مكرهة لا بطلة.. هكذا يمكن وصف عودة الولاياتالمتحدة إلى طاولة المفاوضات حول النووي الايراني بعد أن لوحت طويلا بالخيار العسكري وبقوة على مدى الفترة الأخيرة، حيث من المقرر أن تستأنف هذه المفاوضات في قمة 5+1 التي ستستضيفها تركيا السبت المقبل. فهذا القرار أي المضي قدما في المسار التفاوضي، رغم فشله إلى حد اليوم في قطع الطريق أمام طموح ايران النووية الذي تم إعلانه من قبل الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام مؤتمر "آيباك"، لم يصدر في واقع الأمر عن رجل في موقع قوة يسعى جاهدا إلى استنفاذ جميع الحلول السلمية ويرفض استعمال القوة بل عن رجل في موقع ضعف ليس لضعف قدراته العسكرية، بل لارتهانه لمجموعة من العوامل والمتغيرات كبلت إرادته وحالت دون استجابته لرغبات ونزوات حليفته المدللة إسرائيل. فما هي هذه العوامل والمتغيرات التي أجبرت الولاياتالمتحدة على العودة إلى طاولة التفاوض حيال النووي الايراني؟ وهل سيمنع غياب الضوء الأخضر الأمريكي إسرائيل من الإقدام على الدخول في غمار حرب محفوفة بالمخاطر ضد ايران؟ وكيف ستتصرف واشنطن في صورة الإجابة بالنفي، هل ستتخذ موقع المتفرج حيال ذلك؟ ثم وأخيرا، هل أن تل أبيب تملك القدرة على انجاز المهمة بمفردها؟
عائق الانتخابات
لا للحرب.. نعم للضغط الديبلوماسي إزاء "النووي الإيراني".. هذه هي الكلمات التي صدع بها الرئيس أوباما أمام آيباك في حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتي شكلت صدمة لتل أبيب التي كانت تنتظر مباركة ودعما أمريكيا واضحا وغير مشروط في الإجهاز على البرنامج النووي الايراني، الذي تقول تل أبيب أنه قطع أشواطا كبيرة وبات يمثل تهديدا للأمن الإسرائيلي في المنطقة. ولعل من بين الأسباب الرئيسية التي حالت دون انتهاج الرئيس الأمريكي الخيار العسكري ضد ايران، سباق الانتخابات الرئاسية الذي بات على الأبواب، فأوباما لا يرغب في خسارة المزيد من الأصوات المؤيدة له داخل الولاياتالمتحدة بخوض هذه الحرب، خاصة في ظل رفض أغلبية الأمريكيين دخول الولاياتالمتحدة في خندق التدخل العسكري ضد طهران بعد غرق واشنطن في مستنقع العراق وأفغانستان الذي عاد بالوبال على الاقتصاد الأمريكي، بحيث تكبدت أمريكا خسائر مادية تقدر بمليارات الدولارات يوميا قبل انسحاب قواتها من العراق وكذلك في أفغانستان إلى حد اليوم. وقد أظهر استطلاع للرأي جرى مؤخرا في أمريكا، رفض خيار للتدخل العسكري في ايران لأنه ستكون تداعياته كارثية أكثر حتى من ترك طهران تتسلح نوويا. لكن معارضة أوباما ليس فقط على اعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل وإنما مشاركة واشنطن في هذه الحرب من شأنها أن تغير موقف اللوبيات اليهودية ذات النفوذ السياسي والاقتصادي الداعمة له قبيل الانتخابات، لذلك عمد الرئيس الأمريكي لاقناع سياسي تل أبيب ضرورة تأجيل هذه الخطوة على الأقل إلى ما بعد الانتخابات لكي يضمن دعمهم وعدم إقدام إسرائيل على ضرب ايران دون علم إدارة واشنطن التي ستجد نفسها في ثاني يوم مرغمة على الدخول في تلك الحرب وهو ما يخشاه أوباما.
مدى فاعلية الخيار العسكري
إلى جانب عامل الانتخابات الرئاسية، هناك أيضا شكوك في مدى فاعلية الخيار العسكري حيال النووي الايراني، فقد سبق أن صرح وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا، الرافض للخيار العسكري على الأقل في الوقت الراهن، بأنه لا توجد ضمانات في أن تصيب الغارات الجوية هدفها بضرب المنشآت النووية البالغ عددها حوالي 16 مفاعلا وفق ما كشفت عنه المخابرات الأمريكية (سي أي أيه) المتفرقة على الأراضي الإيرانية، فبعض المواقع يصعب الوصول إليها إضافة إلى قدرة البعض منها على مجابهة حتى القنابل الخارقة للتحصينات، ناهيك عن أن شن هجمات على المفاعلات النووية سيعمل في أحسن الأحوال على عرقلة البرنامج لعام أو عامين اضافة إلى أن استهداف طهران سيدفع هذه الأخيرة إلى التصميم على امتلاك ترسانة نووية سرا ، كما أن أية ضربة عسكرية في الوقت الراهن هي خدمة في حد ذاتها للنظام الحالي الذي يشهد اختلالا كبيرا بعد أن سحب المرشد الأعلى دعمه للرئيس الايراني أحمدي نجاد. كما أن التدخل عسكريا في ايران اليوم من شأنه أن يشعل حربا كارثية في الشرق الأوسط برمته، خاصة في ظل تشبث النظام السوري بسدة الحكم رغم التحركات الاحتجاجية المنادية باسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.. النظام الوحيد الحليف لايران وهمزة الوصل مع "حزب الله" اللبناني.
إسرائيل عاجزة
وفي ظل عزوف الولاياتالمتحدةالأمريكية على ضرب ايران، تظل إسرائيل غير قادرة على توجيه ضربات عسكرية للمنشآت النووية، وفق ما أجمع عليه خبراء ومحللون عسكريون لأن ضرب ايران يتطلب حوالي 100 مقاتلة على الأقل وهو ما تفتقره القدرات العسكرية الإسرائيلية، كما أن تنفيذ غارات جوية على المفاعلات النووية يتطلب التحليق لألفي ميل في مجال جوي غير ودي اضافة إلى المسافات التي ستحتاجها الطائرات المقاتلة لمراوغة الدفاعات الجوية والطائرات الايرانية، مما يصعب ويعقد المهمة أمام الطيران الإسرائيلي. فالقدرات العسكرية القادرة على وضع حد للبرنامج النووي الايراني تفوق قدرات إسرائيل، وفق ما صرح به مايكل هايدن المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية. وافتقار تل أبيب لمثل هذه القدرات العسكرية الهائلة دفع العديد من المسؤولين العسكريين والسياسيين إلى رفض انتهاج الخيار العسكري، مما كرس انقسامات وخلافات صلب الادارة الإسرائيلية، فمن دون الولاياتالمتحدة التي تملك هذه القدرات غير قادرة إسرائيل على ذلك. من المرجح أن الأمل ضئيل في أن تؤدي المحادثات النووية المستقبلية بين ايران والقوى العالمية الست إلى تحقيق الأهداف الغربية، تماما على غرار التجارب السابقة والتي لم تفرز تجاوبا يذكر من جانب ايران التي أصرت على مواصلة نشاطها النووي.. لكن يبدو في ظل الظروف الراهنة أنه لا خيار أمام الولاياتالمتحدة الآن على الأقل سوى طاولة المفاوضات وهو ما ستعمل طهران على استغلاله على أكمل وجه..