الاغتصاب في شريعة الدكتاتوريين سلاح من الاسلحة القذرة "المباحة" في الحروب والصراعات العرقية والقبلية لاستضعاف الشعوب وكسر ارادتها واستهدافها في أعراضها... تلك حقيقة لا يختلف بشأنها المؤرخون وعلماء الاجتماع. في المقابل فإن جرائم الاغتصاب التي تبتلى بها المجتمعات عندما يغيب القانون تبقى من الجرائم التي لا تغتفر والتي تستوجب المحاسبة والمساءلة بما يستوجب تحقيق العدالة ولا شيء غير العدالة... كل المؤشرات باتت تؤكد أن الجدل الحاد الذي أثارته قضية الفتاة مريم الضحية المغتصبة-التي تحولت الى مذنبة- مرشح للتفاقم في ظل غياب الحقيقة في واحدة من القضايا التي صدمت الرأي العام التونسي وهزت المجتمع المدني وحركت المنظمات الحقوقية في الداخل والخارج... وسواء كانت دعوة مريم للتحقيق بتهمة المجاهرة عمدا بالفاحشة، وهي التي تحولت من ضحية الى مذنبة، محاولة للابتزاز لدفعها للتراجع عن القضية، أم رسالة مضمونة الوصول الى غيرها من الضحايا لدفعهن الى الصمت أو التنازل عن حقهن في العدالة تجنبا للفضيحة وهروبا من المواجهة، فقد وجب التعاطي مع هذه القضية بكثير من الجرأة بهدف تحقيق العدالة ولا شيء غير العدالة... قد لا يكون من المبالغة الاقرار بأن تداعيات الحادثة التي أساءت بوضوح الى صورة تونس ومسيرة تجربة العدالة الانتقالية الناشئة فيها، قد قاربت تداعيات الهجوم الذي استهدف السفارة الامريكية، وربما تجاوزتها اذا وجدت القضية طريقها الى التعتيم والمماطلة أو القفزعلى الاحداث بدل المساءلة والمحاسبة حتى لا يسود قانون الغاب وتهيمن الفوضى. فالأمر لا يتعلق بقضية عادية من القضايا التي تملأ الصحف اليومية، بل بقضية لا تخلو من الحساسية المفرطة لاسيما وأن الأمر يتعلق بتورط عناصر أمنية في الاعتداء على الضحية التي تحولت الى مذنبة. كان يمكن أن تمرقضية مريم، الفتاة المغتصبة التي تنشد العدالة بعد أن باتت متهمة بجريمة التجاهر بالفاحشة، في صمت لولا أنها تجرأت على فضح المجرم واختارت المواجهة بكل ما يعنيه ذلك من مواقف وردود فعل اجتماعية لمن كان في وضعها، ففتحت بذلك واحدا من الملفات التي قد تفتح معها الكثير من الملفات المنسية. ومن الأكيد أن ما نشر حتى الآن بشأن أطوار وملابسات قضيتها يمكن أن يشير الى أنها قد لا تكون الضحية الوحيدة وأن اصرارها على كسر الصمت قد يدفع غيرها من الضحايا الى الكشف عن اعتداءات مماثلة تنتظر المحاسبة... وكما أن الحكم في القضاء هو ان كل متهم بريء حتى تثبت ادانته فإنه يقضي أيضا بأن لكل متهم الحق في ضمان محاكمة عادلة وهذه أبسط مقومات العدالة المتعارف عليها... فإذا كانت الشابة مريم التي تعرضت للاغتصاب بينما كانت في السيارة صحبة صديقها، مذنبة أو متهمة بخدش الحياء، فقد كان أولى أن يقول القضاء- الذي يفترض أن يعلو ولا يُعلى عليه - كلمته الأخيرة في القضية... ولهذا فإن السلطات المعنية مدعوة الى فتح تحقيق جريء وشفاف بعيدا عن كل التأثيرات والمزايدات بما يعيد لكل ذي حق حقه ويعيد خاصة الاحساس بالثقة المفقودة في العدالة الناشئة، ولتضع في الحسبان أنها لا تملك رفاهية الخيار وليس أمامها الا أن تزيل الغموض المحيط بالقضية وتجعل العدالة فوق كل الاعتبارات والحسابات...