كان العرض الذي أحياه كل من التركي حسنو سنلندريسي واليوناني فاسيليس سالياس في سهرة أول أمس على ركح المسرح الأثري بقرطاج في مستوى تطلعات الأعداد الهامة من الجماهير التي جاءت للاستمتاع والبحث عن أداة تواصل أخرى مع الشعوب والحضارات والثقافات مختلفة عما هو مألوف ومتعارف عليه في "الكلمة" كتعبيرة مباشرة لها دور في توجيه اهتمام المتلقي. فكانت السهرة موسيقية بحتة جمعت ثقافتين وحضارتين وبلدين طغى الاختلاف والتنافر على تموضع كل منهما في الخارطة الثقافية والسياسية في مواقف ومراحل معينة ليكون التوحد والاتفاق حول معطى جمالي إنساني قوامه الإبداع الموسيقي في تونس وأمام جمهور نوعي منفتح على الإبداع الفني والثقافي باختلاف جنسياته ولغاته. ليلتقي الجميع في مناسبة تحمل مطلبا مشتركا بين الطرفين ينتصر للابداع الموسيقي. لقد نجحا في تحويل الموسيقى إلى لغة للتخاطب وأداة تبليغ لأفكار وعامل مؤثر في الأحاسيس ومحرك للمشاعر على نحو أخذ فيه هذا الثنائي الحاضرين على امتداد أكثر من ساعة ونصف في رحلة إلى عوالم خيالية ليكون لسحر المكان الذي زادته الإضاءة رونقا وسحرا بعدا تأثيريا تجسد في حمل الجميع للتجنيح في أفق كون حسّي روحي لكل فرد فيه حرية الفهم والتفاعل.
ليثتب هذا الثنائي من خلال قاسم مشترك وحّد بين تجربتين ورؤيتين تحيلان إلى ثقافات وموسقيات مختلفة تمثل في "الكلارينات" كآلة موسيقية صنعت شهرة ومجد هذين الموسيقيين على مستوى عالمي. وشكلت مصدر إبداع وتمثل لثقافات هذا الثنائي وللعالم والقضايا الانسانية التي يدافعان عنها في أعمالهما ممثلة في المقطوعات الموسيقية التي تتضمنها ألبوماتهما.
ولم يقتصر العرض الموسيقي على العزف على آلة "الكلارينات" فحسب بل رافقت الثنائي المذكور مجموعة موسيقية تتركب من عازفين على آلات أخرى إيقاعية والكترونية ووترية. مما جعل العرض يكون متكاملا وأشبه ما يكون بعرض موسيقي فرجوي ساهم تحرك بطلاه بخفة على الركح وتفاعل الجمهور مع المعزوفات في إضفاء أجواء خاصة جدا على الفضاء لاسيما في ظل السكون التام الذي خيّم على الجمهور.
تبادل مدروس للأدوار بدا من خلال العرض أن بطلي الكلارينات قد أعدا بدقة تفاصيل هذا العرض المشترك الذي افتتحه التركي حسنو سنلندريسي بمرافقة مجموعته الموسيقية التي يسميها بأصدقائه في التأسيس للموسيقى التركية الحديثة من خلال معزوفة أرادها تحية لتونسالجديدة ولجمهور مهرجان قرطاج الذي يعتبره مكسبا لتجربته وموسيقاه. ليكتمل المشهد في العرض الفرجوي لدى الحاضرين بصعود فاسيليس سالياس الذي شاركه معزوفة موسيقية معلنين أن "الكلارينات" يمكن أن تزيل الاختلافات وتوحد المسامع والميولات وتنشر أجواء الفرح والسعادة رغم اختلاف المرجعيات. وذلك من خلال الحوار الموسيقي الذي اسمتع به الحاضرون وتفاعلوا معه بالتصفيق والهتاف.
ليفسح المجال إثر ذلك إلى العازف اليوناني الذي قدم وصلة من المعزوفات التي تراوحت بين موسيقى الغجر واليونان التي اشتهر بها حتى أن البعض من الحاضرين طالبوه ببعض المعزوفات التي تحمل إسم البوماته على غرار "أوراما" orama وإزمير وغيرها. ولئن اكتفى فاسيليس سالياس بالعزف كأداته في التواصل مع الجماهير الحاضرة فإن الموسيقي التركي اختار أن يخاطب الحاضرين لكن باللغة التركية إلا أنه ربما غاب عنه أن أغلب التونسيين لا يتقنون اللغة التركية مما جعل الحضور لا يتجاوب معه في الحوار على النحو الذي كان عليه في المعزفات الموسيقية. كما قدم معزوفة خاصة لأغنية صابر الرباعي ّيا للا " رددها معه الجمهور بالصوت. فيما كان للموسيقى العربية حضورا في برنامج الموسيقي اليوناني من خلال عزف أغنية "قدك المياس". أما الجزء الأخير من السهرة فأراده هذا الثنائي حوارا مفتوحا بين ثقافتين وتجربتين موسيقيتين من خلال رمزين في العزف على هذه الالة الموسيقية الحديثة أبدعا فيه إلى حد أن الجمهور انخرط في العرض ليصبح الحوار مفتوحا على ثقافات وأزمان وأجيال مختلفة مما ارتقى بالعرض ليكون إنسانيا.