- بداية لا مناص من التذكير بأن كل عمل بشري مهما بلغت درجة الإتقان والإحكام فيه يبقى دون درجة الكمال فيبقى محكوما بثنائية الخطا والصواب مصداقا لقوله تعالى»أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [سورة النساء: 82]. لذلك فاننا لن ننخرط في موجة التمجيد الاعمى لمسودة الدستور ولا النفي التام لقيمة الوثيقة والمعارضة العدمية لها لاغراض سياسية بحتة كما انجر لذلك عدد من المختصين الذين لو جيء لهم بكتاب منزل ما قبلوه فمسودة الدستور هي نتيجة اجتهاد نواب الشعب التونسي من الاجحاف التقليل من أهميته. وقد هممت أن أشكر اعضاء المجلس الوطني التاسيسي على ما بذلوه من جهد غير اني سرعان ما تذكرت المنحة المنتفخة التي يتمتعون بها فضلا عن إجماعهم لاول مرة على تنقيح النظام الداخلي للمجلس بما يفتح لهم الباب على مصراعيه للزيادة في المنحة دون رقيب فعدلت عن شكرهم وسأكتفي بابراز ما اراه مواطن ضعف وقصور بهذه المسودة في قراءة سريعة لمختلف فصوله بالعروج على ما يعاب عادة على النص القانوني من غموض او تكرار او تناقض وتصادم بين الفصول. من الفصول المثيرة للجدل نجد الفصل الرابع الذي ينص على أن»الدولة راعية للدين كافلة لحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية حامية للمقدسات ضامنة لحياد دور العبادة من الدعاية الحزبية.» أن تكليف الدولة برعاية الدين من شانه أن يكرس هيمنتها على المجال الديني وسيطرتها عليه بدعوى الحماية ويبرر تدخلها في المؤسسات الدينية بما قد يعيدنا الى المربع الاول اين كانت المساجد تخضع كليا للدولة. من جهة ثانية فان من يحتاج الى الرعاية عادة هو الطرف الضعيف غير القادر على القيام بشؤونه بمفرده العاجز عن الاكتفاء بذاته وخدمة نفسه بنفسه ولو نزلنا هذا الفهم على العلاقة بين الدولة والدين لكان من الاولى القول بان»الدين راع للدولة» فالدين قوي بذاته وبجموع المؤمنين وليس بحاجة اطلاقا الى رعاية الدولة له او حمايته. كما أن عبارة دور العبادة تفتقد الى الدقة فالمساجد مثلا لم تكن طيلة التاريخ الاسلامي مقتصرة على العبادات في مفهومها الضيق فطالما شكلت الجوامع فضاء لتلقي العلوم بشتى انواعها واشهار عقود القرآن لتلعب دور ثقافي واجتماعي وسياسي. أن عبارة دور العبادة تعكس نظرة لائكية ضيقة للمساجد كفضاء ينحصر دوره في اقامة فريضة الصلاة فحسب ومعزول عن محيطه وهي الصورة التي كرسها النظام السابق والحال أن الجامع كان وسيبقى فضاء منفتح على محيطه متاثرا به ومؤثرا فيه باعتباره مركز المدينة الإسلامية وقلبها النابض. اقتضى الفصل55 من مسودة الدستور انه يمكن لعشر الناخبين المسجلين على القوائم الانتخابية عرض مشروع قانون متكون من فصول على المجلس التاسيسي. ويمكن لسدس الناخبين المسجلين على القوائم الانتخابية تقديم مشروع قانون متكون من فصول والمطالبة بعرضه على الاستفتاء. ولئن يعكس هذا الفصل رغبة النواب المؤسسين في تكريس الديموقراطية المباشرة وتمكين الشعب من ممارسة سيادته بصفة مباشرة غير أن اشتراط أن يتقدم المشروع من قبل عشر الناخبين فيه مشقة بالغة والحال انه يمكن لهذا العدد أن وجد أن يمرر مشروعه بوسائل اخرى اقل صعوبة كالعمل على اقناع نواب مجلس الشعب على تقديم المشروع نيابة عنهم او الضغط بالطرق السلمية المعروفة او من خلال مكونات المجتمع الاهلي اما طريقة تقديم مشروع القانون بهذه الطريقة فلا تصلح الا في الدول التي يكون تعداد السكان بها بالالاف وليس بالملايين. ومن التناقضات الغريبة التي تضمنتها مسودة الدستور هو تعدادها لعدد من الشروط الواجب توفرها في المترشح لرئاسة الجمهورية رغم محدودية صلاحياته في حين لم يقع التنصيص على أي شرط يذكر لرئيس الحكومة الحاكم الفعلي للبلاد والمسؤول الاول عمليا في الدولة, فالمشرع التونسي ولئن خيّر أن يسند صلاحيات تسيير وادارة شؤون الدولة لرئيس الحكومة في مخالفة لدستور59 الا انه لم ياخذ بعين الاعتبار هذه المتغيرات عند تحديد شروط الترشح للمنصبين واكتفى بما جاء بالدستور الملغى ولعله سار على خطى محرروا دستور59 عند تنقيحه سنة 2002 بالتمديد لسن المترشح الى75 سنة وتمتيعه بالحصانة القضائية بعد انتهاء مباشرته لمهامه بالنسبة للافعال التي قام بها اثناء ادائه لمهامه رغم أن من بالمجلس التاسيسي اليوم كان بالامس من اشد المعارضين لتلكم التنقيحات. ويبدو أن نوابنا المحترمين قد شعروا بالذنب وتانيب الضمير جراء منحهم لصلاحيات شرفية لفخامة رئيس الجمهورية فكفروا عن ذنبهم و»وسعوا من صلاحياته» بمنحه الحق في مخاطبة مجلس الشعب ومجلس الوزراء مباشرة او ببيان يوجهه اليهما وحسن فعلت الهيئة المشتركة للتسيق والصياغة التي اوصت بحذف هذا الفصل لما يحتويه من حشو ولغو. ومن الاحكام الطريفة بمسودة الدستور تلك الواردة بالفصل85 التي تعرف مفهوم الخيانة العظمى التي يمكن أن يتهم بها رئيس الجمهورية وتحدد صورها ومن بينها «التخلي المتعمد عن المنصب الذي ينجم عنه تهديد لكيان الدولة او للسير السليم للمؤسسات العمومية وفي حال ارتكابه لهذه الجريمة أي جريمة التخلي المتعمد عن المنصب تصدر المحكمة الدستورية حكما بعزله هكذا!!! فهي بذلك كمن يحكم على ميت بالاعدام فتخيلوا مثلا أن المحكمة الدستورية قد اجتمعت بعد 14 جانفي 2011 وبعد مفاوضات مستفيضة ونقاشات عميقة تتولى حكم بعزل المخلوع. ويانف النص القانوني بطبيعته التكرار وهو يختلف بذلك عن النص الادبي لذلك يعد تكرار نفس المعنى خطا تقني قد وقع فيه المشرع صلب مسودة الدستور الامر الذي يوجب عليه تلافيه في الصياغة النهائية اذ ورد صلب الفصل66 فقرة أخيرة «وتحديد المدة الرئاسية بدورتين متتاليتين او منفصلتين لا يقبل اي تعديل دستوري ليتكرر نفس المعنى صلب الفصل 148 الذي نص على انه»لا يمكن لاي تعديل دستوري أن ينال من:...... عدد الدورات الرئاسية ومددها بالزيادة. أخيرا ضبطت مسودة الدستور للمحكمة الدستورية عددا من الصلاحيات لعل اهمها مراقبة دستورية مشاريع القوانين المعروضة عليها ولئن كان العرض وجوبيا بالنسبة لمشاريع تعديل الدستور ومشاريع القوانين الاساسية ومشاريع المصادقة على المعاهدات الدولية فانه يصبح اختياريا بالنسبة لمشاريع القوانين الاخرى واعتقادنا أن استثناء القوانين العادية من العرض على المحكمة الدستورية غير المبررة ويمكن أن يشكل تهديد للحقوق والحريات لاهميتها العددية من جهة وللمجالات التي تشملها من جهة ثانية فمن غير المعقول أن لا تراقب المحكمة الدستورية دستورية القوانين المتعلقة بتطبيق الدستور والجنسية والالتزامات والاجراءات امام مختلف اصناف المحاكم وضبط الجنايات والجنح والعقوبات المنطبقة عليها وكذلك المخالفات الجزائية اذا كانت مستوجبة لعقوبة سالبة للحرية وغيرها من القوانين التي اعتبرتها مسودة الدستور قوانين عادية. من جهة ثانية فان القول أن من صلاحية المحكمة الدستورية مراقبة دستورية مشاريع تعديل الدستور غير منطقي اذ لا يمكن أن تخضع للمراقبة الا القوانين التي تقل في قيمتها ودرجتها عن الدستور لذلك كان ينبغي حصر دورها في مراقبة مدى احترام مشاريع تعديل الدستور لمقتضيات الفصل148 أن تم الإبقاء عليه ضرورة أن فقهاء القانون الدستوري اعتبروا هذا الفصل الذي يؤبد بعض القواعد والمبادئ الدستورية ويمنع أن يطالها اي تعديل وفي ذلك مصادرة لحق الأجيال القادمة في تقرير مصيرها وضبط النمط المجتمعي الذي ينشدون العيش في ظله كما انه يكرس الجمود والتكلس بما يتناقض مع سنة من سنن الله القائمة على التغيير والتطور المستمرين. * محام