أعلنت جمعية القضاة مؤخرا انسحابها من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، لعدم التزام الحكومة الانتقالية بالمرسوم المتعلق بإحداث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، واعتبرته "اعتداء مكشوفا على إجماع الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة ومحاولة للالتفاف على تمثيلية القضاة بالهيئة العليا للانتخابات ومساسا بشروط الحياد والاستقلالية والنزاهة المستوجبة لعضوية تلك الهيئة". ومن ناحية أخرى أكد مصدر مطلع في الحكومة ل"الصباح" أن الحكومة لا تمارس أي ضغط على القضاة، الذين رفعت كل أشكال الضغوطات عليهم.. وتتعرض الحكومة الانتقالية كما الجهاز القضائي إلى اتهامات بعرقلة الحسم في ملفات الفساد والتجاوزات الكثيرة التي مارسها رموز النظام السابق...هي أحداث ومواقف، أخرى خرجت من الشأن القضائي الذي يواجه بدوره العديد من الإشكاليات، حول التمثيل، والاستقلالية، والمشاركة في المرحلة الانتقالية..ويطرح أيضا العديد من التساؤلات حول أي قضاء يريده التونسي؟ وماهي حدود استقلالية القضاء؟ والصعوبات التي يمر بها الجهاز؟
هيكل مخترق
كبقية الهياكل والقطاعات الحيوية، كان القضاء جهازا آخر أمسك به النظام السابق بقبضة من حديد.. حركه كما يشاء وعبث به حسب مصالحه آنية كانت أو إستراتيجية. التبعية وخدمة مصالح النظام الفاسد والبائد، لم يكن فقط الداء الذي نخر الجسم القضائي، فإضافة إلى استعمال هذا الجهاز في القضايا السياسية واستبعاد وظلم الخصوم السياسيين، كما غطاء على تجاوزات العائلة الحاكمة، والمتنفذين في السلطة، واخترق القضاة وأصبحوا يدا غليظة بيد الطغاة...بل تحول الجهاز القضائي إلى جهاز"مميع" كما يذهب إلى ذلك المتابعون...إلى درجة أن لكل قضية وكل حكم لها ثمنا مقابلا.. وكان عدد من القضاة قد -يكونون أقلية، أو أغلبية- فرادى أو هياكل ضغطت عليهم السلطة وحاصرتهم، لا يمكن أن تكون سلطتهم مؤثرة في وسط كان كله فاسدا.. يقاومون الفساد بضمير وخدمة لشعب فوضهم حتى يحكموا فيما بينهم...فمن لا يعرف من التونسيين أن هذا الجهاز لم يكن فاسدا بل الأكثر فسادا. وحتى بوادر الاستقلالية والدفع من أجل إعادة النظر وتصحيح شأن القضاء وكان ذلك عبر جمعيتهم، يعرف الجميع أن السلطة لم تقدر هذا الجهاز ولم تعط اعتبارا لهيبة القاضي، بل وببساطة انقلبت على هذه الجمعية، ولاحقت المنضوين فيها، حتى وصل الأمر بهرسلتهم وتخويفهم والاعتداء على حرمتهم عن طريق جهاز البوليس..وبعد الثورة التي أنجزها التونسيون البسطاء، والشباب الطامح، كانت الشفافية والحرية والعدالة أهم الشعارات التي رفعها الشعب...فطرحت مسألة استقلالية القضاء كمقوم أساسي للتحول الديمقراطي.
الاستقلالية
كانت تعبيرات القضاة متعددة ومتنوعة عبر هياكلهم، أو عبر أحداث أخرى، بعد الثورة إعلانا منهم على الوفاء بعهد الشهداء الذين استشهدوا من أجل وطن حر وعدالة تحكم بين مواطنيه... وتحملت جمعية القضاة"الشرعية" كما توصف في الساحة السياسية ولدى المهتمين بالشأن العام لتجميع المطالب وإعلان بداية العمل من أجل تطهير القطاع من بقايا النظام السابق، والفاسدين التابعين له. واستقلالية القضاء في تعريف مبسط، أن يبت القاضي حسب إدراكه للحقائق، وطبق القانون بمعزل عن أي تأثير خارجي، وبالأساس من السلطة التنفيذية إضافة إلى المؤثرات الأخرى مجموعة اجتماعية، المال.. إلخ. وطرحت مسألة استقلالية القضاء كمطلب مركزي للقضاة، ومطلب ملح لمكونات المشهد السياسي، وعيا بخطورة هذا القطاع، ويعتبر أحمد الرحموني أن ضمان استقلالية القضاء لا يمكن الحديث عنها سوى أن تمكن"القاضي من إدارة ذاتية للقضاء" بما يعنيه أن لا يخضع القاضي إلى إدارة السلطة التنفيذية، وحسب الوضعية التونسية الحالية، فان القضاء يرجع بالنظر إلى إدارة القضاء ومتمثة بالخصوص في وزارة العدل، والوزارة الأولى في ما يتعلق بقضاء مجلس الدولة، أي دائرة المحاسبات والمحكمة الإدارية ، ثانيا دون "دولة قانون ومؤسسات". ومن ناحيته يعتبر نبيل النقاش عن نقابة القضاة أن مسألة استقلالية القضاء مسألة شخصية بالأساس أي أن 90 بالمائة منها مرتبط بالقاضي في حد ذاته، ولكن يجب تدعيمها بضمانات دستورية لحماية القاضي، ثم الضمانات القانونية المتعلقة مثلا بالقانون الأساسي للقضاة وأيضا أن لا تكون نقلة القاضي خارجة عن إرادته، وأيضا يجب أن يكون المجلس الأعلى للقضاء منتخبا وممثلا لجميع الأصناف والرتب القضائية. وعن وضعية استقال القضاء يعتبر أحمد الرحموني أن الحال بقي على ما هو عليه مع تواصل "إطار القضاء، كإطار موروث" وتواصل نفس المنظومة وآليات العمل على ماهي عليه قبل الثورة، غير أن النقاش يرى من ناحيته أن الوضعية التي يشهدها القطاع "مستقيمة" وهي في "الطريق الصحيح" نحو ضمان استقلالية للقضاء.
الحدود
بعيدا عن القضاة، فان الشارع التونسي، كما نخبه وسياسييه مازالوا إلى حد الآن يتحدثون عن قضاء "فاسد" وعن بطء في عملية إعادة النظر والبناء لقضاء مستقل..في حين أكد مسؤول مطلع في الحكومة الانتقالية أن مجهودات كبيرة تبذل من أجل توفير استقلالية كاملة للقضاء وأن يحكم القضاة دون أي تدخل للسلطة التنفيذية على الأقل.. وان كانت استقلالية القضاء مسألة لا يمكن أن يناقش اثنان فيها، إن تعلق الأمر بالحديث عن الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات، إلا أن هذا المفهوم وتطبيقه، والعمل به، قد يخضع لتجاذبات وحسابات وأجندات..قد تكون نتائجها خطيرة بعض الأحيان. إذ أكد عدد من المتابعين أن الحديث عن استقلالية القضاء في المطلق أي أن لا يخضع القاضي إلى أي سلطة ولا تأثير ولا حدود، يجعل من القضاة فوق الجميع، وهو مطلب "نرجسي" و"كأن القضاة ملائكة لا تسعهم الجاذبية لا يجب المس منهم أبدا" حسب تعبير البعض... ويعتبر نبيل النقاش أن القاضي كغيره من المواطنين يجب أن يخضع للمساءلة، فالقاضي مسؤول مدنيا وجزائيا في أعماله القضائية، رغم تمتعه بحصانته القضائية. في حين يوضح أحمد الرحموني أن تواصل وجود إدارة القضاء"في قبضة السلطة التنفيذية" سيؤبد واقع القضاء..
الصعوبات
الاتفاق حول جملة من المطالب والعمل على تطبيقها، "لن يكون بالأمر الهين "كما يذهب إلى ذلك أحمد الرحموني رئيس جمعية القضاة. فان عملية الانتقال إلى سلطة قضائية مستقلة، وقضاء عادل وشفاف تعترضه العديد من الصعوبات حسب رأي عدد من الملاحظين. وكانت أحداث محكمة سوسة -قبل شهر تقريبا- والتي شهدت جدلا بين وزارة الداخلية التي نفتها بشدة وأصرت جمعية القضاة على حصولها، مؤثرة في الرأي العام، حيث أن عددا من أعوان الأمن حسب رواية الجمعية قاموا بمداهمة المحكمة وأمام قاض في سوسة وذلك نصرة لزميلهم.. حدثا مؤثرا في هيبة الجهاز، وطرح عديد التساؤلات.. كما كانت أحداث شهدتها عدة جهات، في البلاد قام فيها مجهولون حسب روايات ومتظاهرون حسب روايات أخرى بحرق المحاكم ومداهمتها أيام الثورة وبعدها حدثا آخر طرح التساؤل حول حساب من تصب هذه السلوكات؟ وما هي مبررات عمل مثل هذا...وان أجمع المتابعون أن الشعب التونسي كان غاضبا على مختلف الهياكل والمؤسسات التي كانت أجهزة في يد النظام البائد.. من ناحية أخرى فان تواصل محافظة عدد من القضاة الذين كانت لهم يد في الفساد المالي فالمؤسسة القضائية حسب الرحموني "تتطلب إجراءات تطهير بالمعنى الايجابي" حسب تعبيره، فقد كان قضاء تعليمات وفساد مالي... يبدو أن فتح ملف "القضاء" يجب أن يخضع أيضا لطبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد، فان الوضعية الانتقالية التي يعيشها التونسيون، في مختلف المواقع والقطاعات، تفرض حديثا أيضا عن وضعية انتقالية في الجهاز القضائي.. إذ أن البلاد تحكمها حكومة انتقالية وهياكل انتقالية في عدد من المؤسسات والهياكل، وأيضا تتطلب "عدالة انتقالية".. وان كانت ملفات الفساد والتجاوزات كثيرة جدا، فان من واجب هذا الجهاز تحمل المسؤولية في هذه المرحلة حتى يوفر ظروفا أخرى تسهل عملية الانتقال إلى مرحلة القضاء المستقل، فماذا يعني أن يحكم عدد من رموز النظام البائد، مثلا عماد الطرابلسي بحكم هزيل، وأيضا في قضية بسيطة، رغم تأكيد مصدر مطلع في الحكومة الانتقالية ل"الصباح" أن للقضاة الاستقلالية الكاملة في البت في هذه القضايا، غير أن الرحموني يعتبر أن "التتبع من عدمه، يخضع إلى إدارة وزارة العدل، فوكلاء الجمهورية خاضعون إلى سلطة وزير العدل.. من ناحية أخرى فان على القضاة الحسم في هياكل قوية تمثلهم، كما أن على الأحزاب ، ومختلف مكونات المجتمع المدني كما المجتمع التونسي برمته، الواعين بأهمية وخطورة الملف القضائي في ضمان انتقال ديمقراطي حقيقي، غير أن آليات توفير ذلك ليست بالسهلة ولا بالبسيطة، ولا هي مسألة ميكانيكية...بل تتطلب عملا دؤوبا ويقظة، والأهم إرادة من مختلف المواقع، وأيضا دوران عجلة في إصلاح مختلف القطاعات الأخرى، لعل في إصلاحها أملا آخر في إصلاح واقع القضاء..