قراران هامان اتخذا في غضون الأسبوع الجاري، وشكلا نقطة تحول شديدة الأهمية في تاريخ البلاد، سواء على صعيد المشهد الحزبي والسياسي، أو على مستوى بنية الدولة وهيكليتها، بل حتى هويتها السياسية... القرار الأول يخص إلغاء أمن الدولة و"حل البوليس السياسي"، وهو ما كان أعلن عنه وزير الداخلية قبل بضعة أيام، أما القرار الثاني، فيهم حل التجمع الدستوري الديمقراطي، عبر حكم صدر عن القضاء التونسي أمس الأول.. ولا شك أنّ هذين القرارين، يمثلان «رأس» المطالب التي رفعها شباب الثورة والنخب السياسية ومكوّنات المجتمع المدني، إلى جانب المعتصمين في القصبة، منذ الرابع عشر من جانفي، ما يعني أن استحقاقات الثورة، بدأت تأخذ طريقها نحو التجسيد الفعلي.. لكن ماذا يعني إلغاء أمن الدولة وحل البوليس السياسي؟ هل بإمكاننا القول أن الحياة السياسية والاجتماعية تخلصت من أدران هذا الجهاز وممارساته وجرائمه؟ وما الذي يعنيه حل التجمع الدستوري الديمقراطي، على الصعيدين السياسي والهيكلي؟ وهل أن حل الحزب ومصادرة أملاكه وأمواله، سينهي عمليا وجود «التجمعيين»، وهم بالآلاف في المؤسسات والإدارات ومختلف دوائر القرار في الدولة التونسية؟ ثم كيف سيكون المشهد السياسي والحزبي بعد حل التجمع؟ ألا يحدث ذلك فراغا في بنية الساحة الحزبية التي تعودت خلال 60 عاما (إذا شئنا التأريخ لما بعد الاستقلال)، على وجود الحزب وهيمنته وسطوته على الفضاء العام بكافة مكوناته؟ وهل أن الأحزاب الموجودة حاليا، بجميع توجهاتها السياسية والايديولوجية، قادرة على ملء هذا الفراغ السياسي؟ ألا يخلق ذلك حالة استقطاب جديدة كتلك التي كانت سائدة في البلاد بين الإسلاميين والتجمع في فترة ما، ثم بين التجمع و"المعارضة الديمقراطية"في مرحلة لاحقة من الحكم المخلوع؟ خلفية القرار يبدو قرار إلغاء أمن الدولة وحل البوليس السياسي، جزءا من «سياسة ترضية» لجانب واسع من الرأي الاجتماعي والسياسي من ناحية، وشكل من أشكال «النوايا الحسنة» بالنسبة للحكومة الانتقالية من ناحية أخرى. صحيح أن الأمر كان استجابة لضغوط شعبية ونخبوية شديدة ومتصاعدة، ولكنه كان قرارا ضروريا بالنسبة للحكومة، ليس لاستعادة ثقة شعبية مهزوزة في آدائها و"سلوكها" السياسي فحسب، وإنما لوضع حد أيضا، لنزيف من الجرائم والتجاوزات في حق الآلاف من التونسيين، والبدء في استعادة جزء من هيبة الدولة التي افتقدتها بفعل العنف الذي كانت تمارسه ضد مواطنيها والمختلفين معها سياسيا وفكريا.. فهي حينئذ «عملية جراحية» حتمية لكي يستعيد جسم الدولة جزءا من عافيته، وإعطاء الانطباع بأن عملية «الإصلاح» قد انطلقت بشكل جاد، ومن خلال تغيير المفاصل الرئيسية للدولة التسلطية وميكانيزماتها وأذرعها ومخالبها التي كانت تعدّ عنوان «قوتها» وجبروتها، على الأقل في نظر الفاعلين فيها ورموزها ومنظريها.. لكن هل أن قرار الإلغاء والحلّ، معناه إلغاء الجهاز ككل، أم هو قرار «رمزي» من الناحية السياسية والإجرائية؟ لا نعتقد ان القرار يعني بأي حال من الأحوال، إنهاء عمل أمن الدولة، إنما المقصود من ذلك، وضع حد لممارسات الجهاز وتدخلاته في الشأن العام بالكيفية التي كان يقوم بها قبل الرابع عشر من جانفي الماضي.. إنه نوع من «تغيير الوظيفة»، وليس استبدال الكيان، لأنه حتى الأنظمة الديمقراطية، تتوفر على أجهزة أمن الدولة، بل إن الدولة في مفهومها الحديث والمعاصر، لا يمكن ان تكون من دون جهاز يتولى أمنها، من حيث هو أمن المجتمع، وليس أمن بعض الشخصيات النافذة.. وهو الفرق الجوهري بين المفهوم الذي رسخ لدينا عن جهاز أمن الدولة، والمفهوم المعمول به في دول غربية عديدة وعريقة في النظام الديمقراطي... وإذن، نحن ازاء قرار سياسي وليس هيكليا، أي انه لن يمس بنية الأمن، بقدر ما يطول السياسة الامنية او جزء منها على الأقل، دون ان يعني ذلك، التقليل من أهمية القرار وتداعياته السياسية والاجتماعية والنفسية.. قرار سياسي على صعيد متصل، كان قرار المحكمة الابتدائية أمس الأول، بحل التجمع الدستوري الديمقراطي، قرارا سياسيا بكل معنى الكلمة، بصرف النظر عن مصدره القضائي الذي لم يكن سوى خطوة اجرائية لاعطاء القرار صبغته القانونية اللازمة... لأن حل هذا الحزب كان مطلبا شعبيا منذ انبلاج فجر الثورة، واستمر من خلال الاعتصامات والمظاهرات والبيانات السياسية للأحزاب وغيرها من الوسائل التي تم التعبير بواسطتها عن هذه المسألة... لكن حل التجمع الدستوري، الذي يبدو خطوة هامة ضمن استحقاقات المرحلة القادمة، يطرح الكثير من التساؤلات ويثير العديد من الملاحظات أبرزها: * أن الانتهازيين الذين تشكل منهم حزب الرئيس المخلوع، لن يستسلموا بسهولة لهذا القرار وإن كان قضائيا لأنه يعني بالضرورة، المساس بمصالحهم المعنوية (مواقعهم) والمادية... ونحن نعلم ان الانتهازية ليست مجرد ممارسة معزولة، بقدر ما هي «ثقافة» و»عقلية» * ان حل الحزب، لا يعني البتة إنهاء «التجمعيين» من المشهد السياسي في البلاد، فهؤلاء سيبحثون عن آليات ووسائل ومنافذ للتموقع السياسي ولاستئناف دورهم بمظلة مغايرة.. * وإذا كان بعضهم قد أعلن تأسيس حزب (على النحو الذي قام به محمد جغام)، فإن البعض الآخر سيعمد إلى الانخراط في أحزاب أخرى، فيما سيختار آخرون تأسيس أحزاب، تكون بوابتهم للعمل السياسي مجددا... وهو ما يعني امكانية «عودة» التجمع من خلال عناوين جديدة.. (بدأ بعض التجمعيين في الانخراط في بعض الاحزاب التي تأسست حديثا).. * وجود نحو 10 آلاف تجمعي، عادوا، أوهم سيعودون للإدارة، إلى جانب حوالي 9 آلاف معتمد وعمدة كان التجمع نصبهم في مختلف الولايات.. وهاتين «الطائفتين» من التجمعيين، سيشكلون عبء جديدا على الإدارة وعلى هيكل الدولة.. فكيف سيجري اندماجهم مجددا ضمن المؤسسات الإدارية؟ وكيف سيتم التعامل معهم من قبل الأجهزة الماسكة بالادارات؟ علما بان بعضهم كان يحتل مواقع قرار في عديد المؤسسات، مما قد يطرح اشكاليات عديدة في علاقة بمكونات هذه المؤسسات والعاملين فيها، وهم في غالبيتهم من الرافضين لسلوكيات التجمعيين، بل حتى لوجودهم بينهم... * الى أي مدى سيستفيد المشهد الحزبي والسياسي من غياب التجمع الدستوري ونعني هنا الغياب السياسي والغياب المادي والهيكلي؟ وهل بوسع الأحزاب القديمة (ما قبل 14 جانفي) وتلك التي أنشئت حديثا، سد النتوءات التي سيخلفها الحزب المنحل؟ والى أي مدى زمني يمكن ان تستمر حالة «الفراغ»هذه؟ وإذا أضفنا الى ذلك، ان البلاد مقبلة في غضون اقل من ثلاثة أشهر من الآن على انتخابات المجلس التأسيسي، ألا يمكن للتجمعيين، توظيف هذا الموعد للعودة مجددا للمسرح السياسي من بوابة مؤسسة ستكون محددة للنظام السياسي وللقوانين المنظمة للحياة العامة في المستقبل؟ أليست امكانيات الاختراق ممكنة في هذه الظرفية شديدة الحساسية؟ أليست الديمقراطية من هذه الزاوية يمكن أن تعيد التجمعيين الى المشهد الحزبي، وان كان ذلك من دون حزب؟ * يطرح بعض المراقبين في هذا السياق، فكرة سن قانون استثنائي، يمنع قيادات التجمع (أعضاء الديوان السياسي وأعضاء اللجنة المركزية والكتاب العامين للجان التنسيق) من الترشح الى الانتخابات (أي انتخابات) خلال السنوات الخمس المقبلة، بغاية تجنيب البلاد، عودة مفترضة للتجمعيين الى البرلمان أو المجالس البلدية أو تموقعهم في المجلس التأسيسي.. لكن هل يمكن للديمقراطية منع الناس وان كانوا تجمعيين من الترشح، بصرف النظر عن علاقتهم بالفساد السياسي سابقا؟ ألا يعد هذا الخير، ممارسة تسلطية جديدة، وبالتالي نستأصل الاستبداد، ببديل استبدادي آخر؟ في مقابل ذلك، يرى آخر أن منع التجمعيين من الترشح خلال مدة محددة، يعد حماية لعملية الانتقال الديمقراطي في بلادنا، وهو ما يتم العمل به في كثير من البلدان التي تحمي نموذجها السياسي من أي مكون يمكن أن يؤثر على مسارها وخياراتها في الحكم.. لا شك أن الوضع يحتمل الكثير من القراءات والفرضيات، وهو مرشح لاحتمالات عديدة، على اعتبار أن قرار حل التجمع الدستوري الديمقراطي مهم للغاية، لكن ا لأهم منه عملية سد الفراغ الذي سينجم عن ذلك، وهنا يطرح موضوع العلاقات بين العائلات السياسية،المطالبة بحد أدنى من التوافقات من أجل تشكيل جبهات يمكن أن تجنب البلاد وضعية الاستقطاب الثنائي أو التجاذبات التي قد تؤثر سلبيا على المشهد الحزبي، وبالتالي على استقرار البلاد.. وربما كان من المهم خلال هذه الفترة الدقيقة، تحرك «الدساترة» (نسبة الى الدستوريين على عهد الرئيس الحبيب بورقيبة)لانشاء حزب يجمع شتاتهم، لأن مثل هذا الحزب، يمكن أن «يعري» التجمعيين، الذين قد تصبح عملية انخراطهم في الحقل السياسي صعبة، أو على الأقل غير مخفية على المراقبين.. انها تساؤلات وملاحظات تحيلنا على المستقبل الذي لا يبدو واضح المعالم كما يعتقد البعض.