يستمدّ قطاع التّعليم العالي خصوصيّته من جملة من المبادئ العامّة تسمّى "المبادئ الأساسيّة للتّعليم العالي" وهي مبادئ لها جذورها في الدّستور التّونسي وبالتّالي تحظى بقيمة دستوريّة وجب احترامها والخضوع لها من طرف القانون (التّشريع) وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: * مبدأ استقلاليّة الجامعة والجامعيين. * مبدأ الحرّيات الأكادميّة. * مبدأ حماية المرفق العامّ للتّعليم. ويمثّل مبدأ الإستقلالية الضّمانة الأساسية الممنوحة للتّعليم العالي وقد نصّ الفصل 34 من الدّستور على أن تتخذ شكل قوانين النّصوص المتعلّقة "بالضّمانات الأساسيّة الممنوحة للموظّفين المدنيين.." كما نصّ نفس الفصل على "ضبط القانون للمبادئ الأساسيّة للتّعليم". 1 - مبدأ إستقلاليّة الجامعة ورهان الدّيمقراطيّة الإداريّة. ويعتبر هذا المبدأ ضمانة للجامعات أو مؤسّسات التّعليم العالي لا فقط بوصفها مؤسّسات عموميّة قائمة من حيث تعريف المؤسّسة العموميّة على مفهوم الإستقلاليّة، بل بوصفها بالخصوص مؤسّسات عموميّة قائمة بنشاط علمي وأكاديمي اقترن تسييره بالطّابع التّشاركيparticipatif لتنظيمه بحيث يقع تمثيل الأطراف المشاركة والمعنيّة بهذا النّشاط المناط بعهدتها، كما يعهد بمسؤوليّة تسيير هذه المؤسّسات إلى هياكل مداولة منتخبة (مجالس أقسام،مجالس علميّة في مستوى المؤسّسات، مجالس جامعات في مستوى الجامعات ومجلس وطني ) وهياكل تنفيذ منتخبة أيضا (رؤساء المؤسّسات ورؤساء الجامعات)، على أن تخضع في ذلك إلى إشراف الدّولة. ولا يفوتنا في هذا الإطار أن نذكِر بأسس هذا التنظيم التي ارتقت إلى مرتبة المبادئ العامّة المعتمدة قطريّا ودوليّا (من خلال اتّفاقيات اليونسكو) من ذلك أنّ النشاط الذي نساهم في إنجازه كمدرِسين وباحثين في قطاع التًعليم العالي، هو نشاط مرفق عامّ un service public تتعهده الدّولة باسم المجموعة الوطنيّة ولصالحها بالتنظيم والتمويل والتسيير لارتباطه بوظيفة اجتماعية موضوعة على كاهلها، أساسها حق الفرد في التعليم والتكوين. وتتميّز هذه الوظيفة علاوة على ارتباط محتواها بمنظومة حقوقية قوامها حق الفرد- المواطن في التعليم - في إطار احترام حريّته الفكريّة والثّقافيّة ومبدا استقلاليًة الجامعة والجامعيِين، بأهمِية دورها في تنمية الموارد البشرية الضرورية لتحقيق التنمية الشاملة، ممّا يجعلها مسرحا لتفاعل وتشابك المصالح. كما تجدر بنا الإشارة إلى أن هذه الأبعاد المتصلة بقطاع التعليم العالي تنتهي إلى إفراز جملة من المصالح تجسدها أطراف مختلفة توجد في مواقع مختلفة من العمليّة التربويّة أو التعليميّة : المصلحة العامّة للمجموعة الوطنيّة والتي يسهر على حمايتها جهاز الدولة في إطار السهر على تنفيذ السياسة العامّة، والمصالح الخصوصيّة للمدرّس (enseignant) والطالب المنتفع،(l'usager-enseigné) ثمّ مصالح فئات أخرى من المجتمع المدني المتعاطيّة مع القطاع والتي تشكّل المحيط الإجتماعي الذي تفرض اعتبارات النًّجاعة وكذلك سيرورة تشكّل المؤسّسات داخل النسيج الاجتماعي، الإنفتاح عليه والتفاعل معه. وهي اعتبارات يستوجب التًّسيير الديمقراطي للقطاع أخذها بعين الاعتبار لإيجاد توازن بين مستلزمات الوظيفة الإجتماعية للتعليم ومتطلبات الحرّيات الفكريًة والأكادمية المرتبطة بالأطراف المشاركة فيه كأفراد وكمجموعات، علما وأنًّ هذا التًّوازن يصعب أن يتحقق خارج تنظيم تشاركي participatif وتمثيلي، تميّزت به المؤسسات الجامعيّة والعلميّة عن باقي المؤسسات الإداريّة الأخرى وارتبط في الوقت الراهن بمقومات "التسيير الرشيد للجامعة La gouvernance universitaire" ويتم من خلاله تشريك هذه الأطراف بدءا en amont عند وضع القوانين واتخاذ القرارات، ومؤخًّرا en aval خلال عمليًّة التًّسيير الفعلي للنًّشاط. وننتهي في هذا الصدد إلى الوقوف عند الآثار المترتّبة عن هذه الخصوصيّات ذلك أنّ العلاقة التجاذبيّة بين الوظيفة وتنظيمها تحول دون إعتبار عمليّة التنظيم مجرّد عمليّة تقنيّة بحتة تندرج في ما يمكن تسميته "بقانون الوسائل" droit de moyens"، لأنّ نجاعتها متوقّفة على مدى توفيرها للضًّمانات الضًّروريًّة لتحصين الوظيفة التًّعليميًّة بإحترامها للمعادلات المذكورة آنفا في إطار منظومة متكاملة تستوجب: - صياغة دقيقة وشاملة للأهداف ضمن رؤيا استراتجية للتعليم العالي والبحث العلمي يتكامل من خلالها التدريس والتكوين مع البحث العلمي مع احترام حد أدنى من التوازن بين مختلف مسارات التكوين وتحصين مجالات البحث والتكوين الأساسيين. - ضمان مشاركة كل الأطراف المعنيًة بالقطاع في كافة المراحل التي تمر بها السياسة العامة بدءا من وضع التصورات إلى تنفيذها لتنتهي إلى تقييم نتائجها وذلك بضمان تمثيلهم داخل هياكل المداولة سواء على مستوى وطني أو على مستوى الجامعات أو مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي وإرساء آليات تشاور معهم. كما يمثّل مبدأ الإستقلاليّة ضمانة للجامعيين من حيث كونهم موظّفين عموميّين لهم نظامهم الخاصّ الذي وجب أن يضمن عدم تبعيّتهم في أداء وظائفهم للسّلطة الإداريّة. ويجد هذا المبدأ في الحرّيات الأكادمية رافدا له ذلك أنّه حتّى يتسنّى للأساتذة أداء وظيفتهم في تكوين العقول وجب أن لا يتمّ الحدّ ضمن نظامهم الأساسي من الحقّ في التّواصل الحرّ للأفكار والآراء كامتداد طبيعي لحرّية التّعبير كحرّية مضمونة دستوريّا صلب الفصل 8 من الدّستور التونسي. ويعدّ مبدأ الحرّيات الأكادمية كذلك الضّامن الفعلي لمبدا الإستقلالية إذا اقترن بحقّ الأستاذ الباحث أو بالأحرى واجبه في تحمّل مسؤوليّة إدارة المؤسّسات الجامعيّة والجامعات والمشاركة عبر مؤسّسة الانتخاب للتّرشّح لهذه المسؤوليات أو لاختيار ممثّليه أو لتقييم أدائهم طبقا للمعايير المتّفق عليها. ولا يسعنا في هذا الإطار إلاّ أن نعبّر أسفنا واحتجاجنا على التّمشّي الذي تنتهجه وزارة الإشراف في صياغتها لمشروع "القانون الإطاري للتعليم العالي" إذ عمدت إلى مواصلة تغييب مبدا "الحريات الأكادميًّة والعلميًّة" وكذلك "مبدا إستقلاليّة الجامعة" من النًّصًّ التًّشريعي. كما أنّ هذا التّمشّي قد بدّد الأمل في تصحيح النّصّ الجديد للمفهوم المغلوط للجامعة ولاستقلاليًّتها الوارد في النّصّ السّابق حيث احتوى هذا الأخير على مفارقة إذ أنّه أوّل نصّ يكرس في عبارته "مبدأ إستقلاليّة الجامعة"(الفصل الثاني من قانون89) لينحرف به عن معناه الأصلي بحيث أنّه لم يرتّب أيّة ضمانة فعليّة الأطراف المعنيّة به. ويرجع ذلك إلى انًّ" الجامعة" في نظر الوزارة ليست هيكلا وإطارا أكاديميا بالشكل المعمول به في أنظمة أخرى مقارنة (أوروبية وعربيّة) وإنّما هي هيكل إداري يراقب ويشرف على المؤسسات الجامعيّة في مستوى الجهات لتخفيف العبء على وزارة الإشراف وتنفيذ قراراتها خاصة إذا ما رجعنا إلى تنظيمها الإداري حيث نلاحظ الأهميّة التي يكتسيها دور رئيسها المعيّن من قبل الإدارة ومصالحه الإداريّة المشتركة بالمقارنة مع حالة التبعيّة التي يوجد فيها مجلس الجامعة الذي وضع تحت تصرف رئيسه سواء فيما يتعلّق بتاريخ انعقاده أو بجدول أعماله. في المقابل سلبت الهياكل الممثّلة داخل المؤسسات هذه السلطة في التسيير العلمي والبيداغوجي والإداري إذ إقتصر دورها على إبداء آراء غير ملزمة للسلطة المشرفة عليها جهويًّا ووطنيًّا. وتواصل الوزارة رفضها لمطلب الجامعيين لانتخاب رؤساء الجامعات بناء على مغالطة جديدة من خلال إخضاع انتخاب رؤساء الجامعات لشرط اعتمادها على مصادر تمويل "غير عمومية" تبرّر إنتخابهم من قبل هيأة المموّلين إن جاز القول، وفي غياب ذلك يفقد ذلك المطلب أساسه الموضوعي(حسب قولها) نظرا لتمويل الجامعات التّونسيّة عن طريق ميزانيّة الدّولة ممّا يستوجب تعيين المتصرّفين من قبل الدّولة. هذه الإجابة مردودة لعدة أسباب من أهمها: × أنّ رؤساء الجامعات في كلّ البلدان المتقدّمة هم منتخبون من طرف زملائهم إعمالا لمبدأ إستقلاليّة الجامعة والجامعيين، هذا المبدأ الذي يبوّأ عندهم منزلة المبدا الدّستوري الذي تحمل التّشريعات على احترامه. ويجدر بنا أن لا نخلط بين هذه المؤسّسة ومؤسّسة "رئيس الأكاديميّة"Le recteur، التّسمية التي تطلق خطأ على رئيس الجامعة في تونس، ذلك لأنّ الأوّل يمكن أن يعيّن على عكس رئيس الجامعة. × أنّ الرّبط بين مبدإ الإنتخاب وطريقة التّمويل عن طريق المؤسسات الخيريّة في غير محلّه لأنّه يرجع بنا إلي تاريخ بعيد لنشأة المؤسّسات الأكاديمية في البلدان الغربيّة فإنّ الجميع يعلم أنّه تمّ تركيز تعليم عال عمومي في كلّ الدّول المتقدّمة يتمّ حاليا تمويل نفقاته عن طريق الموازين العموميّة دون أن يمنعها ذلك من اعتماد مبدا الإنتخاب. 2 - إستقلاليّة الجامعة ورهان الجودة. تشمل المبادئ الأساسية حسب تأويل الفقهاء إلى جانب "مبدأ إستقلاليًّة الجامعة والجامعيين" و"الحرِّيات الأكادميًّة"، جملة المبادئ التي تحكم تسيير القطاع بوصفه مرفقا عامًّا service public وهي علي التًّوالي : المساواة في الدُخول إلى الجامعة وفي المعاملة والحظوظ بين كافًّة المنتفعين من طلبة وأساتذة ثمًّ ضمان السًّير العادي للنًّشاط بما يضمن استمراريًّته continuité du service public وتأقلمه adaptabilitéالمتواصل مع حاجياتهم من حيث كمِّ الخدمات وجودتها. ولقد تمّ تعزيز قائمة المبادئ العامّة، أي "المقاييس" التي يخضع لها تسيير مرفق التّعليم العالي على غرار بقيّة النّشاطات المرفقيّة الأخرى، بجملة من المبادئ الجديدة والمستحدثة تهدف إلي إخضاع النّشاط إلى "مقياس الجودة" la qualité وما يستوجبه من "تقييم" لأداء المؤسّسات والأشخاص من ناحية، وكذلك ما ينجرّ عنه من "عقلنة" للتّصرّف في إمكانيّات القطاع وتوظيفها لتقديم أجود الخدمات لكلّ المنتفعين في ظلّ المبادئ العامّة المذكورة آنفا. وهذا من شأنه أن يثير عديد الإشكالات المتعلّقة بتحديد محتوى هذه المبادئ والمقاييس وإخضاعها إلى مقتضيات "استقلالية الجامعة" من خلال آليات تجسيدها،حتّى يتسنّى لنا الإرتقاء بمردوديًّة الجامعة العموميًّة وجودة خدماتها وقدرتها على مواجهة تحديات المرحلة القادمة بكلفة اجتماعيًّة وسياسيًّة غير مجحفة بالنسبة للمجموعة الوطنيًّة. ويجدرالتّأكيد على أنّ هذه المسائل تندرج في صميم المبادئ الأساسيّة للتّعليم العالي التي جعلها دستور البلاد من اختصاص المشرّع يباشرها في شكل قانون (الفصل 34 من الدّستور) يضمّنه: × تحديدا واضحا لهذه المفاهيم الجديدة كالتّقييم والجودة والاعتماد حتّى تكون مقاييس تحتكم إليها الأطراف المعنيّة وتتحدّد على أساسها شرعيّة وجدوى عمل أنظمة ومؤسّسات القطاع. × تنصيصا على الضّمانات الضّروريّة حتّى تكون آليات تفعيل هذه المقاييس الجديدة من ناحية محترمة لمقتضيات تحصين الوظيفة الاجتماعيّة للقطاع (لكي لا تكون الجودة مجرّد غطاء لخوصصة القطاع أو لخوصصة موارده) ومن ناحية أخرى مكرّسة لمشاركة الأطراف المعنيّة (طلبة وأساتذة باحثين) في وضع معايير موضوعيّة وواضحة بعد التّداول في شأنها من قبل الهياكل التّمثيليّة بدءا بالمجالس العلمية، ثمّ مجالس الجامعات ليتمّ تنسيقها داخل هيكل وطني خاصّ بالتّعليم العالي والبحث العلمي. وتهمّ هذه المعايير والمقاييس على الأقلّ المسائل التّالية: - توزيع الخارطة الجامعيّة. - معايير الإشراف على المؤسّسات الجامعيّة. - مقاييس توزيع عناوين الميزانيّة ومعايير اعتماد برامج الأهداف الخاصّة بالمؤسّسات. - موضوع عقود البرامج المزمع إبرامها في إطار برنامج دعم الجودة. - مقاييس ترتيب برامج الإستثمار والتّجهيز. - معايير الجودة ومقاييس تقييمها بشكل واقعي يأخذ بعين الإعتبار خصوصيّات المؤسّسات. × تنصيصا على ضرورة إدراج إلزامية العمل بمساءلة الهياكل القائمة بتنفيذ البرامج والقرارات في كافّة مستويات التّسيير إعمالا لثقافة التّقييم والمساءلة في تسيير المرافق العموميّة بحيث تقوم الهياكل التّنفيذيّة بتقديم تقارير دوريّة حول إنجاز البرامج ونتائجها ويكون ذلك كالآتي: - مراجعة رؤساء المؤسّسات للمجالس العلميّة. - مراجعة رؤساء الجامعات لمجالس الجامعات. - مراجعة الوزير للمجلس الأعلى للتّعليم العالي والبحث العلمي وللسّلطة التّشريعية. * كما يستوجب الأمر أيضا ولضمان تماسك المنظومة ألاّ يتضمن مشروع القانون إحالة إلى السلطة الترتيبية (التي تمارس عن طريق الأوامر) فيما يتعلق بالمبادئ الأساسية ومعايير تجسيدها، كما يستحسن أن يتم إعداد النصوص الترتيبية بشكل متزامن مع مشروع القانون والتشاور مع ممثلي إطار التدريس في شان محتواها. (*) أستاذ تعليم عال