علمانيون متخوفون من استبدال «الاستبداد السياسي» ب«استبداد ديني» تعاقبت الاحداث التاريخية منذ الاعلان عن نتائج انتخابات ال 23 من اكتوبر الماضي.. وابرزها على الاطلاق تنصيب المجلس الوطني التاسيسي أمس بحضور عشرات من النواب "الاسلاميين والعلمانيين" الذين انتخبهم الشعب قبل شهر، بعد أن كان انتظم مساء اول امس باحد فنادق العاصمة موكب بحضورعشرات النشطاء الحقوقيين والسياسيين من عدة تيارات للتوقيع على اتفاقية سياسية هي الاولى من نوعها بين حزبين علمانيين ( التكتل والمؤتمر ) وحزب " اسلامي" ( النهضة ) كونوا ائتلافا سياسيا هوالاول من نوعه يضم اكثر من ثلثي اعضاء المجلس الوطني التاسيسي المنتخب. فهل سينجح الوفاق السياسي الجديد في تكريس تعاون دائم بين تيارات علمانية واسلامية تتصارع منذ عقود أم يحصل العكس؟ الملفت للنظر أن من بين شهود حفل تكريس "الوفاق السياسي" الجديد في حفل تنصيب المجلس الوطني التاسيسي أمس عدد من الشخصيات الوطنية " الليبرالية "و"اليسارية"المستقلة عن احزاب الائتلاف الثلاثة ، بينهم عميد المحامين عبد الرزاق الكيلاني وبعض زملائه وممثلون عن المجتمع المدني والسادة عياض بن عاشور وكمال الجندوبي وكمال العبيدي رؤساء الهيئات السياسية التي لعبت دورا في المرحلة الانتقالية واثناء العملية الانتخابية. لكن من ابرز شهود الاعلان عن الوفاق السياسي الجديد رموز تاريخية في الحزب الاشتراكي الدستوري (احمد المستيري واحمد بن صالح ومصطفى الفيلالي) وفي قيادة التجمع الدستوري الديمقراطي (فؤاد المبزع والباجي قائد السبسي ونواب حزب المبادرة بزعامة كمال مرجان..) ومن زعامات اليسارالاشتراكي والقومي بمختلف مدارسه لاسيما السادة احمد نجيب الشابي ومية الجريبي وعصام الشابي واياد الدهماني (حركة الوطنيين الديمقراطيين) و3 نواب عن حزب العمال الشيوعي.. كما حضرت حدث التنصيب امس وسهرة توقيع الاتفاق السياسي الجديد مساء اول امس غالبية من الاعضاء المنتمين الى أحزاب النهضة بزعامة راشد الغنوشي والمؤتمر بزعامة المنصف المرزوقي والتكتل بزعامة مصطفى بن جعفر.
جبهة 18 اكتوبر جديدة
وقد كانت اجواء الاحتفالين " تاريخية " فعلا بكل المقاييس لانها جمعت لاول مرة في محفلين رسميين شخصيات عرف اغلبها في العقود الماضية السجون والمعتقلات والمنافي اغلبها من قيادات حزبي النهضة والمؤتمر، كان من بينهم علي العريض رئيس الهيئة التاسيسية لحركة النهضة الذي قضى حوالي 12 عاما في زنزانة انفرادية وحمادي الجبالي رئيس الحكومة الجديد الذي قضى حوالي 17عاما في السجن.. كما كانت جل تلك الشخصيات من بين مكونات "جبهة 18 اكتوبر2005 المعارضة التي تشكلت في اعقاب اضراب الجوع الشهير الذي دام شهرا كاملا وضم ممثلين عن حوالي 20 جمعية وحزبا تضم قيادات اسلامية (بينها سمير ديلو ومحمد النوري) وعلمانية (احمد نجيب الشابي وحمه الهمامي والعياشي الهمامي...). وكان من ابرز زعامات تلك الجبهة " الوفاقية الاولى بين الاسلاميين والعلمانيين" السادة مصطفى بن جعفر وخميس الشماري واحمد نجيب الشابي وحمه الهمامي وراضية النصراوي وجلول عزونة (عن العلمانيين) وعلي العريض وسمير ديلو ومحمد النوري (عن الاسلاميين).. بينما قاطعتها فصائل من اليسار كانت رافضة لاي صيغة تعامل مع " النهضة " لاسيما قيادات حزب التجديد وحزب اليسار الاشتراكي وحركة الوطنيين الديمقراطيين وحزب العمل الوطني الديمقراطي..الخ
الوفاق السياسي الجديد
وبالرغم من حوادث التوتر الهامشية التي وقعت بسب خلافات بين "الرئيس الشرفي" للجلسة الافتتاحية وعدد من النواب، فقد كرست الوثيقة بين الاحزاب الثلاثة (النهضة والمؤتمر والتكتل) مرحلة جديدة من العمل السياسي المشترك بين اكبر حزب "اسلامي" في البلاد (النهضة) وحزبي المؤتمر والتكتل العلمانيين. واذا كانت الائتلافات السابقة اساسا حول مواقف سياسية محدودة وغالبا حول قضايا الحريات فان الائتلاف الجديد كان ثمرة اسابيع من جلسات الحوار السياسي المعمق بين ممثلي احزاب الائتلاف الجديد. كما ان هذا الائتلاف شمل لاول مرة وفاقا حول توزيع الحقائب الرئيسية في الدولة بسلطاتها التنفيذية والتشريعية.ٍ ولاول مرة في تاريخ تونس وافقت قيادات علمانية وزعامات حزب النهضة الاسلامي على وفاق سياسي يشمل توزيع عدد من الحقائب الوزارية ومناصب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس الوطني التاسيسي.
تخوفات من "استبداد" باسم الدين"؟
في المقابل فان تيارات عريضة من النخب العلمانية والاسلامية (من خارج حزب النهضة) متخوفة من أن تمر البلاد بعد مدة من " استبداد سياسي" الى "استبداد باسم الدين".. بناء على قراءة "متشائمة " لتجارب بلدان اسلامية مثل ايران والسودان حيث تبدل الاستبداد السياسي باسم "العلمانية" الى "استبداد ديني". وقد عكس التجمهرالذي نضم امس بالقرب من مقر قبة مجلس النواب القديم وكذلك سلسلة الانتقادات الموجهة الى "الائتلاف الثلاثي" في وسائل الاعلام وفي اجتماعات بعض المنظمات الحقوقية والنقابية والنسائية تخوفات من "ظهور دكتاتورية" جديدة مرجعياتها "حزبية دينية". كما كشفت ردود الفعل على نتائج انتخابات23 اكتوبر ثم على تشكيل " الائتلاف الثلاثي " تخوفات على "المشروع المجتمعي" الحداثي الذي يميز تونس منذ55 عاما لاسيما فيما يتعلق بحرية المرأة والاختلاط وحرية اللباس والصبغة السياحية المنفتحة للبلاد. وفي نفس السياق تتالى الانتقادات لتصريحات بعض زعامات حزب النهضة عن حرية اللباس والمشروبات الكحولية والسياحة من قبل بعض الاوساط النقابية والحقوقية من بينها قيادات بارزة في رابطة حقوق الانسان وجمعية النساء الديمقراطيات والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس. وفي كل مرة تقترن تلك الانتقادات بتصريحات تحذر من "استبداد ديني " يعوض "الاستبداد السياسي" الذي ساد تونس في عهدي بورقيبة وبن علي باسم العلمانية والحداثة.
تصالح "الاخوة الاعداء"
في انتظار توضح حظوظ نجاح هذا الائتلاف العلماني الاسلامي الثلاثي اكدت قيادات احزابه الثلاثة على تمسكها بمجموعة من "الثوابت " الوطنية من بينها احترام الصبغة المدنية للدولة والمؤسسات السياسية الى جانب احترام مكتسبات الدولة الحديثة. في هذا السياق اكد السيد راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة مجددا ان حركته " كانت ضد النظام الفاسد والاستبدادي وليست ضد الدولة وستتمسك بمكاسب الدولة الحديثة التي بناها رجال تونس ونساؤها خلال العقود الماضية". واكد علي نفس المعني السيدان مصطفى بن حعفر والمنصف المرزوقي. لكن اطرافا اسلامية من خارج حزب النهضة (حوالي 20 حزبا ومجموعة مستقلة) واخرى يسارية وليبرالية علمانية لا تزال تثير تساؤلات ونقاط استفهام جدية حول "المخاطر على الديمقراطية والحداثة" في بعض خطب سياسيين في الائتلاف وخاصة في حزب النهضة. الاجابة عن تلك التساؤلات قد تكون رهينة تكريس انفتاح النهضة وحلفائها على منافسيهم وخصومهم فكريا وسياسيا.. بما يمهد لمصالحة حقيقية بين "الاخوة الاعداء.."