البرد القارس و ما راج من أن الأمسية ألغيت بعد ذلك اليوم الهيتشكوكي المشحون بمدينة القصرين لم يثنيا الجمهور عن الالتحاق بقاعة المركب الثقافي بالقصرين بحثا عن دفء الكلمات...أكثر من ألف متفرج غصت بهم القاعة لكأنّ الأمل الأخير علّق على الشعر...الشعر الذي تبدو وعوده الأكثر غموضا.. لدى البعض. هؤلاء العاطلون عن العمل والمعتصمون والمحبطون المنسيون لم يقاطعوا الأمسية ولم يفقدوا الأمل في القصيد الذي كان ملاذهم في ليلة شتوية باردة.. فالتحقوا بمثقفي الجهة ومربيها وموظفيها في فضاء نادرا ما امتلأ نصفه. صعد هشام الجَّخ الركح فقام الجميع لتحيته واهتزت القاعة ولا اخفي عليكم أني لست من المطلعين الجيدين على إنتاجات الجخ لكنني انبهرت لان السهرة باسم الشعر و بطلها شاعر...شاعر صعيدي لم يتأنّق بغير الكلمات ولم يتألق بغيرها..طوبى لك يا منور صمادح في ذكراك "يهدر الشاعر في الناس وتحيا الكلمات ويموتون بلا ذكرى وتبقى الكلمات ". "ثلاث خرفان" كانت أول قصيدة ألقاها الشاعر الذي استدرج الشعر إلى المسرح فلم نره مكبّلا مشدودا الى كرسي كمن يخفي عورة ظهره، كرئيس مدير عام (ر م ع) ولنا في البلاد "ر م ع" الشعر و "ر م ع" الشركة الوطنية للشعر (ش.و.ش). كان يجوب القاعة مهملا ركحها، جالسا إلى جانب الجمهور الذي أخذته الفرجة، متوجها بأبياته إلى طفل مشدوه قافزا من جديد فوق الركح كي يجلس القرفصاء ويقول "الحب حالة، الحب مش شعر وقوالة". واقترح الجمهور "التأشيرة" التي اتضح ان الشبان يحفظونها عن ظهر قلب ..حتى ان الشاعر صار ينصت إلى الجمهور منشدا..ويَطرب كمن يسمع النص لأول مرة. نعم يَطرب لأن الشعب كان يَهدُرُ شعرا .. ثم قرأ الجخ "أيْوهْ بَغِير" و "جحا"، و من نصوصه الفصيحة "بلاد العرب أوطاني"، قراءات تخللتها فكاهة صعيدية تممت جمالية العرض. سهرة هشام الجخ اختتمت بتكريم جمعية الأخوة المصرية التونسية لشهداء القصرين من خلال درع قدمه رئيسها احمد سمير لأحد أعضاء المجلس التأسيسي، كما قدم الفنان طارق السويسي بورتريه للشاعر وعليه أبيات لنجيب الخليفي. هدية أسعدت الجخ كثيرا.. عطش ثقافي هذه السهرة تعيدنا إلى موضوع العطش الذي تعاني منه الجهة، هذا العطش المجازي ... هذا العطش الثقافي، و إلا كيف تنجح أمسية شعرية بذلك الشكل في يوم سقطت فيه كل الفقرات في الماء وكادت تحترق فيه المدينة من جديد؟ نجحت الأمسية رغم الغياب الكلي للأمن والقوافي وحدها كانت عسكرا في القاعة، والشاعر وحده كان جنرالا... والشعر وحده كان إمارة والمجاز عمارة. في طريق عودتنا إلى سبيطلة انتبهنا إلى رسام يرجم الجدران بألوانه، دون أن تتوقف قربه السيارات الرسمية و شبه الرسمية ولا العربات الدولية والقروية.. انه الفنان حمادي الدلهومي..يغطس في الوانه ويرسم جداريات على بعد أمتار من جدران السجن الشهير..السجن المدني بالقصرين...لكننا لا نوثق الا للميليشيا التي تهاجم السجن لتحرقه، وعندما يقترب منه فنان بفرشاته يزدريه العابرون على عجل الى موطن الحدث الرسمي ، في زمن سقوط الرسميات. الدلهومي قال انه اراد ان يرسم على سور السجن وعندما فشل في "اقتحام" هذا السجن بفرشاته، رسم حدائق و جسورا على الجدار المحاذي..في انتظار أن يتوثب من جديد على جدران السجن. السجن المدني الذي شيده فنانو نظام الحقبة السابقة على سرّة المدينة حان الوقت كي يصبح فضاء ثقافيا. مسرحا بلديا بالقصرين، مثلما تنبأت بذلك فرشاة الدلهومي . إذا كان هذا الزمن ثوريا حقا، فستضحي وزارة الثقافة وزارة سيادة لاوزارة للصدفة الثقافية.. تشرف على تنظيم بعض النزوات الفنية الموسمية من قبيل : هيا نحتفل بذكرى " حَرْقة " حنّبعل إلى روما .