بقلم: المولدي الشاوش إن المتابع للشأن السياسي والإجتماعي والإقتصادي ببلادنا، بعد الثورة، يصيبه الغثيان والإحباط، من تبعات ما نرى وما نسمع من أحداث كان لها أسوأ الأثر على البلاد والعباد، ومهما حاول المتفائلون إعطاءنا العديد من جرعات الطمأنة، وقياس حالنا بأحوال الآخرين من الأشقاء في مثل هذه الثورات مشرقا ومغربا، فإن مقياس حرارتنا في تصاعد مستمر، وبلادنا من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، تعيش قلقا وانزعاجا شديدين، من الانفلاتات في مختلف الإتجاهات سياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا... والأضواء الحمراء تطل علينا من البورصة، والبنك المركزي، ومن عديد البنوك الخاصة والعامة بالبلاد، كلها تدق نواقيس الخطر ونحن عن هذا غافلون، وشعبنا في هذا المحيط المضطرب والمختل، بات يشاهد سيناريوهات الخروج عن القانون على الأرض، وحتى في وسائل الإعلام الخاصة والعامة، الكل يقول ما لا يقال باسم الحرية والديمقراطية،التي فهمها البعض بانها تخلص من كل القيم الأخلاقية والدينية، بينما الديمقراطية تفرض علينا احترام الآخر والاعتراف بصندوق الانتخابات، والاذعان لنتائجه التي افرزتها ارادة الشعب. ومن هذا المنطلق يجب الا نشكك في هذه الارادة الشعبية، بعديد التعلات الواهية، والتي لا تستند إلى دليل دامغ، لأن الانتخابات التي مارسها التونسيون بعد الثورة شهد بصحتها وشفافيتها القاصي والداني، ولا يرتاب ولا يشكك فيها الا مكابر عنيد، لا يريد الخير لتونس، لأن الانتخابات منذ سنين الاستقلال الأولى، كان يسودها التزوير الذي لا حد له لذلك يجب ان نتفاءل اليوم بهذه الانتخابات المتعددة الأطياف السياسية، والتي أفرزت لنا عديد الأحزاب، وقد احتل بعضها الصدارة فكونوا ائتلافا وطنيا رائعا، غايته الأولى والأخيرة هو الوصول بتونس إلى تطبيق مبادئ الحرية والعدل والمساواة وحقوق الانسان، وقد فضلت الأحزاب المنفصلة عن الائتلاف القيام بدور المعارضة، وهذا في حد ذاته، مكسب شرعي لا لبس فيه، ندعمه ونشجعه، وقد طفت هذه المعارضات على السطح عند بداية جلسات المجلس التأسيسي لمناقشة المشروع المنظم للسلط العمومية، هذا المشروع المؤقت، والذي ليس له صفة الدوام، شأنه شأن المجلس الذي سنه والذي سوف لا يعمر الا سنة أو أكثر بقليل ثم تعقبه الانتخابات الرئاسية والتشريعية. لكن عند مناقشة هذا المشروع ظهرت على السطح عديد الاشكاليات التي ما انزل الله بها من سلطان، إذ لا حظنا عديد المتدخلين من هذه الأطراف المعارضة وكأنهم في المزاد العلني للبيع والشراء، أو في حملة انتخابية قبل أوانها، بينما نحن اليوم أمام وطن جريح تنخره المشاكل وطلبات الشغل المتشعبة،والاعتصامات والاضرابات المدمرة، من هذا الطرف أو ذاك، والتي تحتاج إلى مال قارون للاستجابة اليها دفعة واحدة، من طرف هذه الحكومة الائتلافية، التي ورثت تركة دولة غزا الفساد كل مفاصلها وهياكلها الادارية الخارجية والداخلية، من العمادة إلى أعلى هرم في السلطة، أليس من الحكمة أن تنأى كل الشرائح اليسارية عن الحوارات الملتهبة والمتشنجة ؟ والتي لا تزيد حالنا الا تعفنا، وتبتعد بنا عن كل ما من شأنه أن يرمم ويصلح من حالنا البائس بكل ما يوفر القدر الكافي من التوافق بين الفرقاء في الرأي من أجل مصلحة الوطن الذي هو في حاجة إلى الجميع من أجل البناء والفعل الجاد، لا أن نواصل ما عهدناه من المشاحنات الايديولوجية والشخصية، والتي لا تزيدنا الا توغلا في متاهات غير محمودة العواقب وليتيقن الجميع أن تونس الثورة ليست ( كعكة ولا ورثة ) سوف ينال نصيبه منها هذا الطرف أو ذاك. نرجو ان لا يسيطر علينا هذا الفكر الانتهازي الذي ودعناه مثلما ودعنا المافيا النوفمبرية وبدون رجعة. تونس في هذه الفترة الصعبة في حاجة ماسة إلى كافة أبنائها المخلصين بمختلف اتجاهاتهم من أجل الانحياز بها إلى الصحو الحضاري بالأفعال لا بالأقوال، خاصة ونحن لا نزال على اعتاب سلطة فتية تحتاج إلى الدعم من الجميع، فلنبارك هذا الثالوث الشرعي ونفتح له صدورنا، ونعطيه شحنات الثقة والتأييد ليسير بالبلاد خطوات ايجابية، تخرجنا من القتامة التي لازمتنا طويلا، لأن الوقت عنصر ثمين في الحياة فلا يمكن اهداره في المهاترات، والتجاذبات الحزبية الضيقة، التي تبتعد بنا عن مشاغلنا الحقيقة والحساسة،والتي لا يمكن التوغل في حلها إلا بالوفاق ونكران الذات، والعمل المتواصل والمجدي،فبالأمس الدابر كنا نعاني الكبت وعدم الإفصاح عن الرأي، وبعد الثورة انتقلنا إلى فسحة الحرية إلى حد التخمة، والتي فهمها البعض فهما رديئا فاسدا متعجرفا، وهكذا أصبح التعبير عن الرأي بالوسائل الشرعية وغير الشرعية، والتي تنحاز بنا إلى المحاذير السلبية التي نخشاها، وهكذا تبقى طموحاتنا وأمالنا معلقة، ولا نتقدم بها نحو الآفاق المتميزة التي تنأى بنا عن الفكر المتحجر من ناحية، والفكر اليساري الجامح، نحو الجغرافيا التي تتناقض مع هويتنا العربية الاسلامية المنحازة دائما إلى الاعتدال والوسطية، الشعب اليوم لا يقبل الزعامات الفردية التي لا قاعدة شعبية لها تعطي للمتزعمين أحجامهم القيمية والحقيقية على الأرض، حتى تكون أقوالهم فاعلة في الإصلاح والتقدم فلا يقبل أن يسمع النشاز من الكلام الذي لا يزيدنا إلا إفلاسا من بعض الذين يحسبون أنفسهم على المعارضة، وكأن المعارضة، عندهم لا تكون جدية، إلا إذا عارضت كل شيء، وشككت حتى في الثوابت المتفق عليها، لأن مثل هذا المنطق السقيم والفاشل تجاوزته الأحداث وما عاد له أثر في ثقافتنا، أما أن يعمد أحدهم، قائلا : ( سأظل أحارب النهضة ) فهذا كلام مردود ومرفوض لأنه خارج عن أدبيات الحوار، لأن مادة الحرب لغويا كلمة فظيعة لا توحي بما نتطلع إليه من المثل النبيلة. يجب أن تكون الحرب ضد الجهل والتخلف وكل العوائق التي تقف بيننا وبين التواصل مع حركة العالم المتجددة، لا أن نكرس الأنانية المفرطة في نفوسنا ومواقفنا ولو كانت مجانبة للحقيقة، وحتى لا نكون مصداقا لقول ابن خلدون، : ( العرب أصعب الأمم انقيادا بَعْضُهُم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم ).