوّن فيها مواقف الفقيد وذكرياته معه وقد قسم مداخلته إلى ثلاثة محاور: 1) الميداني بن صالح الإنسان: استعرض المتدخل ما تتميّز به شخصية الفقيد من تحدّ ومغامرة وتطلع دائم إلى المستقبل وأبرز عمقها وتشعبها والتناقض الذي يعتريها في بعض الأحيان وهو ما يستدعي جُهدا لسبر أغوارها والكشف عن المواطن المضيئة فيها وهذا طبعا من عمل المحللين والمختصّين... كما بيّن أنه يمتلك ثقافة واسعة تجعله إذا اعتلى المنابر تخرج الكلمات من فمه مطواعة وطيّعة مسترسلة مدعّمة بالحجج والمنطق. كما أكّد نشاطه الدؤوب الفطري وتميّزه بالمثابرة والإصرار للوصول الى الغايات التي يصبو إليها وهي غايات تصب كلّها في بوتقة المصلحة العامّة. 2) الميداني بن صالح المناضل: استعرض المتدخّل في هذا الجانب جلّ المحطّات النضالية التي شارك فيها الفقيد بدءا من مشاركته وهو لا يزال تلميذا بالزيتونة في المطالبة بتجديد التعليم الزيتوني وتزعمه الطلبة التونسيين والمغاربة صٌُلب الاتحاد العام لطلبة تونس في بغداد ومساعدته الحركة الطلابية السرية العراقية في عهد نوري السعيد المعروف ببطشه وظلمه. مرورا بنضاله داخل الاتحاد العام التونسي للشغل طيلة 40 سنة، كما ساهم في تأسيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان عام 1977 وتحمل بها مسؤولية النائب الأوّل لرئاستها وساهم في تأسيس اتحاد الكتاب التونسيين سنة 1971. 3) الميداني بن صالح الشاعر والمثقف استعرض المتدخّل مؤلّفات الفقيد التي وصلت أربعة عشر مؤلفا توزعت بين الشعر والمسرحية الشعرية والتاريخ والكتابة للأطفال، كما أبرز أن الشعر لم يكن عند الفقيد ترفا فكريّا ولا سياحات رومنسية بل كان موقفا والتزاما وقد تجلى ذلك في كتاباته عن الفقراء والمطحونين وعن معاناة الإخوة الفلسطينيين وعن العراق الجريح والمهدّد بالانقسام والتشرذم. وباختصار كتب ككل الشعراء العظام عن كل ما يشغل الانسان بصفة عامة وخاصة منه الانسان العربي بنفس شعري جديد وهو هنا يذكّر بمسيرة شاعر فرنسي كبير ألا وهو «لوي أراقون». واختتم الشهادات والمداخلات الشاعر محمد عمار شعابنية الذي عوّدنا بتدخلاته الطريفة وحتى رسومه الكاريكاتورية لبعض المشاركين، وفي هذه المرة ارتجل كلمة ترك فيها لذكرياته مع الراحل تتداعى موقفا موقفا ومشهدا مشهدا وكان موقف الفقيد معه في بداية شبابه وهو بإحدى المستشفيات بالعاصمة لإجراء عملية جراحية أكثر المواقف تأثيرا والتي لن ينساها أبدا حيث روى شعابنية أنه لم يكن يعرف الميداني معرفة جيّدة ورغم ذلك فقد زاره بالمستشفى حين علم به وقدّم له باقة ورد وأوصى به خيرا... وبعد هذه المداخلات أو الشهادات تدخل بعض الحاضرين الذين تحدّثوا في العديد من الجوانب والمواضيع ومن أهمّها: * جعل هذه الذكرى سنوية والاستعداد لها تنظيميا ببعث لجنة لضبط البرنامج والإشراف على الإنجاز. * مزيد دعم المكتبة بمختلف الكتب والمراجع (تجدر الإشارة هنا أنّ الأستاذ نزار بن صالح نجل الفقيد قد أهدى المكتبة خلال هذه الذكرى مئات الكتب المتنوعة). * تركيز لافتة كبيرة فوق الباب الخارجي للمكتبة ولافتات توجيهية لتسهيل الوصول اليها. * طبع الأعمال الكاملة للفقيد...