*لقد انطلقت اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد كما بيّنته ديباجتها من «خطورة ما يطرحه الفساد من مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها، ممّا يقوّض مؤسسات الدّيمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة ويعرّض التّنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر». ويضاف إلى ذلك «الصلات القائمة بين الفساد وسائر أشكال الجريمة، وخصوصا الجريمة المنظمة والجريمة الاقتصادية، بما فيها غسل الأموال». كل ذلك مع العلم أن «حالات الفساد التي تتعلق بمقادير هائلة من الموجودات يمكن أن تمثّل نسبة كبيرة من موارد الدّول، والتي تهدّد الاستقرار السّياسي والتنمية المستدامة لتلك الدّول». إضافة إلى مثل تلك التقديرات المستندة إلى دراسات علمية فضلا عن التجارب المعيشة، فإن الاتفاقية تنطلق من عدد من القناعات التي عبرت عنها على النحو التالي: - إن الفساد لم يكن شأنا محليا بل هو ظاهرة عبر وطنية تمسّ كل المجتمعات والاقتصادات، مما يجعل التعاون الدّولي على منعه ومكافحته أمرا ضروريا. - إن اتباع نهج شامل ومتعدّد الجوانب هو أمر لازم لمنع الفساد ومكافحته بصورة فعّالة. - إن توافر المساعدة التقنية يمكن أن يؤدّي دورا هامّا بما في ذلك عن طريق تدعيم الطاقات وبناء المؤسسات في تعزيز قدرة الدّول على منع الفساد ومكافحته بصورة فعّالة. - إن اكتساب الثروة الشّخصية بصورة غير مشروعة يمكن أن يلحق ضررا بالغا بالمؤسسات الديمقراطية والاقتصادات الوطنية وسيادة القانون. فمثل تلك التقديرات والاعتبارات جعلت المجموعة الدولية بقيادة الديمقراطيات فيها وبمؤازرة من منظمات غير حكومية ناشطة باعتبارها مكوّنة للمجتمع المدني الدّولي، تسعى إلى أن تكون المعاهدة التي تخصّص لمكافحة الفساد وسيلة قانونية دولية من شأنها «أن تمنع وتكشف وتردع، على نحوأنجع، الإحالات الدّولية للموجودات (أي في الواقع الأموال والممتلكات المهرّبة إلى الخارج وهي محصّلة من أعمال أو عمليات قائمة على الفساد) المكتسبة بصورة غير مشروعة، وأن تعزز التعاون الدولي في مجال استرداد الموجودات. وفي كلّ ذلك فإنه وكما بيّنت الاتفاقية يجب الأخذ بالمبادئ والتوجهات الأساسية التالية: - المبادئ الأساسية لمراعاة الأصول القانونية في الإجراءات الجنائية (الجزائية) وفي الإجراءات المدنية أو الإدارية للفصل في حقوق الملكية. - الوضع في الإعتبار أن منع الفساد والقضاء عليه هو مسؤولية تقع على عاتق جميع الدّول وأنه يجب عليها أن تتعاون معا بدعم ومشاركة أفراد وجماعات خارج نطاق القطاع العام، كالمجتمع الأهلي والمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المحلّي. - الأخذ في الاعتبار المبادئ السليمة للشؤون والممتلكات العمومية، والإنصاف والمسؤولية والتساوي أمام القانون وضرورة صون النزاهة وتعزيز ثقافة نبذ الفساد. وانطلاقا من تلك الفلسفة والمعطيات والاعتبارات، فإن اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد تضمنت أنها تهدف إلى: - ترويج وتدعيم التدابير الرامية إلى منع ومكافحة الفساد بصورة أكفأ وأنجع. - ترويج وتيسير ودعم التعاون الدّولي والمساعدة التقنية في مجال منع ومكافحة الفساد، بما في ذلك في مجال استرداد الموجودات. - تعزيز النزاهة والمساءلة والإدارة السليمة للشؤون العمومية والممتلكات العمومية. تلك الأغراض تتطلب كما هو مبيّن بالاتفاقية التي هي القانون الدّولي الأساسي في هذا المجال العمل بصورة فعلية على منع الفساد والتحرّي عنه وملاحقة مرتكبيه، كالعمل أيضا على تجميد وحجز وإرجاع العائدات المتأتية من الأفعال المجرّمة باعتبارها أفعال فساد. وقد ذهبت الاتفاقية إلى حدّ اعتبار أنه ليس من الضروري أن تكون الجرائم المبيّنة فيها قد ألحقت ضررا أو أذى بأملاك الدّولة، باستثناء ما تنصّ عليه خلافا لذلك. إلى تلك المعطيات لابدّ من ملاحظة أن اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد تجنّبت إعتماد تعريف للفساد وإن كانت «المسودّة» الأولى للاتفاقية قد توخّت وضع تعريف له، إلا أن غالبية الدّول فضلت عدم اعتماد تعريف قد تتقوقع فيه أحكام الاتفاقية وقد يؤدّي إلى إشكالات دقيقة في التطبيق. لذا تمّ الاتجاه إلى ذكر الأفعال التي يجب أن تكون مجرّمة باعتبارها أفعالا منطوية على الفساد. فالتجريم هنا بدأ أفضل من التعريف. وقد رصدت الاتفاقية الأفعال التالية كافعال تندرج تحت غطاء الفساد وتكون بالتالي معبّرة عن الفساد ومسلّطا عليها التجريم: رشو الموظفين العموميين والوطنيين Fonctionnaires nationaux (أي موظفي الدّولة)، رشو الموظفين الأجانب وموظفي المؤسسات الدولية العمومية، اختلاس الممتلكات أو تبديدها أو تسريبها بشكل آخر من قبل موظف عمومي، المتاجرة بالنفوذ، إساءة استغلال الوظائف، الإثراء غير المشروع، الرّشوة في القطاع الخاص، اختلاس الممتلكات في القطاع الخاص، غسل العائدات الإجرامية، إخفاء ممتلكات أو مواصلة الاحتفاظ بها عندما يكون الشخص المعني على علم بأن تلك الممتلكات متأتية من أي من الأفعال المجرّمة طبقا للاتفاقية، إعاقة سير العدالة. فتلك هي الأفعال المجرّمة من قبل الاتفاقية فضلا عن كون هذه الاتفاقية تدعو الدّول التي لم تقم بذلك بعد إلى تجريم تلك الأفعال. ويكون هذا التجريم إلزاميا بالنسبة إلى الدّول الأطراف في الاتفاقية أي الدّول التي وقعت وصادقت على الاتفاقية، أو تلك التي تكون قد انضمت إليها بحكم أنه لم يسبق لها أن وقعت عليها. * أستاذ جامعي، المحامي لدى التعقيب