بقلم عمر الزعفوري دخلت ثورة 17 ديسمبر في عامها الثاني ودخلته سيدي بوزيد بوجه غير الذي عرفت به منذ اندلاع أحداث الحرق عندما هاجمت مجموعات من الهمج مقرّ المحكمة والبلدية وأحرقت وثائق تدين عصابات الفساد بالجهة. فبعد أن كانت رمزا للحرية والانعتاق من أسر الطاغية وعصاباته المنظمة واعتبرت بذلك رأس قاطرة الثورة ألصقت بأهاليها أبشع النعوت وأفظع الصفات ليسدّدواباطلا فاتورة مجموعة من الحاقدين يعزّ عليهم أن تستقرّ البلاد لأن ذلك إيذان ببداية المحاسبة حتى بات أبناؤها يلاقون السبّ والشتم أينما حلّوا في هذه البلاد لأنهم- في رأي البعض- باتوا يهدّدون الثورة بتلك الممارسات وينذرون بزرع بذور الفتنة ويغذّون النعرات الجهوية إلى غير ذلك من التهم التي ليس لها، في الحقيقة، من غاية إلا تهميش الجهة في المنظومة الجديدة والحكم عليها بأن لا تظلّ إلا نقطة سوداء وبؤرة توتر في الخارطة التونسية. ولأن شبابها، وفي مقدّمتهم مثقّفوها العضويون، أبوا على أنفسهم ألا تكون هذه الجهة إلا رأس قاطرة الثورة فإن يوم 17 ديسمبر 2011 لم يكن يوما عاديا لأن الصورة قد قلبت فيه من جديد واستعادت سيدي بوزيد رمزيّتها التي احتار الدكتور سالم لبيض في تحديد من سيعيدها إليها. لم يكن تساؤله في الحقيقة، منطويا على حيرة بقدر ما كان حاثا لأهاليها على إنقاذ تلك الرمزية المهدّدة وقد وصلت الرسالة بحذافيرها. لم يكن الدكتور خالد شوكات مخطئا عندما اعتبر سيدي بوزيد رابع مكان مقدّس في العالم بعد مكةوالمدينة والبيت المقدّس وكأنه كان على علم بأن أهالي سيدي بوزيد سيكونون في مستوى انتظاراته وكانوا بالفعل كذلك. إجماع كلّي من قبل كل أبناء الجهة على أن يوم 17 ديسمبر 2010 يوم تاريخي وأن ثورتهم لا بدّ أن تؤرّخ به وهو ما يعني أنهم كانوا على وعي بأن ثمة مؤامرة تحاك ضدّهم للحكم عليهم بأن لا يكونوا إلا وقودا للثورة. هذا الإجماع لمسناه من خلال ذاك التنظيم العجيب عندما كانت الجموع تتحرك في كل مكان من أماكن المدينة دونما تدخّل أمني.رسالة عميقة يتضمّنها هذا السلوك ألا وهي أن الأمن اليوم مهمّة المواطن لا مهمّة البوليس وأن الشأن العام يعني الجميع لا السلطة السياسية لوحدها كما كان يحاول نظام المخلوع غرسه في الأذهان. ذاك تأسيس لعلاقة جديدة بين المواطن والسلطة قوامها الثقة والاطمئنان اللهم إذا أبت السلطة الجديدة ذلك. رسالة ثانية ترسلها هذه الجهة إلى قوات الأمن مفادها أن هذه الساحة التي نقف فيها اليوم جنبا إلى جنب دون أن يحتاط أحدنا من الآخر لا بدّ أن تكون فضاء عموميا لا يدّعي أي منا امتلاكه أو السيطرة عليه. فكأن هذا الجمهور يقول لرجال الأمن أن رمزية المكان لا تحدّد في المطلق وإنما انطلاقا من الأحداث التي تجري فوقه. ألم تكن نفس هذه الساحة يوما ما ساحة قتال ومواجهة؟ صحيح أن البعض رقص فيها وزغرد عندما لعب المخلوع آخر أوراقه وأعلن عن»فتح عهد جديد» في علاقته بالشعب ولكنهم رقصوا لوحدهم لأن أحرار سيدي بوزيد كانوا يعرفون جيّدا أنها رقصة التشفي والشماتة في الثوار. رسالة أخرى على غاية من الأهمية وجّهتها الجماهير إلى السلطة تبلّغها من خلالها أن الحسابات التي تقصي الجهات الداخلية من المنظومة حسابات خاطئة ولا بدّ من مراجعتها لأن سيدي بوزيد لا تطلب صدقة ولا تنتظر منّة وإنما تريد تنمية. رسالة فهمها طاقم الحكومة والمجلس التأسيسي الذي كان طرفا في الاحتفال وهي نفس الرسالة التي بلّغها نخبة من الجامعيين إلى وزير التعليم العالي في الحكومة المؤقتة السابقة باسم جمعية الجامعيين بسيدي بوزيد (الجمعية التونسية للتربية والتنمية والبحث العلمي) إلا أن أحد الجامعيين ركبها يوم الاحتفال وتعمّد تغيير موعد الندوة حتى لا ينغّص عليه بعض زملائه عرسه ولا يفسدوا عليه صفحة العسل مع السلطة الجديدة خصوصا وهو الابن الوفيّ لحزب من أحزاب الائتلاف الحاكم. رفع شعارات تطالب بالكرامة رسالة لها أكثر من دلالة لأن تلك الكرامة لا تتحقّق بمجرّد توفير الشغل وجلب المستثمرين إلى الجهة- كما يرى صاحبنا- وإنما، أكثر من ذلك، بتخليص البلاد من سيطرة الرأسمال الأجنبي لأنه لا كرامة لمواطن تذهب ثمرة جهده وعرقه إلى جيوب الأجانب. هذه أشياء لا يدركها المواطن العادي ولا يرتقي وعيه إلى مستوى فهمها واستيعابها ولكن الشعار يشدّد على أن التجريد من الكرامة يرجعنا إلى المربّع الأوّل وأنكم إذا عدتم عدنا. نقول للسلطة التي انساقت وراء هذه الخدعة بل ربّما هي التي صنعت هذه الخدعة أن مجرّد بعث المشاريع وتشغيل الناس لا يكفي لتحقيق التنمية لأن المشكل الحقيقي لهذه الولاية هو توفير الأرضية الاجتماعية لقيام تنمية حقيقية. فصاحبنا منظم الندوة يتحدّث عن النمو لا عن التنمية ولا نلومه على ذلك لأنه دخل ميدانا علميا غير ميدانه ليبرز سياسيا. لعل أهم رسالة بعث بها أبناء الجهة إلى كل العالم أن التضامن التلقائي سمة بارزة من سمات هذه الجهة، وهو ما لمسناه بصفتنا منسقين للملتقى العلمي الذي أقيم على هامش هذا الاحتفال حيث استضاف الكثير من المواطنين في منازلهم الخاصة العديد من الضيوف الوافدين من مختلف أصقاع العالم عندما انسحبت السلطة والمؤسسات الرسمية من ساحة الاحتفال. تصوروا أن لا أحد من المسؤولين زارنا أو أسمعنا كلمة شكر حتى بعد انتهاء الملتقى. الأوفياء من أبناء الجهة والأبرياء منهم هم الذين ساعدونا ووقفوا إلى جانبنا عندما وجدنا مشكلا في إطعام الضيوف وإيوائهم. لماذا تنصب الموائد في المعهد العالي للدراسات التكنولوجية حيث تقام الندوة الاقتصادية المشار إليها سابقا في حين لا أحد سأل عن أحوال القائمين على الندوة العلمية. تضامن الأهالي معنا والتفافهم حولنا فيه رسالة موجّهة إلى كلّ من لا تزال ذهنيّاتهم تشتغل وفق منطق النظام البائد:»الوقوف إلى جانب الغالب أسلم». مضمون الرسالة الشعبية يوحي بأن ثورتنا لا غالب فيها ولا مغلوب وأن الثقة تمنح إلى الرجال الصادقين والمخلصين فلتتعظ السلطة من هذه الدروس التي حملها الاحتفال في طيّاته. سيدي بوزيد لم تفقد رمزيّتها لأنّ الرمز لا يموت مادام المرموز إليه قائما وموجودا وهي روح الثورة ولكن كل ما حدث أنها حادت عن مسارها بعد أن تعرّض أعضاء المجلس التأسيسي من العريضة الشعبية إلى مظلمة صفّق لها البعض واستغلّها البعض الآخر لتشويه صورة رمز أبت إلا أن تتأكد. نقول الآن:من يؤكّد لسيدي بوزيد رمزيتها؟ سؤال لا يستطيع إجابتنا عنه إلا الائتلاف الحاكم لأنه إذا أراد لهذه البلاد أن تسير في الوجهة الصحيحة لا بد من أن يدرك أن المسألة ليست مسألة تخفيف من حدّة الإحساس بالفقر أو إعادة توازن بين الجهات وإنما هي إعادة نظر في التقسيم الجهوي التقليدي الذي كرّس الهوّة بين دواخل البلاد وسواحلها وبالتالي رسم معالم منوال تنموي جديد يخرجنا من دائرة التبعية للرأسمال الأجنبي لأن التنمية خارج دائرة الليبرالية الجديدة أمر ممكن. كفانا لهثا وجريا وراء المستثمرين لأننا لا نستطيع إقناع الغير مادمنا عاجزين عن إقناع أنفسنا. تبقى الكرة إذن في شباك السلطة بعد أن برهنت سيدي بوزيد على أنها تطلب التنمية ولا تقف عائقا دونها كما يحاول البعض أن يروّج لذلك.