تونس الصباح:يعتبر الانشاد الديني الصوفي تعبيرة ثقافية تعكس تراثا له خصوصياته ومميزاته الفنية المعلومة وايضا احالاته الثقافية المحددة. ولقد ظل هذا الموروث محفوظا دائما بشكل او بآخر.. ففرق السلامية مثلا وايضا بعض المجموعات الانشادية العريقة (مثل فرقة المرحوم الشيخ بودية بصفاقس) ظلت «تشتغل» على هذا الموروث وتقدمه الى الناس عموم الناس وان كان ذلك في مناسبات دينية محددة. ولكن، ومع ظهور عرض «الحضرة» الشهير للثنائي الفاضل الجزيري وسمير العقربي في تسعينات القرن المنقضي اصبح الانشاد الديني الصوفي «موضة» فنية.. ذلك ان النجاح الجماهيري والفني الكبير الذي عرفه هذا العرض الانشادي الصوفي انتج من بين ما انتج عودة قوية من قبل عديد المجموعات الانشادية الى هذا الموروث الفني الانشادي الديني فتناسلت بذلك «الحضرات».. فهذه «حضرة» الفاضل الجزيري وهذه «حضرة» سمير العقربي وهذه «حضرة» الشيخ فلان وهذه «حضرة» الشيخ فلتان.. واصبحت كل «حضرة» تلد اخرى بالضرورة!!! وما من شك في ان المتتبع لكل هذه المحاولات، محاولات التعاطي مع الموروث الانشادي الديني الصوفي والاشتغال عليه يلاحظ انه ولئن توفق بعض اصحابها في تقديم عروض انشادية دينية فيها ما فيها من البحث والفرجة والتطوير فان البعض الآخر اكتفى بعملية الحفظ والترديد «الببغائي» مكتفيا في احسن الحالات بالباس عناصر مجموعته الانشادية الجبة والشاشية متوهما انه بذلك يكون قد وفر لعرضه جانب الفرجة ولمادة عرضه ابعادها التراثية! حضرة «جيناكم زُيّار» الاستاذ سليم البكوش هو استاذ موسيقى شاب وضع بدوره تصورا فنيا لعرض انشادي صوفي اطلق عليه اسم «حضرة جيناكم زيّار» هذا العرض شاهده مساء امس الاول جمهور مهرجان المدينة بفضاء حدائق قصر خير الدين وتفاعل معه أيما تفاعل لانه (الجمهور) وجد نفسه في حضرة عمل فني ولئن كان ينهل من الموروث الانشادي الصوفي فان صاحبه حرص على ان يجعل منه عرضا بمواصفات عصرية خاصة على المستويين الموسيقي واللحني فمن خلال مجموعة نوبات في مدح عدد من اولياء الله الصالحين من الرجال والنساء (سيدي علي الحطاب، السيدة عجولة، سيدي صالح، سيدي نصير.. وغيرهم) حلقت مجموعة سليم البكوش بالجمهور الحاضر ليلتها في أفق انشادي صوفي وروحي بقدرما هو متعال وسام هو قريب ثقافيا ووجدانيا من مهجة الجمهور وروحه.. فأولياء الله الصالحين هؤلاء الذين لا تخلو مدينة ولا بلدة ولا قرية سواء في الريف او الحضر من زواياهم ومقاماتهم يمثلون «جزءا» اصيلا من المخيال الثقافي والبناء الروحي لانسان هذه المدن والبلدات والقرى.. على أن اهم ما في عرض حضرة «جيناكم زياّر» للفنان سليم البكوش انها بدت على درجة كبيرة من الاجتهاد والبحث خاصة على مستوى المادة الموسيقية فقد حرص صاحبها على «التنويع» موسيقيا ولحنيا وهذا التنويع لا يبرزه فقط حضور بعض آلات الموسيقى الوترية ضمن الفرقة المصاحبة مثل الكمنجة والاورغ والقيتار وانما على مستوى التوزيع الجديد لالحان بعض النوبات التي انشدها منشدو المجموعة وكورالها.. وهي ألحان استطاع الفنان سليم البكوش ان يجمع فيها بين البعد الروحي والايقاع العصري دونما اي نشاز تقريبا لذلك لا بد من الاشادة بالطاقات الصوتية لمنشدي مجموعة حضرة «جيناكم زيّار» فجل منشدي المجموعة يتمتعون باصوات هي في نفس الوقت قوية وعذبة.