يحيي الشعبان التونسيوالجزائري الذكرى الرابعة والخمسين للغارة الفرنسية على ساقية سيدي يوسف التي امتزجت فيها دماء أبناء الشعبين الشقيقين، وذلك في أروع ملحمة عربية تحدث في مواجهة الاستعمار الفرنسي دفاعا عن الحرية والكرامة. إن تلك الغارة العدوانية الوحشية التي قامت بها قوات الاحتلال الفرنسية بواسطة طائراتها على ساقية سيدي يوسف الواقعة على الحدود التونسيةالجزائرية في يوم الجمعة الثامن من شهر فيفري 1958 وعلى الساعة العاشرة صباحا بدعوى ملاحقة المجاهدين الجزائريين في تلك القرية مخلفة بذلك مئات القتلى والجرحى جلهم من النساء والأطفال والشيوخ في يوم السوق الأسبوعية لتلك القرية الآمنة.
بقلم: المنصف بن فرج
ولا جدال فإن تلك الغارة الأليمة ستظل خالدة في أذهان أبناء وبنات الشعبين الشقيقين تونسوالجزائر، يقفون فيها جميعا كل سنة إجلالا وترحما وإكبارا لشهدائنا الأبرار الذين وهبوا أرواحهم الزكية فداء للوطنين تونسوالجزائر من أجل الحرية والكرامة في ملحمة بطولية رائعة امتزجت فيها دماء التونسيينوالجزائريين، ستظل على الدوام رمزا للنضال المشترك وللتآزر بين الشعبين الشقيقين من أجل التخلص من براثن الاستعمار ومخلفاته، ولبنة قوية في بناء صرح المغرب العربي ورسم ملامح غد أفضل لشعوب المنطقة المغاربية بأسرها. وأرى من الواجب الوطني التذكير بتلك الغارة الفرنسية النكراء على قرية ساقية سيدي يوسف الآمنة، واستحضار الأسباب البعيدة والقريبة التي أدت بالجيش الفرنسي المقيم بالجزائر آنذاك لتنفيذ تلك الغارة، وكذلك التأمل في النتائج التي تسببت فيها أحداث ذلك الهجوم الوحشي سواء بالنسبة لتونس أو لأبناء الجزائر وثورتهم المباركة أو لفرنسا نفسها. تعود أسباب الاعتداء على الساقية إلى أحداث يوم 11 جانفي 1958، حيث هاجم 300 من جنود جيش الجزائر الفرقة 23 للجيش الفرنسي، وكانت نتائجها قتل 15 جنديا فرنسيا واختطاف أربعة جنود فرنسيين حملوهم معهم إلى التراب التونسي، من بينهم القائد ريشوم Richomme، وبذلك وصل عدد المحجوزين إلى عشرة. وقد كان ذلك الهجوم المباغت أول حلقة من مسلسل قضية الساقية، لذا فقد وجب العودة إلى جذور الأحداث آنذاك، إذ كانت الجيوش الفرنسية في صراع دائم مع الثوار الجزائريين، المحتمين بالتراب التونسي، تراب دولة أجنبية، ليس للفرنسيين الحق في تتبعهم داخلها، لذلك وافق مجلس الوزراء الفرنسي على اثر حوادث 11 جانفي 1958، على مبدإ حق التتبع، وأوكل أمر تنفيذ القرار إلى قيادة جيشه بالجزائر، بعد أن اتضح للسلطات الاستعمارية تورط تونس في تلك المصادمات، وتأكد دورها ودعمها الواضح للجزائر، بالأدلة القاطعة، وفي أماكن وقوع الأحداث، ذلك أن الثوار الجزائريين الثلاثمائة الذين حاصروا الجنود الفرنسيين التابعين للفرقة الثالثة والعشرين، كانوا قد ركبوا على متن سيارات الحرس الوطني التونسي انطلاقا من قرية ساقية سيدي يوسف، ذهابا وإيابا، قبل الهجوم وبعده. وفي السادس عشر من جانفي 1958، بعث فيليكس قايار Felix Gaillard برسالة إلى الرئيس الحبيب بورقيبة احتجاجا على مساعدة تونس لثوار الجزائر، كما تقرر ايفاد مبعوث عن الصليب الأحمر الدولي لمعاينة مصير أربعة أسرى فرنسيين لدى الجزائريين المقيمين بتونس. وازداد الوضع توترا بحدوث اشتباكات أخرى تواصلت حتى الثامن من فيفري، حيث أطاح "الفلاقة" بطائرة قرب منجم الرصاص القريب من الساقية، تعرضت لقصف قادم من التراب التونسي، صباح ذلك اليوم الرهيب، الذي ردت فيه الجيوش الفرنسية الفعل على أبناء قريتنا الآمنة، ففي الحادية عشرة وعشر دقائق، جاء الرد عن طريق هجوم جوي قادته طائرات فرنسية حربية من نوع B26 سحقت به مركز المدفعية الجزائرية، وهدمت المنجم الذي كان مقرا لقيادة جيش التحرير الجزائري، وقتلت 80 شخصا، فكان حادثا مريعا فظيعا، تباهى به غلاة الاستعمار وزبانيته. وفي الحين رفع الرئيس الحبيب بورقيبة شكوى إلى مجلس الأمن، بعد أن ألقى خطابا في الشعب أعلن فيه أن الوقت حان للتخلص من هذه البدل التي داست أرضنا وأهانتنا السنين الطوال وتستمر في دوسنا وإهانتنا رغم ما لنا من الحظوة في المعترك الدولي، كما اغتنم الرئيس بورقيبة فرصة ذلك الاعتداء ليعلن حربا على فرنسا إيذانا بمعركة الجلاء حيث قال: "إن قضية الجلاء يجب أن نبادر بها قبل كل قضية.. وستشمل التراب التونسي كله بما فيه بنزرت.. ولا دولة تمانعنا في ذلك فهو حق من حقوقنا لا يقبل مساومة ولا نرتضي له مقابلا". وقد اغتنمت جبهة التحرير الجزائرية الفرصة، هي الأخرى، لتضغط على فرنسا وعلى الرأي العالمي، وطلبت من الرئيس بورقيبة تحركا أقوى، فاستجاب لهذا الطلب ودعا السفراء والصحفيين الأجانب للتحول إلى عين المكان، لمشاهدة آثار العدوان الغاشم، وهو ما تم بالفعل، فقد حل بساقية سيدي يوسف سفير الولاياتالمتحدةالأمريكيةبتونس والقائمان بالأعمال في سفارتي أنقلترا واسبانيا، وممثلو عديد بلدان العالم الثالث ورجال الإعلام الأجانب والمختصون في شؤون الحرب الجزائرية الفرنسية وغيرهم أمثال ماريو جوفانا من الجريدة الإيطالية Corriere de Trieste ورفائيلا أيبلدي من صحيفة Avanti وجوزاف كرافت من جريدة Evening Past، ولي ماك كردال من جريدة نيويورك تايمز وفريق من جريدة Guardian ومن جريدة المجاهد الجزائرية، وقد شاهد جميعهم آثار الاعتداء ورأوا تفاصيلها ونتائجها في صحفهم، في حين ركزت الدبلوماسية التونسية على تأييدها "الشكوى" ضد فرنسا في عريضة قدمها المرحوم المنجي سليم، مندوب تونس الدائم ، بمجلس الأمن، يوم 9 فيفري 1958، مع توالي المظاهرات في شوارع المدن التونسية من مدنين إلى بنزرت منادية: "الجلاء! السلاح!" وهو ما اعتبره كريم بلقاسم نيابة عن المركزية لجبهة التحرير الجزائرية تحركا لفائدة القضية الجزائرية. وكم اعتدى الطيران الفرنسي، سابقا، على أبناء الجزائر؟ ولكن حادث الاعتداء على ساقية سيدي يوسف كان له صدى بعيد وتأثير قوي في الرأي العالمي، استغله قادة جبهة التحرير استغلالا كبيرا وسانده الرئيس بورقيبة مجيبا بقوة على شكوى فرنسا لمجلس الأمن ضد تونس على مساعدتها للثوار الجزائريين، فقطع العلاقات الديبلوماسية مع فرنسا، وغادر السفير التونسي محمد المصمودي باريس، عائدا إلى تونس، وأذن الرئيس بورقيبة للجيوش الفرنسية بالبقاء في مواقعها، وأقام السدود لمنع تنقل الجنود الفرنسيين، وأطرد قناصل فرنسا بقابس وقفصة والكاف وسوق الإربعاء (جندوبة حاليا) ومجاز الباب، وأعلن بدء "معركة الجلاء" بمنع البواخر الحربية الفرنسية من عبور قنال بنزرت، وألغى الاتفاقية القديمة، اتفاقية 1942، القاضية بجعل ميناء بنزرت "ميناء فرنسيا". والتأم في يوم 14 فيفري 1958، بالقاهرة، مجلس قيادة الثورة الجزائرية برئاسة فرحات عباس، ومارسوا ضغطهم على الولاياتالمتحدةالأمريكية باتهامها الواضح بتسليم السلاح للفرنسيين لقتل أبناء الجزائر وتشجيع الاستعمار الفرنسي على البقاء والسيطرة على الجزائر، كما اتجهوا بالخطاب إلى الرئيس جواهر لال نهرو يسألونه عن مدى استعداد البلدان الأفرو/آسيوية العضوة في الأممالمتحدة للاعتراف بحكومة جزائرية في المهجر، وأرسلوا ثلاثة من زعمائهم، كريم بلقاسم وشريف محمود وفرحات عباس يوم 17 إلى تونس لإطلاع حكومتها على فحوى قراراتهم. وهو ما عجل بتحرك الدبلوماسية الأمريكية والإنقليزية فاقترحتا على فرنساوتونس وساطة حميدة بقيادة الأمريكي روبارت مرفي *ٌRobert Murphy مساعد وزير الخارجية، والقنصل السابق للولايات المتحدةبالجزائر (1940-1943) والإنقليزي هارولد بيلي Harold Beely مساعد كاتب الدولة القار بوزارة الخارجية البريطانية. حيث ضبطت الحكومة الفرنسية مهمة الوساطة في ثلاث نقاط هي: النظر في وضعية الجنود الفرنسيين بتونس، ومراقبة الحدود الفرنسية التونسية، واستئناف المفاوضات الثنائية حول النزاع الفرنسي التونسي وخاصة المتعلق بالجيوش الفرنسية، وإن كانت تبدي عزما في الإبقاء على المطارات والرادارات وقاعدة بنزرت تحت تصرفها. وقد تدخلت تونس لتبين للوسيطين أن جوهر القضية هو حرب الجزائر، وأن مسألة جلاء الجيش الفرنسي عن تونس وحل المشكل الجزائري مسألتان مندمجتان مرتبطتان ارتباطا عضويا، وأن تونس متضامنة مع الشعب الجزائري الشقيق قولا وفعلا، وأنها على استعداد لمزيد التضحية من أجل الأشقاء الجزائريين حبّ من حبّ وكره من كره. واحتارت الحكومة الفرنسية ولم تكن قادرة على حل هذا المشكل وبدأ ضعفها أمام الضغط الأمريكي الإنقليزي من أجل "تدويل" صراع فرنسا مع الجزائر، وهو ما عجل بسقوط الحكومة الفرنسية يوم 15 أفريل 1958، وأنهى عمل "المساعي الحميدة" وكانت أحداث 13 ماي 1958 بالجزائر نتيجة مباشرة للاعتداء الفرنسي على ساقية سيدي يوسف ومن خلال ذلك يتضح أن الغارة الجوية الفرنسية التي استهدفت ساقية سيدي يوسف كانت عملية مخططة ومدبرة من أجل ضرب التضامن التونسيالجزائري والثورة الجزائرية في نفس الوقت، فقد ظن الاستعمار الفرنسي أن عدوانه على الساقية سينال من عزيمة تونس حكومة وشعبا نحو أشقائهم الجزائريين ومن عدم مواصلة المساندة والدعم لهم إبان الثورة التحريرية الجزائرية المسلحة وهو ما تعترف به الجزائر حكومة وشعبا نحو تونس وشعبها وزعمائها لأن السر يبقى كامنا أمام الأجيال الحاضرة كيف استمر ذلك التعاون النضالي الصادق بين الشعبين دون اتفاقيات مسبقة بين البلدين بينما توجد الآن بين العديد من البلدان العربية (مئات المجلدات) لا عفوا من الاتفاقيات دون تنفيذ وهي حبر على ورق. لقد اعتبرت تونس ذلك التعاون النضالي الصادق ضروري وأمنت بأن استقلالها يبقى منقوصا دون حصول شقيقتها الجزائر على استقلالها وأن مشاركة الجزائر الشقيقة في إحياء هذه الذكرى إلى جانب تونس كل سنة بوفد هام هو تعبير حيّ على الوفاء لأرواح شهداء الساقية، وعن الإيمان العميق بالماضي المشرف والحاضر المشترك والمستقبل الذي لا يمكن أن يكون إلا مشتركا في جميع المجالات السياسية والتجارية والثقافية والاقتصادية والنضالية والأمنية وغيرها. وهو تجسيد لإرادة نضالية صادقة لا تكل ولا تمل من أجل ازدهار ووئام ووحدة شعوب المغرب العربي. * مؤلف كتاب "ملحمة النضال التونسيالجزائري"