بعد عقد من رئاسة الوزراء قرر رئيس وزراء بريطانيا التنحي عن السلطة وترك مبنى 10 داونينغ ستريت في نهاية شهر جوان المقبل. ولئن لم يشكل قرار بلير هذا مفاجأة مدوية في الأوساط السياسية على اعتبار تسرّب خبر اعتزامه ترك رئاسة الوزراء منذ سبتمبر 2004 إلا أن تلميحه إلى خليفته في المنصب أثار عديد التساؤلات خصوصا أن العلاقة بين رئيس الوزراء الحالي والخليفة المحتمل مرّت بفترة عاصفة أنهتها تصريحات بلير في اسكتلندا حين قال «سيتولّى مواطن من اسكتلندا (في إشارة واضحة إلى براون) منصب رئيس الوزراء في بريطانيا وهو مواطن جعل اقتصاد البلاد واحدا من أقوى الاقتصاديات في العالم وسيكون واحدا من أعظم رؤساء الحكومات البريطانية». ترتيب قديم يبدو أن تولي غوردون براون رئاسة الحكومة خلفا لبلير لمدة الثلاث سنوات المتبقية من ولاية حزب العمال ليس قرارا جديدا بل هو ترتيب متفق عليه بين الرجلين (بلير وبراون) منذ سنة 1994. ففي مقال للكاتب إيان ديفيدسون مستشار مركز السياسات الأوروبي في بروكسيل تحت عنوان «هل يصلح غوردون براون للانتخاب؟» أن هذا الأخير كان يحلم بمنصب رئيس الوزراء منذ 12 ماي 1994 تاريخ وفاة جون سميث زعيم حزب العمال المعارض بنوبة قلبية وأنه ودائما حسب ما ورد في المقال بعد أسبوعين من حادث الوفاة الفجئي وتحديدا يوم 31 من ذات الشهر التقى براون وبلير بمطعم في شمال لندن وناقشا مسألة زعامة الحزب وانتهى بهما التشاور إلى اتفاق ينتحي بموجبه براون جانبا ليفسح المجال لبلير ويدعمه في ترشحه لزعامة حزب العمال على أن يتنازل طوني لغوردون عن منصبه فيما بعد.. ولكن متى وكيف؟ فتلك مسائل لم يقع الاتفاق عليها كما لم يكن في حسبان الجانبين التنبؤ بأن بلير سوف يمضي قدما إلى الأمام ويحقق ثلاثة انتصارات انتخابية متعاقبة لم يسبق لها مثيل لحزب العمال (19972001 2005)... وبعد 10 سنوات يبدو أن طوني بلير وفي ظل الضغوطات المنادية برحيله والتي تصاعدت في الآونة الأخيرة بسبب الحرب على العراق بدرجة أولى وبسبب ملفات أخرى.. أدرك أن عليه ان يتنحى كما ان عليه أن ينفّذ جانبه من صفقة 1994. هكذا يقيّم البريطانيون فترة حكم بلير رغم بعض الاصلاحات التي شهدتها بريطانيا خلال رئاسة بلير للحكومة ولا سيما على المستوى الاقتصادي فإن البريطانيين أثبتوا انهم لا يتذكرون من حكم بلير سوى إرثه الدموي في إشارة واضحة إلى توريط بلادهم في الحرب على العراق. ففي استطلاع نشرته جريدة الاندبندنت أظهرت النتائج أن 69% ممن شاركوا في الاستفتاء لن يتذكروا من عهد بلير سوى الحرب على العراق في حين اعترف 9% من المستجوبين أن ما سيبقى عالقا في ذهنهم هو العلاقة بين بلير وبوش. أما صحيفة «ديلي تلغراف» ففي استطلاع حول تقييم البريطانيين لفترة حكم بلير جاء أن 48% من البريطانيين يعتقدون أن الأمور ساءت منذ وصول بلير إلى مبنى 10 داونينغ ستريت في حين لم ير 19% أي تحسن مقابل 26% اعتبروا أن الأمور تحسنت نسبيا. وفي ذات الاستطلاع عبر 39% من البريطانيين عن سعادتهم لرؤية رئيس وزرائهم يغادر داونينغ ستريت أما الذين يعتبرون أن بقاءه أو رحيله لا يمثل أي شيء بالنسبة إليهم فكانت نسبتهم 39% في حين أعرب 20% منهم عن حزنهم لمغادرته سدّة الحكم.. وحول تقييم آداء بلير في العشر سنوات الماضية أعلن 45% من المستطلعين آراؤهم أنه سيء أو سيء للغاية. هل يكون الخلف أفضل من السلف؟ باستثناء حدوث مفاجأة سياسية أو قدوم مرشح عمالي آخر لينافسه على دور زعيم حزب العمال الذي سيصبح شاغرا بعد رحيل بلير (وهو أمر يستبعده الخبراء والمحللون) فإن التوقعات كما أسلفنا تؤكد أن غوردون براون هو من سيدخل مبنى داونينغ ستريت هذه الصائفة.. ودخول هذا المبنى سترافقه جملة من التساؤلات. هل سيكون براون نسخة طبق الأصل من سلفه؟ أم انه سيحمل معه تغييرات على السياسة البريطانية؟ وهل سيحافظ على ذات العلاقة التي رسخها بلير والتي تجمع بين الحليفتين أمريكا وبريطانيا؟ يبدو في نظر الكثير من الخبراء انه من السابق لأوانه الحديث عن تغيرات جذرية في السياسة البريطانية على خلفية أن براون كان من المقربين جدا إلى بلير وعمل معه كثيرا داخل حزب العمال بل ثمة من يرى أن تأثير شخصية بلير السياسية باد على براون رغم اختلافه معه حول الكثير من الملفات والقضايا. ما يحسب لبراون أنه نجح طوال ال10 سنوات الماضية في إلغاء الصورة السلبية التي التصقت بحزب العمال والمتمثلة في عدم ائتمانه على إدارة أمور الاقتصاد بل يعتبر هذا الرجل من أبرز وزراء المالية في التاريخ البريطاني لكونه نجح وبشكل ملفت في ترتيب أولويات الاقتصاد البريطاني إذ عمل بدءا على تقليص التضخم ثم على تخفيض أسعار الفائدة كما توصل إلى تحقيق الاستقرار للموارد المالية الحكومية. ونتيجة لإصلاحاته شهدت بريطانيا عقدا من الزمن لم تشهد نظيرا له من قبل ارتفعت فيه معدلات النمو الأمر الذي جعل اقتصاد بريطانيا واحدا من أهم الاقتصاديات في العالم كما جعل من براون نفسه واحدا من أهم رجالات حزب العمال. وإذا كانت سمعة براون فيما يتصل بإدارة الاقتصاد والسيطرة عليه لا نقاش فيها فالأسئلة عديدة حول السياسات الحكومية الأخرى لعل أكثرها إلحاحا.. هل سيواصل سلك نفس السياسة التي انتهجها بلير ويخسر امكانية الفوز بالانتخابات التالية التي ستجري بعد 3 سنوات؟ هل سيغير سياسته؟ وماذا يمكنه أن يغير؟ يقول العديد من المحللين السياسيين أن براون كان يلتزم الصمت حيال الكثير من قرارات بلير السياسية مع أنه كان يبدي امتعاضا من البعض منها لعلمه أنها تتعارض وما يريده الشعب البريطاني لذا يرى هؤلاء أي المحللون أن أول اختبار حقيقي لبراون هو ملف العراق فإذا كان بلير أعلن في 21 فيفري الماضي اعتزامه خفض عدد الجنود البريطانيين في بلاد الرافدين فينتظر أن يغير خليفته الخطاب حول الحرب ذاتها لكونه أقل اقتناعا بدواعيها مقارنة مع سلفه. يقول جون كورتيس أستاذ العلوم السياسية بجامعة «ستراتكلايد» في اسكتلندا «خلافا لبلير فإن براون لا يشير إلى أن الحرب في العراق هي جزء من الحرب على الإرهاب» مضيفا «إن هدف براون الأول يكمن في الخروج من العراق بأسرع وقت ممكن». وفي الواقع فإن مثل هذا القرار يبدو نظريا سهلا ولكن تطبيقيا يحتاج إلى الكثير من الجرأة فهل يجرؤ براون فعلا على اتخاذ قرار بالانسحاب من العراق لإدراكه أن النصر فيها مستحيل بالاضافة إلى إدراكه العميق أن رضوخ بريطانيا لإرادة إدارة بوش تقابله احتجاجات وتململ في صفوف الشعب البريطاني. واذا أقدم براون حقا على هذه الخطوة فإنه وحسب المحللين السياسيين سيفجر جدلا كبيرا بشأن علاقة بريطانيا بأمريكا أما إذا لم يفعل فسوف يكون حتما رئيس وزراء محكوما عليه أن يقضي الثلاث سنوات المتبقية من ولاية حزب العمال بلا أمل في الفوز في الانتخابات التالية. افريقيا موضع اهتمام براون... ولكن ماذا عن أفغانستان؟ الأشخاص الذين يعرفونه براون جيدا يقولون أن افريقيا والعدالة الاجتماعية تستأثر باهتمامه. يقول الصحفي والكاتب توم باور الذي ألف كتابا عن براون في 2004 «إن براون يحب افريقيا ويهتم بالمواضيع من قبيل المساعدات وتخفيف عبء الديون وكذلك يؤمن بالعدالة التجارية.. كما أنه غير متحمّس لسياسة التدخل عسكريا في حال وجود انتهاكات حقوق الإنسان أو القانون الدولي.» أما عن أفغانستان فيتوقع الخبراء أن يظل براون حبيس السياسة الحالية لأن نظرة البريطانيين للحملة هناك مختلفة كثيرا عن نظرتهم للحرب في العراق. هل ستتأثر العلاقة البريطانية الأمريكية؟ يرى الخبراء والمحللون أنه على الأمريكيين الاستعداد للتعامل مع شخصية مختلفة عن «صديقهم» بلير.. شخصية أكثر حذرا وأقل انسياقا وعليه يتوقع شق كبير من الخبراء أن يستعد البيت الأبيض جيدا لتغيير كبير في أسلوب التعامل بين البلدين قد يمس جوهر العلاقة ذاتها. التكهنات تقول أنه من المنتظر أن يشدد براون وعن قصد على الاختلافات بين لندن وواشنطن خصوصا حيال ملفات ذات بعد دولي على رأسها التغير المناخي والمحكمة الجنائية الدولية وفي هذا الإطار يقول إيان جيبسون البرلماني العمالي «يتوقع أن يكون براون أكثر حزما وصرامة مع أمريكا». ... وماذا عن أوروبا؟ براون كما يقول من يعرفوه لا تستميله العلاقات مع أوروبا بدليل ظهوره المحدود في بعض الاجتماعات بالإضافة إلى أنه نادرا ما يزور القارة.. حتى في العطل فأنه كان يختار وجهة أخرى غير أوروبا.. ويبدو وحسب المحللين أن الأوروبيين لن يكونوا سعداء بدورهم بوصول براون إلى رئاسة الوزراء في بريطانيا لأنه لم تصدر عنه مؤشرات خلال سنوات عمله مع بلير تدل على حرصه على تعزيز التحالف الأوروبي رغم أن طوني بلير قد سعى طوال فترة حكمه إلى تقريب بريطانيا من القارة الأوروبية. والآن... ماذا تخفي الأيام المقبلة لبريطانيا بقدوم غوردون براون؟ هل سينجح في استمالة البريطانيين بانتهاجه سياسة جديدة تعيد لهم الثقة في حكومتهم؟ أم أن الأمر لن يكون سوى تنفيذ فعلي لصفقة 1994 تستمر معه السياسة «البليرية» تحت غطاء «براوني»؟