قم وانظر يا عمر المختار /عبث الثورية... والثوار /يا زارع ليبيا أمجادا /ياقاصم ظهر الاستعمار /قم وانظر كيف يخرب ما شيدت /ومن أعلى... ينهار... هذا مطلع لقصيد شهير للشاعر التونسي الكبير أحمد اللغماني الملقب «بمتنبي تونس» - لا فقط - لشموخ قامته وعلو موهبته الكبيرة التي ترتقي فعلا الى مستوى موهبة المتنبي الشعرية وانما أيضا لخصوصية العلاقة التي جمعته ( اللغماني ) - تاريخيا - بالزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وهي العلاقة التي تشبه - في بعض جوانبها - علاقة أبي الطيب المتنبي بسيف الدولة... فالشاعر الرومانسي التونسي الكبير أحمد اللغماني - أمد الله في أنفاسه - صاحب ديواني «قلب على شفة» و»سي الحبيب» الذي يعد اليوم أحد أبرز الشعراء العرب «المتمسكين بجماليات الشعر العربي في شكله ومضمونه» عرف - من بين ما عرف - بشغفه واعجابه الكبير بشخصية الزعيم الوطني ورجل السياسة المستنير والمثقف الرئيس الحبيب بورقيبة وعرفانه له بما قدمه لتونس من تضحيات الى درجة أن أثر ذلك على قسم كبير من شعره خلد من خلاله أفضال ومناقب هذا الزعيم الوطني الراحل... في مطلع ثمانينات القرن الماضي وفي غمرة «الهيجان الثورجي» للعقيد معمر القذافي شهدت مدينة قفصةالتونسية محاولة تمرد مسلح غادرة على النظام قادتها مجموعة من التونسيين ممن كانوا يقيمون بليبيا - آنذاك -... مجموعة جندتها وسلحتها المخابرات الليبية وتسللت الى المدينة لتعلن العصيان و»الثورة» على نظام الرئيس الراحل بورقيبة... وقد كان لهذه الحادثة بل لهذه المحاولة الانقلابية المتهورة والمستهترة بالكامل بكل قوانين وأعراف ومبادىء حسن الجوار بين البلدان وعدم التدخل في شؤونها الداخلية أثرها الكبير على العلاقات القائمة بين ليبيا القذافي وتونس بورقيبة... بمعنى بين نظام سياسي جمهوري مدني يؤسس لدولة مدنية عصرية وبين «حالة ثورجية» انقلابية ( ولا نقول نظام ثوري ) تقودها زمرة من العسكريين يتقدمها العقيد القذافي... ولأنه كان لابد لنظامين سياسيين مختلفين بالكامل وعلى هذه الدرجة الحادة من التناقض أن يتصادما فقد انطلقت الأجهزة الاعلامية والدعائية في كلا البلدين مباشرة بعد أن تمكنت السلطات التونسية من احباط هذه المحاولة القذافية الانقلابية الهمجية الفاشلة في حملات تشويه وتحريض اعلامي متبادلة وذلك من خلال مجموعة حصص اذاعية موجهة كانت تبثها الاذاعتين التونسية والليبية على امتداد ساعات الليل والنهار... من بين هذه الحصص الاذاعية واحدة ظلت تبثها يوميا وبانتظام الاذاعة الوطنية التونسية وكانت تفتتحها بالأبيات الأولى من قصيد «قم وانظر يا عمر المختار» للشاعر الكبير أحمد اللغماني الذي لم يكن طبعا - وبحكم حبه لبورقيبة ولتونس بورقيبة - أن يتخلف عن «معركة» اعلامية سياسية ثقافية من هذا النوع... قصيد أحمد اللغماني هذا الذي يقول مطلعه : قم وانظر يا عمر المختار عبث الثورية... والثوار يا زارع ليبيا أمجادا يا قاصم ظهر الاستعمار قم فانظر كيف يخرب ما شيدت ومن أعلى... ينهار قصيد أحمد اللغماني هذا - وبحسب شهادات أطراف ليبية من داخل النظام الليبي ذاته - لا فقط، استفز القذافي وزمرته وجعلهم يستشيطون غضبا بل وكذلك تحول بالبرنامج الاذاعي المذكور الى موعد «مقدس» يحرص الليبيون على الاستماع اليه وخاصة الى مطلع القصيد الذي يفتتح به...
«نبوءة» لغمانية
طبعا، نحن - هنا - لم نكن لنقلب مثل هذه المواجع والصفحات المظلمة في علاقة البلدين ( تونس وليبيا ) والتي عبث وأساء اليها نظام العقيد القذافي على مدى عقود وخاصة في فترة حكم الرئيس الراحل بورقيبة لولا جرائم الابادة الجماعية البشعة التي يرتكبها هذه الأيام نظام القذافي في حق المدنيين العزل من أبناء الشعب الليبي الشقيق... جرائم يستحي من ايتائها حتى أعتي المجرمين والقتلة... على أن ما يلفت الانتباه - هنا - والشيء بالشيء يذكر، أن قصيد «قم وانظر يا عمر المختار» الذي انتصر من خلاله الشاعر الكبير أحمد اللغماني للزعيم بورقيبة ضد العقيد القذافي بدا في جزء منه ومن خلال بعض أبياته وكأنه يتنبأ ببشاعة الجرائم التي يرتكبها اليوم القذافي وعصابته ومرتزقته في حق الشعب الليبي المنتفض ضد ديكتاتوريته وجهله وغبائه... وخاصة من خلال الأبيات التي تقول : بليت ليبيا وعروبتها بعتل منحرف جبار انقض بسكين الجزار وجاء بمسحاة الحفار وتربع فوق سرير من جثث لضحاياه الأبرار... الى ان يقول في موضع آخر من القصيد : لو تدري ما فعلته «الثورة» بالحرية والأحرار لكفرت بها وجزعت لما حملت لبلادك من أوزار ولعنت صباحا أغبر كان بداية عهد الاستهتار «الفاتح» من سبتمبر لم يفتح الا بؤرات العار... ثم... ماذا عسانا نقول، ونحن نقرأ اليوم هذه الأبيات ونشاهد في نفس الوقت فظاعات نظام القذافي و»الفاتح» من سبتمبر في حق اخواننا من أبناء الشعب الليبي سوى : لله درك يا احمد اللغماني... يا متنبي تونس... يا شاعرا كبيرا وطنيا شهما لم ولن «يقلب الفيستة».