تبدو إيران في وضع لا تحسد عليه، فجميع جبهاتها مفتوحة في آن معا، والاحتمالات كلها ممكنة على هذا الصعيد أو ذاك، وسط توقعات بأن يكون العام القادم، عاما إيرانيا خالصا.. ورغم أن بعض التحاليل، تشبه ما يجري حاليا في شوارع طهران، بالوضع الذي سبق الثورة على الشاه، فمن المؤكد أن الظروف غير الظروف، وطبيعة الحكم في إيران اليوم غير ما كانت على عهد رضا بهلوي.. لكن ما تجدر ملاحظته حقيقة أن شيئا ما يتحرك في المياه الإيرانية التي لم تركد أبدا منذ قيام الثورة في العام 1979.. الشرارة الأولى.. مثلت الانتخابات الرئاسية الماضية، الشرارة الرئيسية لغضب قسم من الشعب الإيراني، الذي اعتبر النتائج المعلن عنها، مزوّرة ولم تحترم إرادته، وسط قناعة لدى هؤلاء بأن التيار المحافظ (الحاكم) قد مكن الرئيس الحالي، أحمدي نجاد من فترة رئاسية جديدة، كانت تبدو - في نظرهم - من حق المرشح الإصلاحي، مير حسين موسوي.. وهو ما تسبب في غضب عارم، ترجمته المظاهرات الشعبية في شوارع العاصمة وضواحيها.. لم يأبه النظام الإيراني بملاحظات بعض »أركانه« من التيار الإصلاحي، مثل الرئيس السابق، محمد خاتمي، والمرجع الديني البارز، آية اللّه منتظري، والشيخ مهدي كروبي وغيرهم، ممن انتقدوا نتائج الانتخابات، وطريقة تعاطي الحكومة مع ردود الفعل الشعبية، وكان التعويل على عامل الوقت لامتصاص غضب الشارع الإيراني، أكبر من الرغبة في فهم مدلول هذا الغضب واتجاهاته والأفق الذي يمكن أن يذهب إليه.. وهكذا تدحرجت كرة الغضب باتجاه مناطق وولايات أخرى، على غرار تبريز واصفهان ومشهد وقم.. وبدلا من التعاطي معها بالحوار، كانت قنابل الغاز المسيلة للدموع، وأعمال العنف، هي السباقة، ما أدى إلى تأجيج الفتيل بدل نزعه وإطفاء لهيبه المتصاعد أصلا... ظرفية محلية معقدة.. ولا شك أن »سرقة الانتخابات«، كما يسميها بعض المراقبين، لم تكن سوى القطرة التي أفاضت كأس الإيرانيين المليء بالإحتقان والغضب، جراء الوضع الاجتماعي المتدهور، وتدني الدخل الفردي، وتراجع القدرة الشرائية للمواطن الإيراني، بعد نحو عقدين أو أكثر من تداعيات العقوبات الاقتصادية الغربية على طهران.. فثمة أزمة استفحلت في المجتمع الإيراني، ولم يعد للخطاب الثوروي، ذلك الزخم القادر على تأجيل مطالب المجتمع والجيل الجديد الذي لم يعش حماسة الثورة، بقدر ما عاش ويلاتها ومشكلاتها وأفقها الذي يزداد ضيقا عاما بعد آخر، مع اتساع دائرة الطموحات الإيرانية، وهيمنة الأجندة الخارجية على الاستحقاقات الداخلية.. ومع أن منطق الثورة تآكل تدريجيا في غضون السنوات الأخيرة، كما أظهرته بعض ممارسات الحكم في إيران وخياراته »التطبيعية« مع أكثر من طرف في المشهد الجغراسياسي الدولي، إلا أن منطق الدولة لم يأخذ مساره الطبيعي، في ضوء صراع الأجنحة (المحافظين والاصلاحيين)، وهيمنة الفكر التوسعي، السياسي منه والعقائدي والاستراتيجي، كما تعكسه أجندة إيران وتحركاتها ومواقفها الخارجية.. محاور أساسية... والمتأمل في هذه الأجندة، يتوقف - من دون كبير عناء - عند مجموعة من النقاط الأساسية أهمها: * المخاوف الخليجية مما يسمى الهاجس التوسعي لإيران تحت يافطة »الخليج الفارسي«، سيما في ضوء احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث منذ أمد بعيد.. وهي مخاوف تشتد كلما قامت طهران بمناورات عسكرية في السواحل الخليجية، بحيث تنتقل بهذا الهاجس، إلى مستوى الرغبة في التوسع - كما ترى دول المنطقة -. * ما يتردد عن دور إيراني في التوتر الحاصل جنوب اليمن بين الحكومة والحوثيين، وهو دور بلغ بصنعاء حدّ رفض قبول مسؤولين إيرانيين للتفاوض أو حتى مجرّد التداول بشأن الصراع الدائر هناك.. * قضية »التشيّع« التي اخترقت البلدان العربية بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، ما نتج عنه بوادر صراع ديني وفقهي ومذهبي (طائفي) بات يتهدد العالم العربي والإسلامي، خصوصا البلدان المعروفة بمذاهبها السنية منذ نحو ألف وأربعمائة عام.. وهو ما جعل »التشيّع« بثقافته وتراثه وإشكالياته التاريخية المختلفة، مصدر قلق وانزعاج صلب أهل السنة، والبلدان التي تتمذهب بغير المذهب الشيعي.. * وإذا أضفنا إلى ذلك، الاستحقاق النووي الإيراني، الذي يقضّ مضاجع إسرائيل والدول الغربية والحكومات العربية، بما جعل من إيران »بعبعا« يخشى منه الجميع، يمكن القول أن طهران باتت على مرمى من »مخزون البارود«، أمام اتساع دائرة الرفض لسياستها في الداخل والخارج، وفي ضوء تصاعد التهديدات الصريحة والمبطنة التي تواجهها من قبل تل أبيب والولايات المتحدة، بل حتى من بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا تحديدا.. لحظة حاسمة إنها اللحظة الأشد وطئا على النظام الإيراني، لأنها المحك لأفق المرحلة المقبلة.. ويبدو أن الحكومة الإيرانية شعرت بذلك، ما يفسر الاتصالات التي أجراها رئيس مجلس الشورى الإيراني، علي لاريجاني مع المسؤولين المصريين مؤخرا، وتصريحاته باتجاه اليمن، حيث أعلن »استعداد طهران لمساعدة صنعاء على التصدي لقضية الحوثيين«، ورسالته مضمونة الوصول إلى الجانب الإماراتي، بكون قضية الجزر »جزئية« ولا بد من احتوائها عبر الحوار الثنائي« مع أبوظبي، إلى جانب حديثه عن »تفعيل الحوار العربي - الإيراني «، وسط أنباء تتحدث عن مسعى إيراني لإقامة تحالف استراتيجي، عربي-إسلامي، يجمع السعودية ومصر وتركيا وإيران وسوريا، بحيث يستهدف عصفورين اثنين معا: 1 - طمأنة دول الخليج ورموز الحزام العربي على عدم وجود خطر قادم من إيران.. 2 - ضمان طهران حماية عربية إسلامية ضد أي عدوان أو ضربة عسكرية تفكر فيها إسرائيل.. بمعني آخر، مقايضة إيرانية بمناعة الخليج والعالم العربي من »الخطر« الإيراني، ومناعة طهران إزاء أي خطر خارجي.. إنه »القِدْرِ« الإيراني الذي يغلي بشكل غير مسبوق، فهل تتمكن إيران من وضع حدّ لغليانه، أم يطفح القدر فَيُفْسِدُ ما بداخله، ويحرق من حوله؟