حق الحياة الحرة الكريمة عند الله لكل الناس: تضاف إلى إشكالية تعايش الأديان إشكالية أخرى ليست أقل خطورة من الأولى وهي تداخل الدائرة الفردية و الدائرة الجماعية حينما يتعلق الأمر بالدين. فما هي الحدود الفاصلة بين حق الفرد و حق المجتمع إذا لم يكن الدين قاسما مشتركا؟ بعبارة أخرى, كيف يدير الدين العيش الجماعي بين المتدين و غيره, بين المؤمن و الكافر, بين الصالح و الفاسد مع الحفاظ على وحدة المجتمعات و عدم الوصول إلى نهايات الفرز الديني و«التطهير» والتفريق المذهبي بين الناس. ما نلاحظه بشكل جلي و مبطن أن خطاب الدعاة والمتدينين ينتهي بالضرورة إلى تصور هلامي لمجتمعات مفروزة دينيا على أساس الأديان و المعتقدات. و الخلل الواضح في هذا الخطاب الإقصائي التطهيري هو في التناقض الصارخ بين مقدمات الخطاب القرآني وخلاصات التطهير العرقي و الديني لأفكار و أطروحات هذه المدارس و الحركات. إذا كان الدين الإسلامي دينا لكل زمان ولكل مكان فلا يمكن, كي يتحقق عدله و مفاهيمه, أن يقتطع جزءا من الناس و جزءا من الأرض ليقيم مجتمعه و نموذجه بعيدا عن الآخر, الأكبر منه, و يدعي في نفس الوقت قدرته على استيعاب و احتواء كل الناس و كل المجتمعات. إذا كان «الدين الإسلامي» خيارا صالحا - وهو كذلك على أية حال- يجب أن يضمن و يحمي أحوال كل البشر, عيشهم و أمنهم, على قواعد واحدة دون تمييز, ولا يفرز أتباعه و منظوريه عن غيرهم, و إلا لا تتحقق فيه خاصية الدين الإنساني الجامع و الشامل. مبدئيا, يجيب على هذه الإشكالات و الأسئلة كل من يعتبر أن الدين هو المنهج الأقوم و الأحسن للحياة البشرية و أفضل الأنظمة لتحقيق العدالة و السعادة الإنسانية. لذلك فالجواب يفترض أن يكون جوابا حقوقيا و عقائديا و فكريا ينطبق على جميع المجتمعات و صالحا لكل البيئات و في كل الأمكنة و الأوقات. كما يطبق هذا النظام في مكة يجب أن يكون قابلا للتطبيق في واشنطن و في الصين و في البلدان الإفريقية. نموذج التعايش البشري من خلال القرآن يجب أن يحل معضلات كل المجتمعات و يكون مثالا لنظام العيش المشترك والمتعدد يرقى فيه الإنسان إلى إنسانيته ويحقق به كماله الفكري و الروحي و الاقتصادي. أما الإدعاء أن النظام الإسلامي و تطبيق الشريعة كفيل بتحقيق العدل و الحرية و الكرامة للناس على أن نطبقه نحن على الناس فهذا لم يستقم و لن يستقيم. لم يعد ممكنا أن يتمترس أصحاب الفكر الديني أو الحل الديني أو الحركات الإسلامية وراء التجارب التاريخية للمسلمين على اعتبار أن هذه التجارب لم تكن في يوم من الأيام تجارب لمجتمعات عادلة, سواء بين المسلمين أنفسهم آو بين المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى. لقد كانت مجتمعات تميزت بسلطة مركزية غير شرعية عنوانها القهر السياسي و الحيف الاجتماعي والاقتصادي وقد عدلت في توزيع الفقر و التخلف و لم تفلح إلا في تأمين سلطتها بفرض الجباية و الضرائب. كانت هذه صلاتها الحقيقية. التعليم لم يكن حقا و لم يكن عاما و نفقة العلماء كانت على المجتمع يؤديها مباشرة على شكل مكافأة تختلف من واحد إلى آخر و كلنا يتذكر أجر مؤدب الكتاب. الرعاية الصحية لم تكن حقا و عامة برغم أن قائمة أطبائنا نفاخر بها الغرب. الحرية السياسية لم تكن موجودة والمساواة لم تكن قاعدة. رعاية السلطة المركزية لم تشمل منظوري الدولة الإسلامية بشكل كامل إلا حين تحتاج إلى الجنود و النفقات لتوزع الإتاوات و الضرائب. العدالة لم تتحقق إلا في الجباية وهي عدالة أداء و ليست عدالة انتفاع. والأدلة كثيرة و متعددة في غياب كلي للإرث المؤسساتي للرعاية العامة في تاريخ الدولة الإسلامية. نحن لم نرث مستشفيات ولم نرث مدارس و لم نرث بيت مال المسلمين و لم نرث ديوان إحصاء للأنفس و الرعايا ولم نرث سجلات للحالة المدنية. المؤسسة الوحيدة التي ورثناها من الدولة العثمانية هي مؤسسة لإحصاء الأملاك العقارية «دفتر خانة» و التي تعكس هما للكسب و التملك اكبر مما تعكس حسن إدارة أحوال الناس و تحقيق العدالة بينهم. هل يمكن أن تفتقر الخلافة الإسلامية, التي ينادي بها البعض, إلى نظام لتمويل النشاط الاقتصادي والإقراض حتى نشهد عمليات تركيب مشوهة للمالية الإسلامية و الإقراض؟ لم نجد في التراث ما يعيننا على بناء مؤسسات مجتمع عادل و نظام لتوزيع الثروة, لذلك نستعير من غيرنا نماذجهم وتنظيماتهم و إدارتهم, ثم نسبهم ونكفرهم. كل مكاسب المجتمعات العربية والإسلامية من مؤسسات و إدارة و أنظمة محلية ومركزية هي منتجات الحضارة الغربية. لم تأتنا على طريقة التبادل و التلاحق الحضاري بل جاءت من أبشع طرق الاستغلال و القهر, جاءتنا عن طريق الاستعمار والاستحمار نتيجة تخلفنا و خراب مضامين حياتنا و فقر فكرنا و إبداعنا. لا لدولة دينية بل دولة مؤمنة: لذلك علينا البحث عن «منظومة الدين» في إدارة شؤون الناس لا البحث عن منظومة إدارة شؤون المسلمين. و الفرق بينهما كالفرق بين السماء و الأرض. كل الذين ينظّرون- تشديد الضاد- إلى عدالة المجتمع الإسلامي يتصورون في أذهانهم مجتمعا خرافيا و وهميا قائما على قراءة طوباوية و خاطئة لتاريخ تجربة بشرية أصبغت على نفسها صفة القداسة و الطهر مع أنها مليئة بالانحرافات و الظلم و القهر السياسي و الطائفي و المذهبي. يرفعون شعار تطبيق الشريعة يختزلونه في الحدود الجزائية للجرائم و الجنايات على الأفراد, و كأننا مجتمع سجني مسكون بالانحراف و الإجرام لا يقومنا إلا التهديد بالقطع و القص و الرجم. امرأتنا عورة يجب دفنها و هي فتنة نخاف من وبائها الأخلاقي و نحن في حرب دائمة مع الآخر الكافر حتى تعلو كلمة الله. والحقيقة أننا في حرب دائمة حتى تعلو كلمتنا لنتحكم في رقاب الناس ندخلهم الجنة و النار قبل الله سبحانه و تعالى. كأن مهمة المتدين المسلم في الحياة الدنيا هي فرز الخلق بين النار و الجنة قبل يوم الحساب. هذا التصور المرضي لا يمكن أن يكون محتوى رسالة الإسلام القائم لفظا و معنى على السلام والمحبة وفعل الخير. علينا أن نبحث عن الآليات التي أنزلها الله ليقوم الناس كل الناس- بالقسط و يكون الدين قاعدة للحياة العامة و الخاصة يضمن أولا و أساسا حرية الأفراد و يحفظ أرواح و حقوق و كرامة البشر دون تمييز. إن قوة المجتمعات المتقدمة تكمن في قدرتها على ابتداع نظام اجتماعي يقوم أساسا على حفظ و ضمان الحقوق والحريات الأساسية. فالديمقراطية ليست نموذجا لنظام للوجود البشري المثالي بل آلية لحفظ نظام اجتماعي قائم على احترام الحريات و الحقوق. الديمقراطية تطبقها الأنظمة الليبرالية كما تطبقها الأنظمة الاشتراكية لذلك فليست الديمقراطية لازمة لنظام آو لفكرة, إنها مجرد تقنية لحفظ حقوق أساسية مشتركة و عامة. أما «الشريعة» في النظام المدني فهي القانون الذي يسري على كل الناس دون تمييز. فهل يكون البشر اعدل من الله الحكيم الخبير؟ بقلم: مصطفى البعزاوي* إطار بنكي