ما تزال العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية، تثير الكثير من الملاحظات والتساؤلات في الأوساط السياسية والإعلامية، خصوصا بعد أن باتت تمثل مشكلا أمنيا في أعقاب ردود الفعل التي حصلت خلال اليومين الماضيين من قبل أنصارها في سيدي بوزيد.. وبصرف النظر عما قيل بخصوص مشاركة "تجمعيين" في العريضة وتمويلهم لها، وهو ما يفسر إلغاء 6 قوائم تابعة لها، فإن النجاح المفاجئ لهذا التيار الذي تعامل معه البعض بشكل ساخر منذ البداية، يترجم عن وجود دواع أخرى لهذا البروز اللافت للنظر، سيما وأن العريضة فازت في نحو 16 ولاية من مجموع 24 ولاية، ما يعني أن ثمة "منطقا انتخابيا" قاد هذه القوائم نحو الفوز، يقوم بالأساس على مخاطبة الشعب التونسي بلغة ذات وقع على ذهنيته وتطلعاته.. وإذا كان منطق التجمعيين يفسر فوز العريضة في سيدي بوزيد، فهل يمكن أن يفسر اختراقها لنحو 16 دائرة انتخابية بالكامل؟ لا شك أن التحليل العميق والموضوعي لنتائج انتخابات 23 أكتوبر، سيقدم لنا مداخل أخرى لفهم أسباب نجاح هذه العريضة، خارج دائرة "الرجم بالتجمعيين"، ومن دون أن يعني ذلك انحيازا للعريضة أو أنصارها، فذلك قد يفسر جزئيا الحالة التي أمامنا لكنه لا يقدم لنا إجابة مقنعة..
"صفعة" المال السياسي
في مقابل ذلك، كشفت نتائج الانتخابات مسألة على درجة كبيرة من الأهمية، تخص حزب "الاتحاد الوطني الحر"، الذي ظهر منذ البداية مسقطا على المشهد السياسي للبلاد، ليس لأنه ولد بطريقة قيصرية ومن دون مقدمات، ولكن لأنه مارس "لعبة المال السياسي" بشكل كلي، قافزا بذلك على المعطيات السياسية والانتخابية المتعارف عليها، وحاول أن يجعل من "المال" رقما في تغيير معادلات سياسية تاريخية في مسار الانتخابات.. لقد أغرق "المال السياسي" قوائم "توا"، وأعطى الشعب التونسي درسا لكل من تخول له نفسه التفكير مجرد التفكير في محاولة اللعب على وتر الفقر والخصاصة والحرمان، عبر وعود كشف المنتخب التونسي (بكسر الخاء)، أنه لا يميل إليها ولا يقتنع بها، لأنها لم تحترم كرامته وذكاءه وأنفته التي خرج من أجلها منذ 17 ديسمبر 2010 ليعلن ثورته التي وصفها المراقبون ب "ثورة الكرامة"، وربما لهذه الأسباب، اكتفى الاتحاد الوطني الحر بمقعد يتيم في سليانة، بعد أن كان رئيس الحزب يتحدث عن مشروع مجتمعي سينجزه للتونسيين، إذا ما فاز.. إن الأحزاب فضاءات للقيم السياسية والأخلاقية والفكرية، وليست حسابات جارية في بنوك أو مصارف محلية أو أجنبية، على الأقل هذه رسالة الناخبين التونسيين للاتحاد الوطني الحر..
مفاجأة.. ولكن
لكن المفاجأة التي جادت بها نتائج الانتخابات، تلك التي تخص "القطب الديمقراطي الحداثي" الذي جمع تلوينات سياسية ونقابية تنتمي للمدرسة اليسارية. فقد أبرز هذا القطب إمكانية العمل ضمن أفق محدد، حيث لم ينجر خلف دعوات التطاحن مع اليمين المحافظ، ولم يبن استراتيجيته الانتخابية على "الآخر"، بقدر ما كان واضحا في مواقفه، وحرص على تقديم خطاب "جديد"، بعيدا عن منطق "الصدمة"، أو التجاذبات الإيديولوجية المكشوفة، رغم أن خلافاته مع عديد الأطراف، حتى اليسارية منها، يعرفها القريبون من هذا القطب بصورة جيدة.. لكن يبدو أن "الماكينة" الحزبية، وعدم امتداد مكوناته في جهات عديدة من البلاد، وربما الوقت المتأخر نسبيا الذي أعلن فيه عن تشكيل القطب، أسباب يمكن أن تفسر اقتصار هذا التحالف على خمسة مقاعد، أحدها في دائرة فرنسا الشمالية، والبقية في مدن تونس الكبرى، ونعني هنا، تونس1 وتونس2 وأريانة وبن عروس، وهو ما يحيلنا على تساؤلات أساسية: لماذا لم يفز القطب الذي يوجد بين دفتيه حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا)، فيما كان يعرف بمعاقل الحركة في قفصة والحوض المنجمي؟ ولماذا فشل في استقطاب الناخبين في دائرتي صفاقس التي تعرف تاريخيا بوجود نخبة يسارية تنتمي في معظمها لحركة التجديد، أو هكذا يسوق الأمر على الأقل؟ على أن المقاعد الخمسة للقطب الديمقراطي الحداثي، تعدّ إيجابية لأن حداثة عهد التحالف، وقصر المدة التي اشتغل فيها على المشهد الانتخابي، و"لغته المعتدلة" قياسا ببعض الأطياف اليسارية الأخرى، يمكن أن تشكل منطلقا يتم البناء عليه في استحقاقات انتخابية وسياسية قادمة..
ولعل اللافت للانتباه في نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، حصول حزب "آفاق تونس" على 4 مقاعد في كل من نابل 1 والمهدية وصفاقس 2 ومدنين.. ويرى مراقبون، أن هذا الفوز، وإن بدا محدودا إلا أنه يعكس عملا مهما قامت به قوائم الحزب في الجهات التي تقدمت فيها، سيما بالنظر إلى حداثة الحزب في المشهد السياسي، وعدم توفر تقاليد، بل تجربة لكوادره في الانتخابات.. لكن ذلك لا يمنع من القول، بأن هذا الحزب، الجديد برموزه وأسلوب عمله وطريقة تفكير قياداته، التي كشفت عن عقل حداثي من دون أن يمس من ثوابت المجتمع، أو يطرح القضايا الخلافية على محك حملته الانتخابية، ستكون له آفاق في مستقبله السياسي، خصوصا إذا ما دخل في تحالفات حزبية مدروسة، ونفذ إلى أعماق المجتمع التونسي، خصوصا في الجهات الداخلية..
الغائب الحاضر في الانتخابات
ويبدو أن الحزب الذي أصاب الكثيرين بنوع من الذهول، هو بلا شك حزب العمال الشيوعي التونسي، الذي لم يكن أحد يتوقع خروجه من الانتخابات بهذا الشكل، حيث لم يحصل على أي مقعد في جميع الدوائر التي تقدم إليها. ما يجعله من الناحية العملية غائبا عن المجلس التأسيسي، الذي كان أحد أبرز المكونات السياسية التي دعت إليه في "القصبة1". والحقيقة، أن حمة الهمامي، زعيم الحزب، استخدم في حملته الانتخابية لغة ذكية، حيث خاطب الناس بشكل واضح يفهمه الخاص والعام، وتنقل بين أرجاء الدوائر الانتخابية المختلفة، وحرص على استثمار "منطق الثورة" أكثر من بقية المنافسين، لكن عملية استقطاب الناخبين لم تتم بالصورة التي كانت متوقعة، وهذا راجع لأمرين اثنين على الأقل: أن "البوكت" ظل يتحرك فريدا في ساحة مليئة بالمنافسين، فلم يراهن على أي تحالف، مع اليمين أو اليسار، وهو ما أظهره كحزب ضعيف، وقلل بالتالي من حظوظه الانتخابية. أن حزب العمال الشيوعي التونسي، لم يميز في خطابه بين "منطق الثورة" و"منطق الحكم"، وظل وفيّا لمقاربته "الثورية" التي كان يعتقد أنها ستغازل الناخبين، وربما لم يقرأ حسابا لعقلية الناس، التي بمجرد أن فتح الباب للحملة الانتخابية، حتى اشرأبت أعناقها للبرامج والسياسات، باحثة عن "ذاتها" بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي للكلمة، في خضم البرامج الكثيرة والمتنوعة، والتي قد لا يكون "البوكت" عرف كيف يقدمها للناخبين..
الدستوريون.. الدستوريون
وعلى عكس ما تصورت بعض التحاليل السياسية، لم تحظ قائمات "الدساترة" التي توزعت عبر عدة أحزاب، بتلك "الهالة" التي بناها البعض من حولها.. فحزب "المبادرة" الذي هرولت خلفه شخصيات ثقافية ورياضية وسياسية (تجمعية) ورجال أعمال، حصد 5 مقاعد فحسب، انحصرت كلها في جهة الساحل (2 في سوسة، و2 في المنستير، ومقعد وحيد في المهدية)، وهي أرقام محدودة وضعيفة، باعتبارها في منطقة الساحل بالذات.. ولا شك أن في عزوف الناخب التونسي عن اختيار "حزب المبادرة" والرهان عليه مستقبلا في تونس، رسالة شعبية واضحة في رغبة التونسيين في القطع مع حقبة العهد البائد، والتأسيس على مقاربات وتجارب جديدة.. ويتأكد هذا المعطى، من حصول "الحزب الحر الدستوري الجديد" على مقعد وحيد في دائرة منوبة، ما يعني أن اللغة الدستورية هذه لم تعد تجدي نفعا بالنسبة لشعب عانى منها الويلات خلال ستين عاما من حكم "الدساترة" على عهدي بورقيبة وبن علي..
المستقلون.. والقوميون
تبقى الإشارة إلى القوائم المستقلة، التي قدمت بالمئات، لكن لم يصل منها إلى قناعة الناخب التونسي سوى 8 قائمات هي: البديل الثوري، وصوت المستقبل، وقائمة النضال الاجتماعي، وقائمة من أجل جبهة وطنية، وقائمة شمس العريضة الشعبية، وقائمات الوفاء للشهداء، وقائمة العدالة، وقائمة الأمل، التي اكتفت كل منها بمقعد واحد في المجلس التأسيسي.. بل حتى بعض الأسماء اللامعة في سماء السياسة والصحافة والجامعة والجانب الحقوقي، لم تنجح في استقطاب الناخبين، رغم قدراتها البارزة على الخطابة والاستقطاب، على غرار الأستاذ عبد الفتاح مورو، والجامعي الصادق بلعيد، والحقوقيين المختار اليحياوي وراضية النصراوي، وصلاح الدين الجورشي، وغيرهم كثير، ويبدو أن غياب "الماكينة الانتخابية" لدى هؤلاء، واقتصارهم على الإمكانات الذاتية، حال دون توصلهم إلى الفوز بأي من مقاعد المجلس. لكن هل المشكل في المستقلين أم في النظام الانتخابي، أم في كثرة الأحزاب والقوائم التي قد تكون شوشت على البعض منهم؟ هذا السؤال المطروح، وهذه هي المداخل الأساسية للتفكير في القانون الانتخابي القادم.. أما القوميون، وعدا مقعدين حصلوا عليهما، فإن الزخم الذي شاركوا به في الانتخابات، لم ينفعهم في الحصول على مقاعد إضافية، وربما لم يسعفهم المناخ الدولي الذي لم يعد فيه الخطاب القومي والعروبي، مثيرا للشعوب، أمام الربيع العربي وزخم الثورات التي تؤشر لمنطق مغاير، وعقلية قد لا تتلاءم مع المنطق القومي الذي لم يعرف تطورا يذكر منذ عقدين من الزمن على الأقل..