نورالدين عاشور - كنا إلى حدّ وقت قريب نشكو في تونس من أننا بلد يكبت فيه الفكر بمفهومه الشامل، فأصبحت البلاد بنخبها ونضج أبنائها أكبر من الفكر السائد الذي ضاق فأصبح كالملابس التي لم تعد تتماشى مع الحجم الطبيعي، وضقنا به لأننا على يقين من أن التونسيين أكبر من أن يحتويهم الفكر الواحد والموجّه وأن يكونوا نتاج قالب عمل ذلك الفكر على صناعته.. واليوم وباستعادة مختلف الحريات خصوصا حرية التفكير والرأي والعقيدة والصحافة والتنظيم، كدنا نشعر بأن الحراك في الساحة السياسية والفكرية أكبر من أن نستوعب تفاصيله ونستشرف آفاقه ونقرأ انعكاساته على البنية الفكرية وتفرعاتها في مختلف الأوساط وإدراك ماهية المتحوّل والثابت إن عاجلا أو آجلا. ما يدفعنا إلى إعادة التفكير في حياتنا الفكرية عموما بعيد عن المناقشات والمناظرات السياسية الجارية حاليا فمن الطبيعي جدا أن تشهد الساحة السياسية أو الفكرية تجاذبات وطروحات كان بعضها معدوما قبل عام، ولكن ما حدث في الآونة الأخيرة في بئر علي بن خليفة من مواجهات بين مجموعة مسلحة وقوات الجيش والأمن كفيلة بأن تجعلنا نفكر مرّة أخرى في المستقبل وكيفية بنائه على أسس صلبة. عندما نشهد مواجهة من هذا القبيل -وكنا شهدنا مثلها في عهد بن علي- لا نجد تفسيرا مقنعا لما حدث في بئر علي بن خليفة لأن «مجموعة سليمان» في 2006 ربما وجدت في النظام الدكتاتوري مدخلا وحجة لوجاهة وجودها، لكن يبقى السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل نحن أمام بوادر هجمة «جهادية»؟ كانت تونس تعتبر نفسها بمنأى عن التنظيمات السلفية الجهادية خلال عقود طويلة ولكن استهداف تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» سياحا أجانب واختطافهم من أراض تونسية أشعرنا بأننا في مرمى أيّ تنظيم متطرف مسلح. ولا شك الآن أن «قاعدة « بن لادن هي التي تمثل خطرا خاصة بعد الضربات التي تلقتها في أفغانستان وباكستان وبالتالي فإن ما تبقى من عناصرها سينتشرون في أماكن محددة إذ يرى البعض أن وجهتهم ستكون إفريقيا وخصوصا شمالها بالنظر إلى انتماء العديد منهم إلى بلدان المنطقة وإما ستكون وجهتهم دول آسيا الوسطى وهي منطقة مرشحة لارتفاع نشاط الحركات المسلحة التي تنشط باسم الإسلام. يأتي هذا التحوّل كنتيجة حتمية أولا لفشل أمريكا وحلفائها في تفكيك القاعدة وثانيا للإبقاء على بؤر التوتر في العالم الإسلامي وهو وضع يبدو متوقعا لأن ما حصل لتنظيم القاعدة كان بمثابة تفجير قنبلة عنقودية تترك قنابل أصغر قابلة للانفجار في المكان الذي تسقط فيه. ولا بدّ من التحسب إلى أن الترتيبات التي قد يشهدها البيت الأفغاني تعمل على استيعاب حركة طالبان في عملية تسوية وهو ما من شأنه أن يقطع الصلة العضوية بين حلفاء الأمس حركة طالبان والقاعدة خصوصا بعد مقتل بن لادن. ولعل من غرائب الأشياء أن تنشأ القاعدة باعتبارها أكبر تنظيم مسلح في بلدان استعمرت في السابق من قبل بريطانيا وأن يدرس كوادرها في أنقلترا ويكون جانب من ثقافتهم أنقليزيا بل لماذا لم تنشأ تنظيمات مسلحة في بلدان استعمرتها فرنسا من قبل بل حتى تنظيم «جبهة الإنقاذ» الجزائرية كان وجوده متأخرا نسبيا ويعتبر استنساخا للحركة الجهادية الأفغانية الناشطة في سنوات الغزو السوفياتي لأفغانستان (1979 -1989)؟ ويبدو السؤال ملحّا حينما تبرز إلى الوجود جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا والتي أعلنت انضواءها تحت القاعدة ذلك أن نيجيريا بلد ناطق بالأنقليزية ومن المستعمرات السابقة للأمبراطورية البريطانية بينما لم تشهد بلدان إسلامية أو تعيش فيها جاليات مسلمة في إفريقيا جنوب الصحراء بروز تنظيمات مماثلة. ويبدو أن القاعدة التي هاجرت من السودان -بعد أن ركزت وجودها بين 1992 و1996- إلى أفغانستان بصدد العودة إلى القارة الإفريقية من خلال قاعدة المغرب الإسلامي في الشمال و»بوكو حرام» في الجنوب ولا يجب تناسي أن القارة غنية بثروات بترولية ومعادن خاضعة لاستنزاف أوروبي وأمريكي فهل يعني هذا أنه حيثما وجدت مصالح غربية توجد تنظيمات مسلحة تنتسب إلى الإسلام؟ وبما أن تونس واقعة في شمال القارّة وحيث أن الوضع داخل ليبيا مازال غير واضح المعالم، إذا ما زالت التنظيمات المسلحة لم تسلم أسلحتها، فيما أن أبرزها يتزعمه رجال كانوا ينشطون في أفغانستان وبالتالي يبقى خطر تلك التنظيمات قائما على الاستقرار في ليبيا وعلى تونس بحكم عمليات تهريب الأسلحة عبر الحدود الليبية التونسية وقد كشفت عمليات القبض على مهربين وحجز أسلحة عن خطورة المسألة. نحن أمام وضع جيواستراتيجي جديد سمته مزيدا من ثقل القاعدة في إفريقيا في وقت تبقى فيه الحالة الصومالية بؤرة توتر إضافة إلى نشاط القاعدة في اليمن ونشاط التنظيمات المسلحة في آسيا الوسطى (طاجاكستان- كرغيزستان- كازاخستان-أوزباكستان- تركمانستان) مرورا بالحركات الجهادية في كشمير وهو ما يوحي ب»هلال جهادي» يمتدّ من إفريقيا غربا إلى وسط آسيا شرقا. ولا بدّ إذن من الحذر مما يحاول البعض تصديره إلى تونس من مفاهيم «جهادية» وفوضى وقتل، فتونس صحيح أرض جهاد وقتال لكن في فترات تاريخية معينة.. فترات الفتح الإسلامي والكفاح ضدّ الاستعمار. أما إعادة إحياء مفهوم أرض الجهاد والقتال فهو مرفوض لأننا ندخل عهد الديمقراطية والحريات ونبني دولة مؤسسات ونتعامل مع واقع دولي سياسي واقتصادي بالخصوص، وطبعا لا يجبرنا هذا الواقع على التفسخ ونكران هويتنا العربية الإسلامية.