يحتدم الجدل هذه الأيام حول مسألة تفعيل العفو التشريعي العام وهي من أهم قضايا العدالة الانتقالية التي تشغل الحكومة والمجلس التأسيسي و سائر فعاليات المجتمع المدني وقد تمحور بين طرف داع إلى ضرورة الإسراع بتقديم التعويضات المادية و معارض لذلك بالدعوة إلى التأجيل بالنظر إلى أهمية الاستحقاقات الأخرى العاجلة كالتشغيل و المحاسبة و تأمين ظروف حياة اجتماعية واقتصادية مستقرّة تمكن البلاد من تخطّي المصاعب التي تعيشها .و إذا كانت حكومة الترويكا تقف بكل ثقلها و إصرارها من أجل الدّفاع عن حق ضحايا السجن و التعذيب و التهجير في التعويض الذي يرونه واجبا على الدّولة فإنّ بعض أحزاب المعارضة و أطياف متعددة من المجتمع المدني تقف على طرف نقيض من هذه الدعوة التي قد تؤدّي حسب وجهة نظرهم إلى تجريد قيم النّضال السياسي والاجتماعي من كل مصداقية سياسية و أخلاقية و روحية. لعلنا لا نخفي شعورنا بالتعاطف الكبير مع كل من تعرّض للاضطهاد و القمع وسلب حقّه و ضاعت زهرات شبابه بين أقبية السجون طيلة السنوات الماضية, فالواجب يقتضي مساندتهم من الناحية المبدئية و الأخلاقية وفي تأييد ضرورة تكفّل الدّولة بالتعويض لهم حتى نكرّس فعليا قيم المواطنة على أرض الواقع كي لا تظل مجرد شعارات جوفاء تردد في التظاهرات وترفع في سوق المزايدات السياسية.ومن شأن ذلك أن يفتح عهدا جديدا في العلاقة بين الدولة و المواطن تنبنى على الثقة الدائمة و الاحترام المتبادل و الحرص على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الفردية وهو ما تجسّد و لو بنسبة محترمة في تجارب دولية أخرى كبلدان أوروبا الشرقية و جنوب افريقيا و بعض دول أمريكا اللاتينية. لكن يبدو أن الإشكال الذي دفع إلى احتدام الجدل لم يكن النّاحية المبدئية و الأخلاقية لسن قانون تعويضات بل النّاحية السياسية منه إذ أن طرح مثل هذه المسألة بقوة عبر الاعتصام و التظاهرات والأبواق الإعلامية الحزبية في ظل مناخ اقتصادي و اجتماعي متوتر من شانه أن يثير الرّيبة و التساؤلات المشروعة التي قد تفضي إلى التشكيك في جدوى هذه التعويضات من حيث كونها مؤشرا بارزا على قيام نقلة نوعية في العلاقة بين الدولة و المواطن كما يؤملها الجميع. فلا أحد منا يشك أن المستفيدين الأوائل من تفعيل العفو ودفع التعويضات هم الغالبية الساحقة من المساجين السياسيين لحركة النهضة الذين زج بهم في السجون زمن نظام بن علي منذ بداية التسعينات وهم أكثر الناس حماسا و سعيا نحو سنّ قانون يفرض تعويضات مادية لهم و ربما قبل حل المشاكل المستعجلة التي أوقدت لهيب الانتفاضة العارمة ضد النظام السابق .ولعل ما يزيد في إثارة الشكوك بقوّة حول النوايا الحقيقية لهذه الحملة التي تؤيدها حركة النهضة و لا ترفضها الحكومة بل لا تقبل حتى بتأجيلها هو التناقض الصارخ في خطاب الحكومة الاجتماعي و الاقتصادي فمن ناحية يقر العديد من وزرائها بصعوبة الوضع الاقتصادي للبلاد و بعجز الميزانية عن حل أغلب المشاكل الاجتماعية كالتشغيل و الزيادات في الرّواتب و السيطرة على الأسعار و محدودية صندوق التعويض, وأن ذلك كله سيكون مشروطا بالتحسن في المؤشر الاقتصادي الذي يتطلب سنوات من العمل و تشجيع الاستثمار وربما قد يقتضي التقشف في مصاريف الدولة ومن ناحية أخرى يتحمس البعض من أعضاء الحكومة من أجل أن يسرع المجلس التأسيسي في سن قانون للتعويضات قد يكلف خزينة الدولة الكثير بالنّظر إلى ما تعرفه هذه الميزانية من عجز متواصل للميزان التجاري و بالنّظر إلى العدد الهائل من المساجين السياسيين و ممن حرموا من الشغل و الحياة الكريمة و الذين ينتمون في الغالب لحركة النهضة الحزب المهيمن على الحكم و السلطة الآن. لن نبحث في عمق الخلفيات التي تحرك هذا المطلب الذي جندت له حركة النهضة كل الوسائل للحصول عليه ( اعتصامات, تظاهرات تحسيسية, بيانات حزبية و تصريحات إعلامية و أحيانا تهديدات بالتصعيد) لكننا نرى في التصميم على انتزاعه و في الردود العنيفة و الهائجة على كل من يشكك في جدواه و آثاره السلبية على الواقع الحالي ما يلمح إلى أن الهاجس الأساسي لحركة النهضة هو الإبقاء على تماسك قواعدها التي بلغ اليأس لدى بعضها زمن الديكتاتورية إلى حدّ تحميل مسؤولية ما حدث لها من سجن و تشريد و خصاصة لسياسة القيادة الخاطئة وهو ما فسّر ربما بداية التفكك عندما آثر البعض مصالحة النظام القائم مقابل التخلي عن النّضال ( راجع تصريحات عبد المجيد النّجار في جوان 2010).. فهل كانوا حينها سيطالبون بالتعويض لو قبلت السلطة يومها المصالحة؟ ومن ناحية أخرى فإن تصريحات سمير ديلو المتكررة بأن التعويضات ليست منة من أحد قد يفهم أن مصدرها المرتقب ستكون موارد ميزانية الدولة أي ميزانية الشعب التي يسهر الفريق الحكومي على التصرف فيها رغم إنكاره لعدم وجود اعتماد في السنة الحالية لهذا المطلب. وقد يفهم منها أن تكون ضمن أولويات البرامج الحكومية القادمة في صورة مواصلة حركة النهضة قيادة البلاد لفترة سياسية مقبلة, وهنا يمكن أن نطرح جملة من التساؤلات التي لمّح إليها بعض نواب المجلس التأسيسي ألا وهي : هل الإصرار على مثل هذا المطلب هو مشغل يحركه أنصار حركة النهضة أم يقف وراءه فاعلون آخرون لهم وجهة نظر أخرى في مسار العدالة الانتقاليّة؟ بمعنى : ألم يكن من الأجدى لدى هؤلاء المتحمّسين الدعوة إلى التعجيل بفتح ملف المحاسبة و المصارحة و معرفة الحقيقة قبل التعويضات؟أم يكون التعويض بلسما يداوي جراح البعض مقابل غض الطرف عن الأجهزة الرهيبة التي كانت تقف وراء الانتهاكات والقمع و التعذيب و التشريد؟ و حينها هل سيفتح مطلب التعويض ملف المحاسبة المؤجّل أم سيغلقه نهائيا؟؟ نعم هي أسئلة تختمر في ذهني بعد الاعتصام قبالة المجلس التأسيسي و في ظل المساندة غير المشروطة لنواب حركة النهضة لهؤلاء الصامدين أمام أبواب المجلس رغم أن خطاب هذه الحركة قبل الانتخابات كان يتحدّث عن مظلومية الشعب قبل مظلومية أبناء الحركة فهل حلّت مظلومية الأول كي نتحدث اليوم عن مظلومية الثاني؟؟ سامي الرياحي مدرّس بالمعهد العالي للدراسات الأدبيّة و العلوم الانسانية